قد يكون الحزن على خالد غزال قليلاً، فالخسارة أكبر من ذلك بكثير، إذ قلما تعثر في هذا الزمن الثقيل على الصفاء الذي كان يغسل روح هذا الرجل الذي أعتز بمعرفته وصداقته، ثم على مناضل في زمن كثر فيه الإحباط، عز النضال والمثابرة والإصرار، ثم على مثقف نموذجي في مساندته للمظلومين والمقهورين أينما كانوا في هذا العالم، وفي سعيه لإضاءة عتمات الوعي التي كدستها جيوش الإعلام ومزوّرو الحقائق.
لا أبالغ إذا قلت إن أمثال خالد غزال قليل، فبعض المثقفين يكتب ويفكر بشيء من النزق، ويبحث عن ضحايا مطلوبين لزعيم سياسي، يتشفّى منهم بصنوف الشتائم والإهانات، ولا يطرح أفكار، إلا بعنف، ولا يسجل مواقفه السياسية إلا بحدة. وبعض آخر يذهب في اتجاه معاكس، فيبقى خجولاً من اتخاذ موقف، محاولاً الانزلاق واللعب على الحبال كي لا يمسكه أحد متلبساً بموقف مع هذا الطرف أو ذاك. لكن خالد غزال كان من صنف ثالث، يتبع العقلانية والهدوء والعمق المعرفي، في تحليل الواقع وتشخيصه أولاً، ثم في تحديد الموقف ثانياً، فهو يحلل بثقة ويصف بمعرفة، قبل أن يطلق أحكامه بعقلنة تامة، لذا يمكن أن نعتبره مثقفاً أو كاتباً نموذجياً.
ربما انعكس هدوؤه الشخصي، وجديته، ورقيه في التعامل مع الناس، ودماثة خلقه، وتواضعه، على كتابته، فكأنما كان يكتب نفسه وفي ضوء سلوكه، أو كان نفسه بين تفاصيل حياته الشخصية وتفاصيل المواقف التي يطلقها عبر مقالاته وكتبه، معتبراً أن الثقافة والمزايا الخلقية لا تنفصلان، في حين يعيش مثقفون كثر فصاماً بين ما يقولون وما يفعلون، أو بين سلوكهم وما يبدعون.
لم تكن علاقتي بخالد غزال قريبة جداً، رغم أنه كان مثالاً رائعاً للمحبة والتقدير والاحترام، إذ كثيراً ما كنت أشاهده سائراً على قدميه في شوارع بيروت، فأتوقف لأقلّه معي فيأبى، فالمشي عنده مهمة يومية لا يغفل عنها، على أمل أن ينجو بجسده من الأمراض، لكن، للأسف، كان حظه في الحياة قليلاً. وكنت ألتقيته في معرض كتاب أو معرض فني مرافقاً زوجته الفنانة الصديقة عايدة سلوم، أو أي مناسبة ثقافية أخرى، ذلك أنه كان يدرك أن المعارف كلما توسعت وتنوعت كانت ثمارها أكثر نضجاً، فيتابع الأنشطة الثقافية والفكرية عن كثب.
وكثيراً ما زارني في جريدة “السفير”، لكنه كان يبدو دائماً على عجل وسباق مع الوقت، فقد أتى متأخراً إلى عالم الكتابة، بعد انشغاله في العمل السياسي، وكأنما كان يود أن يعوّض ما فاته من هذا العالم الذي أبدى عشقاً له وشغفاً به، أو لديه الكثير ليقوله أو يكتبه، وقد أصدر ثمانية كتب خلال عشرة أعوام، إلى المزيد من المقالات، فالكتابة عنده كانت أيضاً مهمة نضالية، أشبه بالمهمة التي مارسها بإخلاص وتفانٍ في منظمة العمل الشيوعي. وهنا لا بد من التمييز بينه وبين عدد من رفاقه الذين ضلوا طريقهم عندما تركوا ساحات النضال، واختاروا بملء إرادتهم طرقاً تشاغب على تاريخهم، بل طلّقوا بين ليلة وضحاها الأفكار التي لقنوها لمن هم دونهم مرتبة حزبية. فخالد غزال، في كل الأدبيات السياسية التي كنا نقرأها في مقالاته وكتبه، بقي محتفظاً بالتوجه العام والمبادئ الأساسية التي حملها مدة طويلة من الزمن، أو محافظاً على الخطوط العريضة الأساسية التي لا بد لأي تقدمي وديموقراطي وعلماني وحضاري لبناني من أن يحرص عليها.
