كتب زكــي طـه
لم يحدث أن حكمت لبنان طبقة سياسية بهذا المستوى من الرداءة والسوء. عبثاً تبحث بين صفوفها عن رجل دولة فلا تعثر. يتلقى أركانها التأنيب والإهانة تلو الأخرى من رؤساء ومسؤولي دول العالم، فليوذون بالصمت. لا تجد بينهم من يجروء أن يستنكر أو يعترض، حتى في الشكل دفاعاً عن كرامة شخصية، ولا نقول وطنية لأنها مرتهنة أو مفقودة أصلاً. أما المواطنون المنكوبون فأكثريتهم يخجلون بحكامهم، ويكيلون لهم الاتهامات والشتائم. خصوصاً بعدما افتقدوا فيهم الحد الأدنى من صفات رجال الدولة وحس المسؤولية الانسانية. لذا تراهم ولذلك يصفونهم بأنهم عصابة تقود مجموعات من المافيات المتصارعة على إدارة البلد ونهبه في آن.
لسنا بحاجة لاستعراض مناورات أهل السلطة حول الفراغ في مؤسسات الحكم المعطلة والمشلولة، سواء في موضوع تشكيل الحكومة والتحقيق القضائي بانفجار المرفأ، والتحقيق الجنائي بشأن أموال الخزينة وودائع المواطنين والقروض المنهوبة والمساعدات المهدورة، أو حول كل ما يتصل بسوء أداء وفساد الحكام والمسؤولين والإدارة وأجهزة الدولة. لاسيما وأن لبنان أصبح بحكم “الدولة الفاشلة” وإن لم تصنف رسمياً بعد، رغم طلائع أشكال الوصاية الدولية التي تتصف بها حركة الموفدين والسفراء المعتمدين وعلاقاتهم مع أهل الحكم وقوى السلطة. لقد أكد “مؤتمر دعم سكان لبنان” المنعقد في باريس تتويجاً لها، إنعدام الثقة بهم جميعاً، بمن فيهم رئيس الجمهورية الذي لم تشكل مشاركته إحراجاً للمؤتمرين. خاصة أن المقررات الصادرة عن المؤتمر بالإجماع، قد نصت دون مواربة، أن المساعدات ستصرف تحت الاشراف الدولي للمستفيدين منها، بعيداً عن القنوات الحكومية. أما القروض فإنها ستبقى مشروطة بالإصلاحات التي لم يتحقق منها شيء.
غير أن الدول المهتمة بالشأن اللبناني انطلاقاً من مصالحها، تواجه إشكالية الاضطرار للتعامل مع قوى السلطة القائمة رغم فشل كل اشكال الضغط والحصار والعقوبات في دفعها لتشكيل حكومة تستجيب للشروط الاصلاحية، أو لحاجة اللبنانيين للانقاذ. والإشكالية هذه مردها غياب البديل عن هذه القوى لإدارة شؤون البلد، بعد نجاحها في اجهاض الانتفاضة، التي لم تفلح قواها ومجموعاتها المشتتة في تشكيل قوة اعتراض ومعارضة. ما يعني أن أطراف السطة تراهن على اضطرار دول الخارج في نهاية المطاف إلى التعامل معها كأمر واقع، حتى ولو اقتضى الأمر مزيداً من التدخلات في شؤون البلد الداخلية، باعتباره دولة فاشلة تستدعي وضعها تحت الوصاية.
والوصاية تطال بأحكامها فئات المجتمع المتضررة. لأن التدقيق في احوال الغالبية الساحقة من تشكيلاتها الهشة والمفككة، التي تمثلها أو تنطق بإسمها في محافل الداخل أو الخارج، بما فيها التي تدعي الانتساب للانتفاضة، يعكس بعض أوجه إشكاليات انطلاقتها وتكوينها، وحجم الاستباحة التي تعرضت لها من قبل قوى السلطة وأجهزتها، ومن المجموعات التي تراهن على الخارج، أو ترتهن له ولتمويله، والتي يختلط فيها الأهلي بالمدني.
