ثقافة

العلمانيَّة كمحاولة جواب على أزمة لبنان

فمقابل صراعات أهل السلطة على فتات ما تبقى، كان المجتمع الأهلي والحالة الشعبيَّة في لبنان تحتقن. فكانت مسيرة العلمانيّين في نيسان 2010، من ثم حراك العام 2011 الداعي لإسقاط النظام، وتحركات المستأجرين القدامى عام 2014، ومن ثم حراك 2015 الذي قادته جمعيَّات من المجتمع المدني بسبب أزمة النفايات.

لقد استُنزف النظام الطائفي.
ثلاثون عاماً من محاولة تجديد الصيغة الطائفيَّة – المتمثّلة بما يُعرف باتفاق الطائف – كانت كافية لإظهار الكارثة التي وصلنا إليها في هذه اللحظة الراهنة، والتي تقارب حدّ الإنهيار. إنهيار بأساسه أخلاقيّ-سياسيّ-اجتماعيّ يضرب من القمّة إلى القاعدة، لم يترك شيئًا إلّا وأفسده. قد تكون عبارة “ثقافة الفساد” التي غالباً ما نردّدها في وصف حالنا المنهار أقسى لوحات انهيارنا: نعم لقد جعلنا من الفساد ثقافة، يُنبَذ كلّ من لا ينتمي إليها، حتى كاد نظامنا الاجتماعيّ والسياسيّ يقوم على قاعدة “تنظيم شؤون الفساد”, وليس على قاعدة إدارة المجتمع والدولة. فمن يدخل دوامة الفساد يبقى ويصمد، ومن يرفضها إمَّا يهاجر، وإمَّا يُهمّش بحجّة أنّه ليس “حربوقًا”.
أكثر من 150 مليار دولار أميركي جبت الدولة من المكلّف اللبناني ما بين عامي 1993 و2018 بحسب الدكتور أمين صالح، يُضاف إليها 100 مليار دولار أميركي ديناً عاماً، ذهبت بمجملها إلى جيوب كبار الفاسدين من سياسيّين ورجال أعمال وحيتان مال وهيئات اقتصاديّة مُلحقة وأهل الإقطاع الطائفيّ. يقول البعض إنّ ما تعرّض له لبنان على مدى هذه الأعوام الثلاثين (1990-2019) يعدّ أضخم عمليَّة نهب منظّم شهدها العالم في التاريخ المعاصر.
كلّ شيء، لا بل كلّ إنسان بات معروضاً للبيع وللشراء. نعم، فبدل أنْ يكون الإنسان محور الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، والقيمة المطلقة الأسمى التي يُكرَّس كلّ شيء في سبيلها، صار الإنسان – كلّ إنسان – سلعة تُباع وتُشرى في سبيل تأمين الولاءات المنسوجة لخدمة قضية المال والسلطة والنفوذ.
استُنزف اتفاق الطائف، واستُنزف اقتصادنا، واستُنزفت ليرتنا، واستُنزف النظام السياسيّ الطائفيّ، فكانت سلسلة الاهتزازات التي بدأت تضرب لبنان منذ بدايات العقد الحالي. فمقابل صراعات أهل السلطة على فتات ما تبقى، كان المجتمع الأهلي والحالة الشعبيَّة في لبنان تحتقن. فكانت مسيرة العلمانيّين في نيسان 2010، من ثم حراك العام 2011 الداعي لإسقاط النظام، وتحركات المستأجرين القدامى عام 2014، ومن ثم حراك 2015 الذي قادته جمعيَّات من المجتمع المدني بسبب أزمة النفايات. أمّا الممسكون بالسلطة فكانوا يرفضون قراءة نبض الناس، وتصاعد موجة الغضب الشعبيّ الرافض لواقع بات ميؤساً منه. فاستمروا في التمادي في التحاصص، وهدر المال العام، والنهب المنظّم، وتكريس الاحتكارات، وإفقار الفقير، وضرب الطبقة الوسطى، واللعب على الوتر الطائفي لما هو في مصلحة زمرة لا تتعدى الواحد في المئة من شعب لبنان.
جاءت جلسة الضرائب يوم الخميس 17 تشرين الأول 2019 لتشير إلى الانفصام المخيف بين أهل السلطة والناس. تمثّلت القشّة “بضريبة الواتس أب”، فانكسر صبر الناس مساء ذلك الخميس، وانطلقت حراكات شعبيَّة بمئات الآلاف من الشمال إلى الجنوب.
قد تكون هذه هي المرّة الأولى في تاريخ لبنان، حيث يُعبّر الناس فيها عن وجع واحد، وشعور مشترك بالظلم والقهر والذلّ. الناس خرجوا براية واحدة هي العلم اللبناني، بوعي مواطني لافت، ليقولوا لأهل السلطة “أعيدوا المال المنهوب”، “لا للفساد”، “ثورة”، “فليسقط النظام”.
