سياسة

اللبنانيون وجهاً لوجه امام المجهول

  كتب زكــي طــه

ممّا لا شك فيه، أن كهوف الانغلاق لدى قوى السلطة الناجم عن احتدام مشاريع الهيمنة الفئوية، كانت كفيله بالاطاحة بوساطة بطريرك الموارنة لتشكيل الحكومة، وتبديد صدى نداءاته ومناشداته ودفعه لإعلان اليأس منها. كما وأن دهاليز المصالح الدولية والاقليمية المتصارعة في المنطقة وعليها، عبر التلاعب والعبث بكياناتها ومجتمعاتها، بما فيها لبنان، والدفع بها جميعاً نحو أوضاع كارثية، قادرة بدورها أيضاً على ابتلاع مبادرة البطريرك بشأن الدعوة لمؤتمر دولي “لضمان وحدة لبنان ونظام الحياد ومنع التعدي عليه ووضع حد لتعددية السلاح”، واحتواء دعوة بابا  روما  “لتجديد الالتزام السياسي الوطني والدولي من أجل تعزيز استقرار لبنان، الذي يمر بأزمة داخلية وضرورة المحافظة على هويته الفريدة، بالإضافة إلى ضمان شرق اوسط متعدد ومتسامح ومتنوع”. وذلك جواباً على رفض قادته وزعمائه تحمّل مسؤولياتهم، والتصدي لمعالجة ما تسببوا به من أزمات هي نتاج خياراتهم ورهاناتهم القائمة على الانقسام والارتهان للخارج.

وامام انسداد الأفق وانغلاق قادة قوى السلطة على تغيير أدائهم، فإن التعطيل لم يزل سيد الموقف، وسط تجاهل تام للدعوات الدولية المتكررة لهم بتحمّل مسؤولياتهم، والاستخفاف بشروط الدعم للبنان ونتائج الحصار والعقوبات. ولذلك يستمر تعامي أطراف الحكم عما يجري في البلد، لناحية مضاعفات الانهيار المالي والاقتصادي المريع، وانفجار المرفأ ونتائجهما الكارثية على كل المستويات، إلى جانب الادارة السيئة لأزمة انتشار وباء كورونا ومخاطر انهيار القطاع الصحي، والإكتفاء بسياسة الاغلاق العام للبلاد، بينما يفتقد اللبنانيون ضمانات تأمين اللقاح لهم ومعهم للمقيمين في البلد.

وفي موازاة التعطيل وتقاذف المسؤولية وتبادل تهم العمالة  للخارج، وإحالة أزمات بلدهم على المؤامرات المتخيلة، للتغطية على مشاريعهم الفئوية ومغامراتهم الانتحارية. فإنهم ومعهم غالبية اللبنانيين باتوا ينتظرون من يتولى المسؤولية عنهم  لصياغة التسويات، وانتاج الحلول لمشكلاتهم المزمنة وأوضاعهم الكارثية. ولأنهم مرضى وهم الاعتقاد، أنهم وبلدهم يحتلون أولويّة في جدول الاهتمامات الدولية، فقد علقوا آمال الحلول على شماعة نتائج الانتخابات الاميركية. وقد غاب عنهم أن توجهات الادارة الجديدة، لن تتضح معالمها حيال المنطقة بما فيها لبنان قبل عدة أشهر.

ومع استمرار فترة السماح إلى حين بلورة الخطة الاميركية حيال المنطقة، ولأن وضع لبنان بات مرتبطاً بأزماتها من بوابة الصراع الاميركي-  الايراني وامتدادته، وبصرف النظر عن مفاعيل البيان الفرنسي ـ الاميركي حول الملف اللبناني وما ينطوي عليه من غموض الموقف الاميركي بشأن ملفات الأزمة اللبنانية. تستمر المحاولات الفرنسية لإنجاز تسوية تراعي الدور الايراني في لبنان وموقع حزب الله فيه، على أمل تشكيل حكومة بأي ثمن، ما يفسح المجال للتعامل معها وفق صيغة حكومة الامر الواقع. غير أن كل الوقائع الدالة بين أميركا وطهران ومعهما الرياض، لا تشي أبداً أن تحقيق ذلك يقع في المدى المنظور. 