وعليه، يستمر اللبنانيون في الإقامة، بين إحالة تصاعد الأزمة على الانقسام الأهلي وانعدام الوحدة الوطنية، أو ردها إلى تدخلات الخارج واستباحته للداخل واسترهانه لمصالحه. مما يعكس الهروب المتمادي عن مواجهة معضلة الانقسام الطائفي والأهلي الموروث والعميق، الذي رافق نشوء الكيان وشكل مصدر أزماته المتكررة. وهذا ما جعله وأبقاه معبراً وركيزة لاستجرار التدخلات الخارجية، والحؤول دون تحول اللبنانيين شعباً واحداً، ومجتمعاً متنوعاً ضمن موجبات الهوية الوطنية وانتظام الحياة المشتركة بينهم.
ولذلك فإن إشكالية الانقسام الطائفي لم تزل تضع اللبنانيين أمام تحدي تجدد الأسئلة الصعبة. لماذا استحال الخلاص من التدخلات الخارجية كشرط حاسم للتوحد حول وجهة حياة ونظام عيش مشترك بينم والتحرر من قيد الانقسام. ولماذا وفي ظل الانقسام الاهلي والطائفي والخلافات حول الهوية والمصالح والمستقبل والسلاح، لا تزال هذه المهمة أقصر الطرق لتجدد الإقتتال. ولماذا كان صعباً جداً أن لا تلازم الانتكاسات والارتدادات جميع محاولات صياغة وتوليد مسارات تأسيس وحدة لبنانية مجتمعية متنامية حول حياتهم المشتركة طريقاً للخلاص من التدخلات الخارجية. ولماذا استمر اللبنانيون أسرى تكرار المحاولة بين خيارين، بين الصعب جداً والمستحيل.
وعليه فإن اللبنانيين وفي مواجهة المجهول، هم أمام تحدي البحث عن المداخل الأجدى لبناء مسار تراكمي حول المشتركات من الحقوق والمطالب والمصالح، نحو الوحدة ومحاولة الخروج المتمادي على انقسامات الداخل وقيود الخارج. والتحدي يستدعي وضع إشكالية الانقسام الموروث قيد البحث باعتبارها الركيزة التي تستند عليها التدخلات الخارجية، بهدف قطع الطريق على تكرار المحاولات التي ثبت عقمها أو المجازفات الانتحارية المدمرة.
هذا نقاش في الراهن والمستقبل وليس في الماضي. لأن الاستخاف بالانقسام هو استهانة بالمسؤولية عن معالجته، بالنظر لما يوفره من ركائز ومستندات وفرص لتدخلات الخارج. كما هو أيضاً امعان في الهروب من موجبات بناء الشرط الرئيس للتحرر منها، والذي تمثله وحدة اللبنانيين في العلاقة مع الخارج ومواجهة ما يعتبر تجاوزاً لمصالحهم المشتركة ومصيرهم.
وفي هذا السياق، تقع الحاجة الملحة والضرورية لفهم ومعالجة الخلل في الحصانة والمناعة اللبنانية. وهو الخلل الملازم لنشأة وتاسيس الكيان في محطات تكونه، وقد تحكمت به جدلية عوامل الانقسام وعوامل الوحدة والتماسك، التي يشكل غلبة أي منها عاملاً رئيسياً مقرراً في استقراره ورسوخه من عدمه. هذا ما يفتقده لبنان راهناً وما يجعله مسرحاً مستباحاً لصراعات المصالح والمنافع الدولية والاقليمية، ويبقيه مجتمعاً مفككاً مأزوما على الدوام وأسير تركيبه المجتمعي الموروث الذي لم ينتجه الخارج.
ولذلك فإن التحدي يستدعي البحث عن مصدر الخلل وطبيعته حيث هو حقاً، ومغادرة الخفة في التعامل مع تاريخ البلد وأهله، وتصفية الحساب مع مقولة عدم وجود حرب أهلية لبنانية، بل مؤامرة خارجية وحروب للأخرين على الارض اللبنانية. وذلك تغطية للهروب من مسؤولياتنا عمّا صنعت أيدينا، وما ارتكبنا من اخطاء وخطايا بحق بلدنا وأنفسنا. أما التهوين من شأن خلافاتنا وصراعاتنا وحروبنا، فهو استخفاف بالمستقبل، وتغطية للاختلاف في تعريفها برفع رايات السيادة والاستقلال والمقاومة والتحرير والعروبة، واجترار شعارات الاصلاح والتغيير والمستقبل وتجديد الإقامة بين الوطنية والخيانة، وسط الاندفاع نحو الهاوية، والإبقاء على شعار الدولة المدنية مجرد تعويذة تستعمل للتعمية على الخراب المقيم وأسبابه ومترتباته.
Leave a Comment