لن أدخل هنا في جدل الأعداد، فقد كان جليّاً أن الأعداد كانت هائلة. لكن أهمّ ما فيها أنّها عبّرت عن وعي اللبنانيّين أنهم، كمواطنين، لا كأبناء طوائف، هم أصحاب السيادة ومصدر السلطة.
كان الإرباك واضحاً على أهل السلطة في لبنان. ودليل هذا صمتهم إبَّان الأيام الأولى. صمتٌ لم يعكس إلَّا حالة إرباك تمظهرت في أحاديثهم اللاحقة، وفي تعليقاتهم، وفي مواقفهم المؤكّدة على حقّ الناس. سقطت هالات الكلّ من بينهم. لم يعد هناك من مقدّس في أيّ طائفة. كلّهم باتوا موضع تشكيك. صاروا كلّهم في مرمى المحاسبة الشعبيَّة، التي تبقى ناقصة ما لم تستكملها محاسبة قضائيَّة قانونيَّة نزيهة وشفّافة، تُجريها سلطة قضائيَّة مستقلّة ووطنيّة ونزيهة، ومدعومة بالقوانين المطلوبة، بحق كلّ من مارس السلطة في لبنان من عام 1990 وحتى اليوم.
لكن علينا الاعتراف هنا، أنّ الموجة التي شكّلها حراك أو انتفاضة 17 تشرين، على الرغم من قوّة تداعياتها، ستذهب وتضعف كما تلاشت غيرها من الموجات السابقة. وهي لن تحقّق غايتها ما لم يتمّ استتباعها بإطلاق مسار سياسيّ نضاليّ يتماشى مع طموحات الناس وأهل انتفاضة 17 تشرين.
هذا المسار برأيي يكون بإطلاق حركة سياسيَّة جديدة تحمل فكرة – أمّ تكون جواباً على أزمتنا الأخلاقيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة وبالتالي الاقتصاديَّة. هذه الفكرة-الأمّ هي العلمانيَّة.
إنّ أهمّ ما يمكن للمناضل الملتزم الشاهد، أكان ناشطاً سياسيّاً، أم مصلحاً اجتماعيّاً، أم مفكّراً، أم فيلسوفاً، أنْ يقوم به في تاريخ-مفترق كهذا، إنّما يتمثّل في معرفة كيفيَّة التقاط ما يسمّيه المفكّرون الهيغيليّون “روح الأزمنة”.
لا جواب يشفي عطش زماننا إلَّا “العلمانيَّة”. علمانيَّة تكون نابعة من معاناتنا، وحاجاتنا، وثقافتنا، ومجتمعنا. علمانيَّة من عندنا، تكون رحبة، منفتحة على واقعنا المجتمعي، معترفة بتنوّعه الجماعاتيّ-الطائفيّ-الدينيّ. ولكنّها أيضًا علمانيَّة تُعيد للإنسان محوريَّته، ضامنة له حريَّة ضميره المطلقة.علمانيَّة تُعيد تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، بين الجماعات الطائفيّة وسلطاتها الدينيَّة والزمنيَّة، وبين السلطة السياسيَّة المدنيَّة، بما يحمي السلطتين من خطر التمازج واستغلال كلّ منهما للأخرى بما يسيء للدين، وبما يعيق العمل السياسيّ البنّاء. علمانيَّة تشكّل أرضيَّة مشتركة لكلّ اللبنانيين بحيث يتعاونون معاً في بناء نموذجهم الحضاري، وبالتالي تحقيق المشاركة في بناء الحضارة الإنسانيَّة. علمانيَّة تمكّن اللبنانيّين من بناء دولتهم الحديثة التي تعبّر عن إرادتهم بالعيش معًا والتطلّع إلى المستقبل، وفق مشتركات إنسانيَّة عابرة للطوائف. علمانيَّة لا تقهر الطوائف، بل تحميها من الاستغلال السياسيّ وتجعلها مشاركة في العمل الوطني على مستوى القرارات المصيريَّة التي تحمي الكيان، وتحمي فكرة الاتحاد فيما بينها.
هذه العلمانيَّة لا تكون إلَّا بحركة سياسيّة نضاليَّة، تشكّل إطاراً منظّماً للحالة العلمانيَّة في لبنان. صدّقوني إنَّ هذه الحالة موجودة في لبنان بوضوح جليّ. والعلمانيّون كثر. فلتكن هذه الحركة إطاراً ناظماً لهم، يقدّمون من خلالها، إجاباتهم وأفكارهم ومشاريعم للرأي العامّ اللبنانيّ العابر للطوائف. فيكونون بُناة لبنان الجديد وطناً للإنسان، ومساحة لخدمة الحقّ والخير والجمال.
[author title=”الدكتور أمين الياس” image=”http://”]بقلم الدكتور امين الياس[/author]