سياسة

اللبنانيون بين الإرتهان للطوائف وأوهام الحياد

كتب زكـي طـه

  لم تأت من الفراغ دعوات الحياد والمطالبة بمؤتمر دولي، كما وأن رفضها وإدانتها ليس بالأمر الغريب أو المفاجىء. وكلا الأمرين لم يصدرا يوماً إلا عن مواقع طائفية وفئوية. وكلاهما يقعان في سياق أزمة الكيان المستعصية وانعكاساً لها، ومعها كل التحديات التي تواجه اللبنانيين في أن يكون لهم وطن. وهي الأزمة المتأتية من اختلال توازنات صيغة نظام الحكم، والصراع الدائم بين اطراف السلطة ومرجعياتها حول الصلاحيات الدستورية، وبذرائع حقوق الطوائف وحماية مصالحها الفئوية، ما يساهم  ليس في استمرار الانقسامات الأهلية، بل في إعادة تزخيم جهوزيتها للتعامل مع شتى الاحتمالات. وهذا ما يُبقي تلك الاطراف – الطوائف، خاصة المسماة “كبرى” في حالة استنفار دائم، سعياً منها لإعادة النظر في صيغة توزع السلطة في ما بينها. وهي الأطراف عينها التي يسعى كل منها  ليتصدر الموقع المتقدم في معادلة الغالب والمغلوب، تطلباً لغلبة طائفته على الطوائف الأخرى بصرف النظر عن الالتباسات الوطنية التي يحاول كل منها أن يتمثلها. أما اختلال توازنات الصيغة فلا يمكن تحديد طبيعته أو حصر أسبابه بالاستناد إلى عوامل ومصادر القوة الداخلية لأطراف الداخل المتصارعة فقط، لأن الامر يشمل أيضاً مفاعيل عوامل الاتصال والانفصال بين قوى الداخل وأطراف الخارج الاقليمي والدولي في آن.

    علماً أن تاريخ البلد حافل بالمسارات المتشابهة التي أختل فيها التوازن واحتدمت خلالها أزمة الكيان والصيغة معا، ما دفع ببعض الاطراف للاستقواء بخارج ما، ليرد الطرف المغلوب باطلاق الرهان على خارج آخر وطلب الدعم منه، واطلاق دعوات الحياد  بانتظار مؤتمر ينعقد حول تسوية تضمن مصالحه ومعه مصالح من يواليه. هكذا جرت الامور في عهدي الإمارة والمتصرفية، لتستمر لاحقاً بعد تأسيس الكيان في صيغته الحالية سواء خلال الانتداب أو بعد الاستقلال. ما يعني أن اللبنانيين كانوا ولم يزالوا أسرى تناسل مشاريع الهيمنة والمغامرات الانتحارية وتعدد مواسم الاختناق والدمار، وانفجار الصيغة مع كل اختلال في التوازنات أو تبدل الأحوال والمعطيات بين  قوى الداخل أو الخارج.

وفي الحالة اللبنانية الراهنة، لا شك أن الاختلال مصدره اتفاق الطائف الذي بُني على نتائج الحرب الأهلية المدمرة وكل ما راكمته صيغة 1943، التي وإن تكن قد أرست غلبة مارونية، إلا أن التباساتها اتاحت مستويات مهمة من تجاوز الطائفية، أنتجت مجتمعاً مشتركا بلغ حداً من الاتساع، أنه سمح بطرح قضية الاصلاح الشامل للنظام. ولأن دستور الطائف شكل خطوتين للوراء عن تلك الصيغة، فقد أدى إلى تضخم الدور السياسي للكتلة الطائفية الغالبة، بقوة رجحان وزنها العسكري، في مقابل تراجع الدور السياسي للكتلة المغلوبة جراء ضمور وزنها التاريخي ضمن القوى المسلحة وتعطيل واحتراب ميليشياتها، بالتوازي مع تآكل موقعها المتقدم والموروث على صعيد موارد البلد الاقتصادية الاجتماعية والمدنية والثقافية. والمعادلة هذه لم تتكرّس إلا بقوة  تصاعد الخلل على كل المستويات في توازنات الحكم التي أرساها اتفاق الطائف في ظل الوصاية السورية، وفي ضوء المتبدل في طبيعة قوى السلطة الميليشياوية، واستباحتها لمواقع الدولة ومؤسساتها والامعان في إهدار موارد الاقتصاد والخزينة، في سبيل شراء ولاء فئات اجتماعية لتزخيم الصراع على السلطة باسم حقوق الطوائف. 

