سياسة مجتمع

اللبنانيون صنعوا أملاً يتوجب عليهم حمايته وتطويره

زكـي طـه

في يوم الانتخاب جدَّد اللبنانيون انتفاضتهم المجيدة في مواجهة قوى السلطة وأحزابها. أقترعوا لحريتهم وصنعوا من الضعف قوة، واسقطوا رموزاً عاثت بالبلد فساداً وخراباً على مدى عقود متلاحقة. أكدوا بما لا يدع مجالاً للشك أنهم شعب لا يموت مهما اشتدت عليه الصعاب وتضاعفت التحديات. وأن وطنيتهم عصية على احتلال العدو ووصايات “الشقيق والصديق”، وأقوى من كل منوعات واسلحة الاستقواء بانظمة الاستبداد أو السفارات والسفراء. وأن من قاوم الاحتلال أو اعترض على الوصاية بلحمه العاري، قادر على مواجهة  تسلط وقمع وارهاب وفساد الطبقة السياسية. وأن إرادة العيش بحرية وكرامة انسانية ووطنية هي الأقوى.

في يوم الانتخاب فتح اللبنانيون كوة  في جدارن النظام ومنظومة الحكم ومعبراً للخروج من الجحيم الذي دُفعوا إليه. رسموا أفقاً للإنقاذ، وكتبوا صفحة جديدة ومجيدة في تاريخ الوطن وشاركهم فيها اللبنانيون في دنيا الاغتراب والهجرة الذي كان لهم حصة وازنة ومقررة. صفحة امتدت على مساحة الوطن من أقصى الجنوب المقاوم رغم القمع والاهمال والحرمان، إلى عاصمته صيدا العصية على المصادرة والتهميش، مروراً بالجبل ودوائره المتعددة التي يحاصرها التنافس على السلطة، وسط الانقسامات الموروثة والمقيمة على تخوم الصراعات الأهلية المتجددة، والممتدة شمالاً، لتبلغ بلاد عكار العتيقة حيث الفقر المستدام، في ما طرابلس عاصمة الوطن الثانية اصبحت مستودعاً بشرياً للبطالة ومرفأ للهجرة والموت هرباً منه. إلى البقاع المنسي والمتروك وسط الاهمال والخراب والفوضى الأهلية، وصولاً إلى بيروت المستباحة بالتعصب والكيدية والقهر، انتقاماً من تاريخها العريق ميداناً للنضال الشعبي والديمقراطي وعاصمة للثقافة والتحرر الوطني والقومي.

انتهت الانتخابات وتجدد سؤال ما العمل؟. كثيرة هي مستويات القراءة ودلالات النتائج التي انتهت إليها. بعضها يتعلق بأداء  قوى السلطة، وما حصدته من انتصارات الحد الأدنى، وخسائر لم تكن تتوقع أن تتعرض لها. لكن الأهم كيف تفاعل اللبنانيون مع الاستحقاق النيابي، وصيغ التعبير، سواء عن خيباتهم أو عن حقوقهم ومصالحهم. وكم نجحوا في التغلب على الصعوبات وحواجز السلطة، أو في تعطيل أسلحة المال والتضليل والتعمية والشحن المذهبي والطائفي. وكم ساهمت الانتخابات في تجديد الحياة السياسية في البلاد، وحدود الثغرة التي فُتحت في جدران النظام، ومفاعيل الاطاحة ببعض الرموز والأدوات الموروثة من عهد الوصاية السورية. انتهاءً بما يواجههم راهناً ومستقبلاً من تحديات ومتاعب لا تعد ولا تحصى، في ضوء مفاعيل الانهيار الشامل، والقدرة على تجديد الأمل بإمكانية الانقاذ من المصير المحتوم.