لم يكن حزبياً في مقالاته وكتبه بالطبع، وحتى لم يكن أيديولوجياً، لكنه لم يكن بعيداً عن النفس اليساري الذي كان يملأ رئتيه قبل أن يغوص في عالم الكتابة. فهو خاض تجربة مهنية منفصلة ومعتمدة على الجهد الذاتي، لكن لم ينسَ الحفاظ على الثوابت، حتى إنه كان يذكّر أحياناً بالدروس الوطنية للحرب الأهلية في لبنان، وفي مجال الإصلاح كان يذكّر أيضاً بالبرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية اللبنانية.
كأنما أراد خالد غزال أن يكمل طريق النضال بأسلوب آخر، يقدم من خلاله قناعاته، ومواقفه، وأفكاره، ولا شك في أن الخلفية السياسية والفكرية التي أتى منها كانت خير داعم لكتابته، وقد شكلت له حصانة ضد ما يمكن أن يتعرض له كاتب سياسي مرموق مثله، فلم يمالق أو يساير، أو يتقرب بموقفه من زعيم، أو يصدر عنه أي موقف يشوش صورته كمثقف علماني ديموقراطي متميز، وقد بقي بعيداً عن البيع والشراء في المواقف، فلم يكن منحازاُ لأي من قوى السلطة على المستوى المحلي، وعلى نفس المسافة من الجميع، 8 و14 آذار، كتحالفين أساسيين في لبنان، معتبراً أن الطبقة السياسية كلها، من دون استثناء، متورطة في النهب والفساد، ومتهمة بالكثير من الملفات الفضائحية، وهي بالتالي غير مؤهلة للقيام بأي مبادرة لإصلاح النظام السياسي أو الاقتصادي. وكان يأمل أن تفرز المواجهات التي حدثت في السنوات القليلة التي سبقت رحيله قوى جديدة من شأنها أن تقوم بمهمة الإصلاح. وما كان يطرحه في هذا المجال هو نفسه ما حملته ثورة 17 تشرين من شعارات وأفكار آنست روحه المحلقة في سماء عالية.
كان خالد غزال الكاتب واضحاً وحاسماً في مواقفه، وكان يملك من الجرأة ما يكفي ليقول موقفه كما هو، وفي كل وسائل الإعلام التي كتب فيها، إن في اللبنانية منها أو العربية، مناصراً الشعوب دائماً، وحاملاً لواء العدالة، غير آبه بالشعارات الرنانة التي تطلقها الأنظمة، كشعار الممانعة، أو سواه.
وفي كل المواجهات التي خاضها ضد التطرف الديني لم يكن لينطلق من موقع مضاد للدين، إنما كان يخوض نقاشاته ويطلق مواقفه على أساس أن الدين يجب أن يكون في خدمة الإنسان لا العكس، ويناصر بمواقفه المفكرين الإسلاميين التنويريين الذين دعوا إلى تجديد الخطاب الديني، والذين دعوا إلى الاجتهاد في مسائل الشريعة، بما يتناسب والعصر الجديد، ولا يتنافى مع شرعة حقوق الإنسان وسواها من مبادئ الحضارة الإنسانية. وفي هذا الإطار كانت له مواقف ضد “الأزهر” وغيره من المرجعيات الدينية والفقهية المتصلبة في مواقفها حيال ما يجري من مطالبات بالمساواة بين المرأة والرجل، أو مسائل الإرث والحريات وسبي النساء وسواها الكثير. وكان حريصاً في نصوصه ألا يمس الدين كعقيدة، لكنه لم يتساهل في كشف استغلال الدين في السياسة.
بدا واضحاً أن خالد غزال ركّز في أبحاثه وكتاباته على الدين الإسلامي، وهو من أجل أن يشبع الموضوع نقاشاً أصدر أربعة كتب، هي: “من الدين إلى الطائفية: في ضرورة الدولة المدنية”، “الإسلام والأسلمة: هوامش لنقد العقل والتاريخ”، “الأزمنة الدينية: النص سيف السلطة”، و”الإصلاح الديني في الإسلام”. مؤكداً فيها على علاقة السلطات في الدول الإسلامية بالدين، ودور زعماء الطوائف في الصراعات المذهبية، وتوظيف الدين في السياسة، داعياً، كما في عنوان الكتاب الأول، إلى ضرورة قيام دولة مدنية.
ولأننا في عصر التواصل الميسّر، فإن ما تركه خالد غزال، سوف يبقى مَعيناً ينهل منه كل دارس جدّي، وكل باحث في المواقف الفكرية والسياسية التي تطرق إليها. وليس على زائر محراب معرفته إلا أن يضيء معنا شمعة تغتسل بضوئها روح كاتبنا وصديقنا وزميلنا ورفيقنا.
[author title=”أحمد بزّون” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]