   وما الوضع الراهن من الانهيار المتمادي على صعيدي الاقتصاد والمال، والاضطراب السياسي والأمني الذي يأسر اللبنانيين، على رافعة الانقسام الأهلي، إلا نتاج مضاعفات ومفاعيل الصراع حول معادلات الغلبة الطائفية – الفئوية، وسعي الاطراف “المنتصرة”  إلى تكريسها، وتنكب”المهزومة” محاولات الانقلاب عليها وتعديلها. وهذا ما يُبقي الابواب مشرّعة ليس على مزيد من التأزم فحسب، إنما على تصعيد الصراع تطلباً للخروج من المأزق، حيث المغلوب واليائس يدعو للحياد والمطالبة بمؤتمر دولي  في مواجهة الغالب. ولا يقتصر التأزم على احتدام السجال الذي تستحضر فيه تهم الخيانة والعمالة، بل يتعداه إلى تحشيد القوى وتسعير الانقسامات الأهلية بالتزامن مع التحريض الطائفي والمذهبي.

   وكما أن الحياد لا يقرره الخارج بمعزل عن الداخل، فإن المؤتمرات الدولية لا تنعقد بناءً لمطالبات فئوية، بل وفق مصالح منظميها أولاً، لأن النتائج تطال مصالح الاطراف كافة. هذا ما تشهد عليه نتائج المؤتمرات الدولية التي لا تحصى. وقد انتهت جميعها إلى تسويات طائفية لصيغة النظام وتوازناته تنفذ برعاية الخارج وضماناته. علماً أن تلك التسويات لم تشكل إلا مخارج مؤقتة للأزمات التي عجزت قوى الداخل عن التوافق على معالجتها في ما بينها. عدا أنها أيضاً لم ولن ترتقِ إلى مستوى الحلول، لأنها تستند إلى معادلة الاستقواء بالخارج وتطلب الحلول منه وعبره في آن. وهي المعادلة التي تشكل الوجه الآخر لهروب اللبنانيين من تحمّل قسطهم من المسؤولية عن أزماتهم، بما فيها الراهنة التي تتمثل بالحصار الخانق والانهيار الشامل والعجز شبه المطلق لمؤسسات الدولة والحكم عن إدارة شؤون البلد وتشكيل حكومة انقاذ بالحد الدنى. وهذا ما يرشّح البلد للاقامة المديدة في معمعان الانهيار والفوضى الأهلية المديدة بكل مآسيها ومخاطرها.

    وما يزيد من خطورة الوضع، أن الأزمات المستعصية الناجمة عن سياسيات اطراف السلطة ورهاناتها وممارساتها كافة، انتجت الهيمنة الشاملة وشبه المطلقة للمجتمع الأهلي الطائفي على الوطني والمدني، واقفال طريق التطور وتقدم المجتمع، من خلال إقامة جدار سميك امام  تجديد مسار التحديث الديمقراطي المطلوب. خاصة أنها أوغلت في تفكيك قوى الحداثة الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية وشرذمتها وإفناء أية فعالية لأطرها المجوفة. ما ساهم في تحويل شعار”بناء دولة القانون والمؤسسات” وهماً ومادة للتضليل والتعمية، ووضع الاصلاح ومكافحة الفساد في خانة المستحيلات.

     أما ما تبقى من تلك القوى وما استجد من تشكيلات في سياق انتفاضة 17 تشرين، فلا تزال بغالبيتها أسيرة الشرذمة والعجز عن الخروج من قيود الانقسام الاهلي واصطفافاته. وأمام خلو الساحة من محاولات تحشيد الفئات المتضررة دفاعاً عن حقوقها في إطار السعي لبناء واعادة تأسيس حركة اعتراض ديمقراطي مستقلة. فإنه ليس بالامر المستغرب أو المفاجيء أن تتكرر وتسود شعارات الحياد والمؤتمرات الدولية للانقاذ، في مواجهة الاصرار على ربط البلد بأزمات بلدان الجوار وصراع المحاور الاقليمية والدولية في المنطقة، وإبقاء اللبنانيين وقوداً لمشاريع الهيمنات الطائفية والفئوية والمغامرات الانتحارية وسوقهم إلى مصير مجهول.

Leave a Comment