سياسة

اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه في الضفة أبعد من الرد على عمليات المقاومة

زاهي البقاعي

بيروت 22 حزيران 2023 ـ بيروت الحرية

يجهد المسؤولون الاسرائيليون على تصوير ما تشهده الضفة الغربية من عمليات قتل وتدمير وإحراق يتولاها كل من الجيش والأجهزة الأمنية والمستوطنين على أن هدفها ضبط عمليات الخلايا “الارهابية”  التي باتت تشكل خطراً على الدولة وأمنها، فيما الوقائع الراسخة، تثبت أن ما يحدث هو حلقة متقدمة في سياق عملية استيطان، زادت سُعاراً مع حكومة بنيامين نتنياهو وقادة اليمين الصهيوني المتطرف.

وعليه، تؤكد معظم التحليلات أن الاراضي الفلسطينية المحتلة ستشهد صيفاً ساخناً، ومواجهات محتدمة بين جيش الاحتلال الاسرائيلي والقوى الأمنية والمستوطنين من جهة، وأصحاب الارض الفلسطينيين الذين يدافعون بصدورهم عن تراب بلادهم وبيوتهم وكرامتهم الوطنية والانسانية.

والمؤشرات على الصيف الحار أكثر مما تعد وتحصى. ولعل آخرها ما أعلنه بنيامين نتنياهو حول بناء ألف وحدة استيطانية قرب المكان الذي نفذت فيه عملية “عليي” والتي أودت بحياة أربعة مستوطنين، هو مجرد إشارة إلى مدى جذرية مشروع اليمين الاستيطاني برموزه وقواه المعروفين، ومعظمهم باتوا أعضاء في الحكومة التي يتقاسمها اليمين المتطرف، والمستوطنون الأشد تطرفاً الذين يدعون إلى القيام بعملية كبيرة لحسم الموقف على الارض.

وقد سبق عملية “عليي” إعلان نتنياهو عن بناء 4500 وحدة سكنية في مستوطنات الضفة الغربية، قوبل بتعليقات دولية تعبر عن الامتعاض الاوروبي والاميركي، لم تصل إلى مستوى إدانة الخطوة، أو اعتماد أي إجراء يلجم هذا المنحى.  وهذا بمثابة نقلة نوعية في مستوى الصراع يعبر بأوضح الأشكال أن ليس في قاموس هذا اليمين ما يمكن وصفه بأنه حل سياسي للموضوع الفلسطيني، وبالتالي لا محل لحل الدولتين الذي تتغرغر به الإدارة الاميركية وغيرها، دون القيام بأي خطوات رادعة لإرغام دولة الاحتلال على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وبناء دولته المستقلة ووقف زحفها الاستيطاني على أرضه.

خلال الاسابيع المنصرمة ارتفعت حدة المواجهات بين قوات الاحتلال وبين مجموعات شبابية فلسطينية في مدن وقرى الضفة الغربية، بفعل احتدام التناقض بين المنحى التحرري للفلسطينيين، وبين المشروع الاستيطاني الزاحف دون هوادة على ما تبقى من أراض ومجتمع فلسطيني، وهو ما يصح بالتأكيد على كل الارض الفلسطينية التي طالها الاحتلال سواء أكانت في مدينة القدس أو مدن الضفة وحتى صحراء النقب. ما أدى اندلاع مواجهات ومقاومة باشكال متعددة، وقد بلغت ذروتها في جنين حيث استعمل جيش الاحتلال الطائرات المروحية في قصف المدينة ومخيمها، ما وجده كثيرون تعبيراً عن العقلية الأمنية التي تتعامل بها سلطة الاحتلال مع المناطق المحتلة وأهلها، حيث تتم عمليات مطاردة أشبه ما تكون بتكليف الأجهزة الأمنية والجيش تنفيذ أحكام اعدام للمقاومين، فضلاً عن تدمير البيوت واقتياد الشباب إلى السجون.