   وعليه وأمام تصاعد حدة السجالات بين أهل السلطة ودخول رئاسة المجلس النيابي طرفاً فيها، بما يتجاوز تشكيل الحكومة وتفسير الدستور، ليتصل بتوازنات الحكم والنظام ومواقع مختلف أطراف السلطة خلال ما تبقى من العهد الحالي وما سيليه. فإن المرجح استطالة الازمة ورفع مستوى التعقيدات والمضاعفات السلبية، ما يدفع البلد نحو مزيد من التأزم، ويقرّبه من الفوضى الشاملة بكل ما تنطوي عليها من مخاطر اقتصادية واجتماعية وأمنية. والأدلة على ذلك مستمدة من الوقائع السائدة والمتعلقة بالمستوى الذي بلغته مرحلة انهيار الدولة. علماً أن ما جرى في طرابلس في امتداد الاحتجاجات المشروعة من فوضى وحرق مرافق عامة، استغلتها قوى السلطة لممارسة القمع وأرهاب المحتجين بما يتوافق مع مآربها. وإذا اضيف لها خطف وتصفية الناشط لقمان سليم في الجنوب، وما تشهده سائر المناطق من أعمال سلب وخطف، فإنها بمجملها تشكل صورة عما ينتظر لبنان في ظل الأزمة العامة وزيادة الضغوط الاجتماعية والاندفاع نحو المجهول.

 ورغم ذلك لا تزال دعوات الخارج وشروطه  لتقديم الدعم، تصطدم بأداء قوى السلطة المقفلة على أية تسويات. حيث ومع احتدام أزمة تشكيل الحكومة، يزداد تصلب رئيس الجمهورية وتياره لناحية شروطه حول شكل الحكومة، وتسمية الوزراء وعددهم باعتبارها ضمانات لدور التيار ورئيسه. في ما يسعى الرئيس المكلف لتعزيز موقعه عبر جولات خارجية هي بدل عن ضائع، لأن مردودها لا يتجاوز تكرار اعلانات الاستعداد لدعم لبنان، وتجديد مطالبة اللبنانيين بتحمل مسؤولياتهم لمعالجة أزماتهم والاستجابة لما يطلب منهم. ورغم دخول رئاسة المجلس النيابي حلبة السجال المحتدم حول أزمة تشكيل الحكومة إلى جانب سائر الاطراف، يستمر حزب الله في إدارة الظهر لها.

في هذا الوقت، وفي ضوء التصدي بالصواريخ لطائرات الاستطلاع الاسرائيلية واسقاط احداها، ورغم تقليل الناطق باسم جيش العدو من اهمية الحدث، في موازاة دأب قادة اركانه على اطلاق التهديدات بحرب مدمرة، يحضر السؤال: هل الوضع الذي ساد طويلاً على الحدود الجنوبية واستباحة طيران العدو للأجواء اللبنانية مرشح للتبدّل. وهل سيكون الوضع امام مرحلة من التوتر المسيطر عليها وفق معادلة “فعل ورد فعل”، مما يسمح بالربط والموازنة بين احتدام أزمات  الداخل المتعددة المستويات وخطر الاعتداءات الاسرائيلية، وإبقاء البلد على حافة حرب مدمرة، لتبرير شروط الحزب حيال صيغة ومهام الحكومة وموقع لبنان، وتعويض العجز عن الرد على الغارات الاسرائيلية على سوريا التي تستهدف المواقع الايرانية والميليشيات الحليفة لها. علما أن هكذا وضع يشكل ورقة ثمينة لرئيس وزراء العدو نتنياهو في الانتخابات القادمة الشهر المقبل. 

   وإذا كان هذا الوضع يبرر للبعض وتعبيراً عن اليأس، المطالبة بمؤتمر دولي لإنقاذ البلد، كما يقترح البطريرك الراعي بدعم من الفاتيكان، ورفع الصوت لاستجداء مزيد من الضغط على نخبته ‏الحاكمة، التي تتهرب من تحمّل مسؤولياتها الوطنية، والمطالبة بمزيد من المساعدات الإنسانية للسكان اليائسين، لتخفيف معاناتهم والحد من تدهور أوضاعهم وردودهم على بؤس أحوالهم. فإن هذه الرهانات تضاف إلى من يراهنون على الدور الاميركي. وهذه جميعها تدخل في باب إحالة مسؤولية خلاص البلد من أزماته على الخارج، مما يشكل إمعاناً في الهروب وادمان منوعات الوهم. أما إنقاذ لبنان فإنه يقع على عاتق اللبنانيين باعتباره بلدهم أولاً وأساساَ. 

Leave a Comment