اقتصاد

اللبنانيون أمام وقائع انهيار اقتصادهم القاهرة

في بلد يعتمد اقتصاده على الدولرة بنسبة كبيرة، وهو ما قاد إلى تعميق الأزمة الراهنة على صعيد فقدان الدولار من الأسواق وتكريس سعرين له، أحدهما السعر الرسمي. وثانيهما سعر السوق المتصاعد يومياً، مع التخوف في ضوء تجربة ما قبل العام 1992 من بلوغه معدلات قياسية، مع كل ما يترتب على ذلك من ارتفاع شامل في الأسعار،

لا يغيَّر تراجع الهيئات الاقتصادية عن تنفيذ إضراب الثلاثة أيام من حقيقة وصول البلاد إلى مرحلة نوعية من التأزم والانهيار الاقتصادي الحاد في البلاد، إذ إن العادة السنوية أن الشهر الحالي هو شهر التسوق وارتفاع مستوى الطلب. الآن الوضع مختلف ومن يتجول في الأسواق يلحظ اتساع ظاهرة الإقفال النهائي، وشيوع ظاهرة الافلاسات في هذا القطاع كما في سواه. يكفي مثالاً على ذلك ما آل إليه وضع قطاع الأكل والشرب الذي أقفلت 200 من مؤسساته، وعلى الطريق نهاية هذا الشهر 265 أخرى، ما يعني أنه في غضون الأشهر الثلاثة هناك ما لايقل عن 465 مؤسسة خرجت من العمل على نحو نهائي. المصانع ليست أفضل حالاً، إذ مجرد نفاذ المخزون من المواد المستوردة ستتوقف المصانع الباقية في العمل، علماً أن معظمها قلص من قدراته الإنتاجية إلى 10% في بعض الحالات. القطاعات الباقية في أوضاع مشابهة إن لم تكن أسوأ كالزراعة والفنادق ودور اللهو وغيرها.
والصرخة التي ترتفع تشمل كل المرافق دون استثناء، تعبر عن حجم الكارثة التي يندفع إليها الاقتصاد اللبناني، وهي كارثة لا تتعلق أو تقتصر على الأربعين يوماً من عمر الانتفاضة، وما شهدته البلاد من قطع للطرقات وتظاهرات وغيرها، وما تخللها من خسارة انتاج فائت. إذ الواقع أن لبنان ومنذ أن عمد مصرف لبنان في العام 2016 إلى الشروع في ما وصفه بالهندسات المالية تسارعت خطوات اقتصاده نحو الانهيار. وهو انهيار ارتد إيجاباً على أرباب القطاع المصرفي دون سواهم من القطاعات عبر تحصيل عدة مليارات من الدولارات، التي جرى في ظل انسداد الأفق السياسي خروجها عن لبنان سريعاً، في بلد يعتمد اقتصاده على الدولرة بنسبة كبيرة، وهو ما قاد إلى تعميق الأزمة الراهنة على صعيد فقدان الدولار من الأسواق وتكريس سعرين له، أحدهما السعر الرسمي. وثانيهما سعر السوق المتصاعد يومياً، مع التخوف في ضوء تجربة ما قبل العام 1992 من بلوغه معدلات قياسية، مع كل ما يترتب على ذلك من ارتفاع شامل في الأسعار، وضمنها طبعاً أسعار السلع والمواد التموينية، والتي ارتفعت بناءً على بعض التقديرات إلى ما يقارب ال 40 % بالنسبة للعديد من السلع الأساسية. لكن التعبير الأجلى عن حدة الأزمة هو ما تتركه من بصمات على أوضاع الموظفين وذوي الأجور المحدودة الذين فقدوا قرابة 40% من قدرة مداخيلهم الشرائية. أما الفئات الفقيرة التي تخسر يومياً جزءاً من دخلها، ما رفع نسبة من هم تحت خط الفقر من 33% إلى 50%. ويعيش القطاع المصرفي حالاً من الفوضى، إذ لم تنفع التدابير التي لجأت إليها جمعية المصارف بالاتفاق مع المصرف المركزي، في لجم الاندفاعة نحو سحب الودائع ما يعبر عن فقدان ثقة مزدوجة بالإدارة السياسية والمالية للبلاد معاً، إذ على الرعم من التحذيرات المسبقة والمتلاحقة