صحيح أن كثيرين منهم استنكفوا عن ممارسة حق الاقتراع تعبيراً عن يأسهم وعقاباً لمن هم في مواقع السلطة المسؤولة عن الانهيار، أو احتجاجاً على تشرذم المعارضة وضيق أفق بعضها أو خفته القاتلة، ما أدى إلى انخفاض نسبة الاقتراع على نحو يطعن بشرعية من فاز في أكثر من دائرة. والصحيح أيضاً أن غالبية  المشاركين في الانتخابات ورغم أوضاعهم المزرية، استجاب قسم منهم لخطاب التحريض الطائفي والتجيش المذهبي، واقترعوا لقوى السلطة وساهموا في تجديد شرعيتها.

لكن الأصح أن قسماً كبيراً منهم قرروا خوض الانتخابات. تحدوا قوى التسلط والمحاصصة وتقاسم المغانم، وتجاهلوا التخوين ورفضوا الخضوع والاذلال. ولذلك كسروا حواجز الخوف من أسلحة أحزاب الطوائف الميليشياوية، وذهبوا إلى صناديق الاقتراع وأذلوا تحالف السلطة والمال، ونجحوا في اختراق حصون الانغلاق الطائفي واسوار التخلف والتعصب. واسقطوا رموزاً عاتية، وأعادوا صياغة المشهد في أكثر من دائرة انتخابية.

لقد أكدت الانتخابات أن إرادة اللبنانيين وقدرتهم على التغيير واستعدادهم للنضال في سبيل قضاياهم، في جميع المناطق أمر لا جدال فيه. وأن إمكانية خوض معارك مواجهة وتحقيق نجاحات وازنة، عبر تنظيم صفوف قوى المعارضة وتوحيد قواها  حول برنامج وخطاب مقنعين هي حقائق غير قابلة للنقض. وحيث توافر الحد الأدنى أثبتت نتائج الانتخابات أن احتكار تمثيل اللبنانيين ومصادرة حريتهم في التعبير عن أرائهم أو الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم بات مستحيلاً، وأن  لوائح السلطة المحصنة بكل أنواع الاسلحة والشعارات وذرائع اسقاط المؤمرات وأوهام الخطر الوجودي، ورغم كل  مساوىء قانون الانتخابات وتعقيداته، تبقى قابلة للخرق.

كثيرة هي التحديات الراهنة والقادمة. وكثيرة أيضاً هي المهام التي تواجه قوى المعارضة بكل تشكيلاتها، بدءاً من تقييم أدائها وترصيد حساباتها بعيداً عن التضخيم والعدمية في آن، إلى المبادرة لاطلاق اوسع حوار حول قضايا وشروط المواجهة مع منظومة تعرف جيداً كيف تدافع عن نظامها وشبكات نهبها لتعب اللبنانيين، ومنافع مصالحها، كما تعرف مصادر قوتها. عدا أنها تتقن ممارسة التلاعب واستغلال مواقعها في السلطة عبر انتاج الأزمات والاستثمار فيها وليس من خلال التصدي لها، أو معالجتها. خاصة  في ظل  تصاعد حدة التطرف الطائفي واحتدام طروحات المواجة بين مكونات قواها السياسية. إن التصدي لساسيات تلك القوى وممارساتها المستهينة بمصالح الوطن وحقوق مواطنيه، تستدعي تحشيد  كل القوى وتشكيل أوسع اطار ديمقراطي تعددي قادر على استحضار مصالح كل الفئات المتضررة،  لاشراكها في معارك الدفاع عن حقوقها، واعلاء راية الانقاذ من الانهيار القاتل. أما الاكتفاء بما حقتته الانتخابات من نجاحات فإنه اقصر الطرق لتبديدها. ولذلك فإن النواب المستقلين من دعاة التغييرالديمقراطي الجدد منهم، أو الذين اُعيد انتخابهم مدعوون جميعاً إلى تجاوز فئوياتهم وما شاب ماضيهم القريب والبعيد من اخطاء، وإلى تحمل مسؤولياتهم والإرتقاء إلى مستوى آمال اللبنانيين الذين انتخبوهم، والسعي إلى اعتماد اوسع أشكال التنسيق والعمل المشترك في سبيل القيام بالمهمة التي انتدبهم إليها اللبنانيون في انقاذ الوطن من الجحيم الذي يرزح تحت وطـأته.

Leave a Comment