لكن الامر الأكثر إثارة في هذا المنحى العدواني هو ما باشره ألوف المستوطنين بأنفسهم من خلال شن هجمات منسقة على القرى والبلدات المجاورة لمستوطناتهم، بمشاركة أو مساندة الجيش الذي لايحرك ساكناً لمنعهم من ممارسة العمليات الانتقامية على المدنيين الفلسطينيين، والتي تشمل إلى جانب قتل المدنيين الفلسطينيين احراق وتدمير ممتلكاتهم بما فيها المنازل والسيارات والمزارع والمحال التجارية، بهدف دفعهم إلى مغادرتها والرحيل عنها، وبالتالي اطلاق حملة تهجير متجددة تذكر بما شهدته فلسطين لدى إقامة الكيان الصهيوني على أراضيها في العام 1948. ويدخل في هذا المجال سائر أشكال الحصار والحرمان والتضييق على الحياة اليومية للمواطنين الفلسطينيين واهدار حقوقهم الأولية في العيش. مع الملاحظة أن هذا التوجه يشمل الفلسطينيين داخل ما يسمى الخط الاخضر.

على أن موضوع المواجهات يجب أن يتم النظر إليه بما يتجاوز الانتقام من جانب المستوطنين،  لأن من يشرف على عملياتهم ويقودها ممثلوهم في الكنيست (12 نائباً ) ووزراء مسؤولين عن الأمن والاستيطان والمالية وغيرها من وزارات مقررة في سياسات الحكومة. ولعل خطوة تشريع حمل المستوطنين للاسلحة كانت مجرّد مقدمة ونقلة في مستوى الصراع من النظامي إلى المجتمعي.  هذا ما تؤكده هجمات التدمير والحرق المسلحة، من خلال التظاهرة التي نظمها هذا اليمين الاربعاء بعد غارة تخريبية على قرية ترمسعيا. كان سبقتها غارات مماثلة على قرى منطقة نابلس وجنين وغيرهما.  كما طالت اعتداءات المستوطنين شريط القرى والبلدات بين رام الله ونابلس التي تجثم على أراضيها المصادرة المستوطنات وهي: بيتين وترمسعيا وزعترة وحوارة واللبن الشرقية واللبن الغربية والساوية وياسوف ودوما ودير شرف و…. ما أدى في المحصلة إلى سقوط المئات من الجرحى والشهداء وخسائر وأضرار مادية فادحة. ويهدف المستوطنون برعاية رسمية وكل من الوزيرين بن غفير وسموترتش وسائر مكونات الحكومة إلى فرض السكينة والقبول بالأمر الواقع الاحتلالي على الفلسطينيين، الذين يشهدون بأم أعينهم الاستيلاء على أراضيهم بالقوة العارية وزرع المستوطنات عليها، ومحاصرتهم ونصب الحواجز على مداخلها لتقييد حركتهم اليومية. وهنا يجب أن ندرك أن معظم المستوطنين في الضفة ينتمون إلى الجماعات الحريدية المتطرفة، وباتوا يتلقون تسهيلات أكبر من جانب الحكومة ككل. وهي تسهيلات مالية وسياسية وأمنية.

وقد عمد هؤلاء دوما إلى شحن الحركة الاستيطانية بمقومات إضافية في محاولة منهم لإقامة مجتمعات منفصلة عن سائر مكونات المجتمع الاسرائيلي، تضمن ممارستهم أنماط حياتهم الدينية والاجتماعية الخاصة دون الحاجة إلى الاحتكاك بالعلمانييين، الذين ينظرون إليهم كفئات تخلت عن المشروع الصهيوني الاصلي الذي قامت من أجله دولة اسرائيل. والثابت أن  الذين ضاقوا ذرعاً منهم بما تبقى من علمانية الدولة ومدنية القضاء والحياة اليومية، يشكلون القوة الدافعة لمحاولات مس استقلالية القضاء وإخضاعه للسلطة السياسية، مع كل الاعتبارات المعروفة التي جعلت من نتنياهو رأس الحربة. وهو  المتهم من القضاء بأربع تهم فساد واستغلال نفوذ وتلقي رشاوى. ما أدى إلى انشطار المجتمع الاسرائيلي، وانطلاق تظاهرات صاخبة في معظم المدن تعبيراً عن رفض مثل هذه الاتجاهات الدينية اليمينية المتطرفة، التي يرى العلمانيون يميناً ووسطاً ويساراً من جهتهم أنها تقوض المؤسسات الديمقراطية وسائر الأسس التي قام عليها الكيان الاسرائيلي.