من مؤسسات التصنيف الدولية والخبراء من خطورة الوضع، لم يتغير شيء لا في الأداء السياسي ولا الاقتصادي. خصوصاً أن القيود التي فرضتها المصارف على حركة التحويلات إلى الخارج، يبدو أنها طالت فقط الزبائن “غير المميزين”، أما “المميزون” فقد نجحوا حتى في فترات اقفال المصارف في تحويل المليارات من الدولارات إلى حساباتهم في الخارج. المستوردون والصناعيون والتجار الذين لا يملكون “مونة ” على أرباب القطاع، سقطوا في فخ سذاجة ثقتهم به، ورفعوا الصوت عالياً، باعتبار أنهم بحاجة إلى أموالهم المودعة لدفع المتوجبات عليهم للخارج، ما أدى إلى توقفهم عن العمل وصرف عمالهم بالكامل، أو اعطائهم 50% أو أقل من أجورهم. ما يعني تعمق مسار الأزمة وتوسع قاعدتها من خلال وقوع فئات إضافية في شراكها. أكثر من ذلك وضعت المصارف سقفاً أسبوعياً للسحوبات من الحسابات الجارية بالدولار، لا يتعدى الألف دولار لذوي الحسابات الصغيرة إلا انها لم تلتزم به وخفضته عملياً إلى اقل من النصف، بينما قدمت إغراءات للذين استحقت ودائعهم قضى برفع الفائدة عليها إلى حوالي 15%.
السؤال الذي يقض مضاجع اللبنانيين هذه الأيام على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم الاجتماعية هو التالي: من هنا وإلى أين؟ بالطبع الجواب على سؤال من هذا النوع يرتبط ليس فقط بالموقع الكارثي الذي استقر فيه الاقتصاد اللبناني بمجمل قطاعاته، بل بالإدارة السياسية أساساً وبالأصل. إن الخروج من المأزق يتطلب إدارة سياسية كفوءة تنفذ اجراءات قاسية تطال في المقام الأول الفئات التي أتخمتها الأموال التي راكمتها في غضون السنوات المنصرمة، بدءاً بكل أولئك الذين تناوبوا على الحكم، وجعلوا من البلاد “منهبة” لهم ولأزلامهم من متنفذين ومقاولين بعيداً عن كل أشكال الرقابة وعبر صفقات بالتراضي ، وصولاً إلى كبار المودعين وأصحاب المصارف. والواضح إن توفر مثل هذه الإدارة مفقودة في قاموس الطبقة السياسية الحاكمة كما تبين بالملموس، إذ إن إدارة تتمتع بمواصفات الخبرة والكفاءة والالتزام بحماية المال العام وموجودات اللبنانيين تستطيع إتخاذ الإجراءات الملحة التي تمنع نزف العملات الصعبة، وتخليص القطاع المصرفي من الانهيار السريع عبر وضعه تحت عين الإشراف المباشر، مع الحفاظ على خصائصه في حرية التحويل، لأن استمرارية هذا القطاع تعني استمرار القدرة، ولو بنسبة ضئيلة في وقوف الاقتصاد على قدميه، في حين ان ضربه بالشائعات اليومية، أو تحميله مع المصرف المركزي مسؤولية ما اقترفته أيادي السلطة السياسية على امتداد سنوات سيقود إلى سقوط البلد وأهله، وضياع شبه كامل للودائع وانهيار شامل للاقتصاد وكارثة، ينتح عنها تداعيات تمتد إلى سنوات طويلة جداً في المستقبل.
في المحصلة، من المؤكد أن اللبنانيين أمام خيارات أحلاها مرّ، وعلى السلطة السياسية تقع مسؤولية تحديد مسارات معالجة الوضع، فالبلاد تدخل فعلاً في عملية إفلاس غير منظم، ما يعني سقوط لبنان في المحظور دون توفر النجدة الخارجية نتيجة الخيارات السياسية والمكابرة ورفض الاعتراف بمعاناة اللبنانيين في تدبر أمور صمودهم اليومي.
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كتب عماد زهير[/author]