ويسعى اتباع التيار الديني الحريدي من خلال تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية إلى إحداث تحول ديمغرافي فيها باعتبارها مركز مملكة يهودا التوراتية. و هو توجه يحظى برعاية الحكومة عبر تقديم التسهيلات اللازمة، وافتتاح المزيد من المستوطنات الحريدية سواء شمال الضفة أو شرقها. ويتولى وزير الاسكان الحاخام غولدكناف توفير المزيد من الحوافز لأتباع التيار الذي ينتمي إليه للحصول على شقق سكنية داخل مستوطنات الضفة. والهدف المعلن للحملة التي أطلقها اليمين بمكوناته المختلفة لجهة الاستيطان في الضفة يصب في المحصلة بالعمل على  جلب نصف مليون مستوطن جديد، وبالتالي المساهمة في حسم مسألة احتمال تحول اسرائيل إلى دولة ثنائية القومية مستقبلاً، ولعلاج مشكلة السكن التي يعانيها الفقراء نتيجة ارتفاع أثمان الشقق في سائر المدن، بينما سعر الشقة في مستوطنات الضفة هو نصف ما هو عليه في باقي المناطق والمدن.

وفي هذا السياق ذكرت صحيفة “هآرتس” أن وزير المالية الإسرائيلي بتسلال سموتريتش أصدر تعليماته لجميع الوزارات والمؤسسات الحكومية بتوفير كل الإمكانات اللازمة لتمكين المستوطنات من استيعاب نصف المليون هذا.

الواضح من المواقف الدولية والعربية حول الموجة المتجددة من المشروع الاستيطاني أن الموضوع الفلسطيني ليس في جدول أولويات أي من هذه الدول والتكتلات المنشغلة بقضايا أخرى. أما اميركا ورغم التصريحات الجوفاء، فإن اولوياتها العمل على تكريس التطبيع العربي الاسرائيلي، بدليل التشديد الاميركي على اتفاقات ابراهام وضرورة توسيع اطارها نحو ضم المزيد من الدول العربية.

ففي خطابه أمام المؤتمر السنوي لمنظمة “أيباك” (اللوبي الإسرائيلي) في واشنطن، وعد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بـ”إنشاء مكتب خاص في وزارة الخارجية لتعزيز دبلوماسيتنا ومشاركتنا مع الحكومات والقطاع الخاص للعمل نحو الاستقرار وإحراز تقدم تاريخي في اتفاقيات أبراهام”.  ومن جهته، صوت مجلس النواب الأميركي، الأسبوع الماضي، بأكثرية 413 مقابل 13، على مشروع قرار “لتعيين مبعوث خاص لاتفاقيات أبراهام” يختاره الرئيس ويوافق عليه مجلس الشيوخ، تكون مهمته “توسيع التكامل في المنطقة وإعطائه الأولوية”. بما يعبر عن العمل على تعميم هذه الاتفاقيات وتوسيع نطاقها ومأسستها، عبر استحضارها في المباحثات التي يعقدها المسؤولون الاميركيون مع دول المنطقة ولاسيما المملكة العربية السعودية. وهو ما يتناغم مع التوجه الاسرائيلي الذي يعمل على حصار الفلسطينيين بأحزمة عربية تطمح من خلاله إلى فرض السلام الاسرائيلي عليهم، والقبول بما تعرضه عليهم دولة الاحتلال، والذي لا يتعدى ما سبق وطرح عليهم في مراحل سابقة.

بالطبع لا يمكن لمثل هذه الحملة العاتية وحالة الحصار أن تواجه بما هو عليه الوضع الفلسطيني من انقسام بين الضفة والقطاع وفتح وحماس، ومراهنة البعض على هذه الدولة وتلك التي تملك أجنداتها الخاصة، بل أن ما يمكن ويجب المراهنة عليه هو إعادة الاعتبار لدور ومسؤولية منظمة التحرير الفلسطينية  والتمسك بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل والموحد والوقوف وراء صمود أبناء الشعب الفلسطيني في مواجهة هذا الطور الخطير من المشروع الصهيوني الاستيطاني الذي يجعل من المستحيل وجود شعبين على ارض واحدة. أحدهما يتولى وظيفة السيد الحاكم، والآخر مهمة العبد المحكوم.

Leave a Comment