سياسة مجتمع

الفوضى.. صناعة لبنانية أم أميركية وهل الرد بتعميمها؟

زكـي طـه

لم يحقق لقاء باريس اتفاقاً، ولم يُصدر بياناً. وبعيداً عن سيل التسريبات، فإن سفراء الدول المشاركة حملوا إلى بعض المسؤولين اللبنانيين، نصحية وحيدة تتعلق بأولوية انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة دستورية، للتعاطي مع المجتمع الدولي، بالاضافة إلى تجديد المطالبة بالاصلاحات، وتكرار التحذير من مخاطر الفوضى الزاحفة على البلد. أما عدم اتفاق الدول المجتمعة فمرده استمرار النزاع مع النظام الايراني وعدم اشراكه في البحث. ما يعني أن مهمة الانقاذ لا تزال وإلى أمد غير منظور ملقاة على عاتق اللبنانيين دون سواهم.

ومع متابعة اطراف السلطة محاولات فرض خياراتها الفئوية، التي تستهدف إخضاع الآخرين واجبارهم على تقديم التنازلات لهم، لم يكن مستغرباً ايضاً تصعيد الاتهامات والعودة الى لغة التهويل والتهديد للآخر، وممارسة سياسة الهروب إلى الامام. بين حزب الله الذي استعاد مهام الدفاع عن حقوق البلد النفطية، وحمايته من انفجار الفوضى المستدامة بتعميمها، والتصدي لمؤامرات اميركا واسرائيل وادواتهما المحلية. رغم أنه كان المساهم الاساسي لبنانياً بتمرير الترسيم والتسليم بالضمانات الاميركية لتنفيذه، في اعقاب سيل التهديدات لاسرائيل. وبين التيار الحر الذي يرى المشكلة في حزب المقاومة الداعم للفساد والحامي لمنظومة السلطة. إلى القوات اللبنانية وحلفائها الذين يتحصنون بشعارات السيادة بقوة الخارج لمواجهة ما يُسمى الاحتلال الايراني وسلاح حزب الله.  بينما قوى التغيير لا تزال تبحث عن دور لها في فراغ الحياة السياسية دون أن تعثر سوى على ما تردده من شعارات.

التصعيد والاستحقاقات المؤجلة

من الواضح أن موجة التصعيد تقع في امتداد الامعان بتعطيل الاستحقاقات، والصراع على الصلاحيات، التي انتجت شللاً للمؤسسات ولحكومة تصريف الاعمال ولمجلس النواب الباحث عن دور بدل عن ضائع. هذا عدا التلاعب بالقضاء، وسوء الادارة وفسادها، ونهب الخزينة، والصفقات والسمسرات، والتهريب، والودائع المنهوبة، والاموال المهربة ومافيات الخدمات، التي تشكل بمجملها بعض أوجه أزمة البلد المقيمة فيه منذ سنوات، والتي بلغت ذروتها مع انهيار الدولة وأجهزتها وقطاعاتها وتدهور اوضاع اللبنانيين وتصاعد خطر الانفجار الكبير.

وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة بين اطراف السلطة. لا شك في أن أزمات البلد والفوضى الاهلية هي صناعة لبنانية أولاً يستغلها الخارج الدولي والاقليمي وتديرها اميركا. وهي نتاج سياسات وممارسات الاحزاب والتيارات الحاكمة، التي تمثل الإبن الشرعي للتشكيلات الطائفية والمذهبية التي يتشكل منها المجتمع الأهلي للكيان الذي تأسس في ظل الانقسام، حول وجوده وهويته وعلاقاته مع محيطه العربي والدولي. أمّا ما تدعيه تلك القوى من هواجس وما تعكسه من طموحات فئوية ومشاريع هيمنة، تحت عنوان حقوق الطوائف، فهو الذريعة لاستمرار وتجدد خلافاتها وصراعاتها على السلطة والنفوذ. مما شكل ولا يزال العائق الرئيسي امام تحقيق وحدة اللبنانيين. لأن تلك القوى كان دأبها الاستثمار في الانقسام الاهلي واستغلال التنوع الديني والطائفي، وإبقاء الابواب مشرعة امام تدخل الخارج القريب والبعيد، والتعامل معه باعتباره عامل استقواء في مواجهة الآخر في السلطة والمجتمع.

وفي موازاة التخوين وتبادل تهم العمالة للخارج، تتناسل الاسئلة التي يهرب منها أكثر اطراف السلطة وأكثرية اللبنانيين. أين تكمن المؤامرة، ومن هو المتآمر على وحدة اللبنانيين وعلى المصالح المشتركة بينهم. من ينفذ المؤامرات إذا وجدت. هل هم اطراف الداخل أم الخارج أو كليهما. وهل بالامكان مواجهة المؤامرات على البلد من مواقع الانقسام والنزاع الاهلي الطائفي، وكيف يمكن معالجة أزمات لا تزال تتوالى منذ ما قبل تأسيس الكيان حتى الآن، وكيف نقطع الطريق امام تجدد النزاعات الطائفية والفئوية، التي تكرر تدمير المتحقق من الانجازات والتقدم في ميادين الاقتصاد والاجتماع والعمران والثقافة. ولمصلحة تفكيك بنى المجتمع ومنع فئاته المتضررة من التلاقي حول الحد الادنى من الحقوق المشتركة مجتمعياً ووطنياً. ولماذا الاصرار على تكريس وتعميق الانقسام الاهلي وتسهيل التدخل الخارجي. ولماذا الفصل بين عوامل الداخل والخارج يكاد أن يكون مستحيلاً. وما هو مصير كيان تتحول طوائفه شعوبا مخضعة لقيادات أحزابها وزعماء تياراتها الطائفية والفئوية، التي تعاملها دول الخارج كملاحق تدور في فلك مصالحها أو أدوات تستخدم في منازعاتها.

اميركا والنزاعات الأهلية

ليس جديداً القول بأن السياسات الاستراتيجية للإدارات الأميركية المتعاقبة على الصعيدين العالمي والاقليمي، بما فيها المنطقة العربية ولبنان ضمناً، لا تُقرأ إلا بالاستناد إلى أهدافها الرئيسية، وفي طليعتها سعيها لتكريس وتحصين موقعها على رأس هرم النظام الرأسمالي الذي يتشكل من جميع دول العالم دون استثناء، حيث الادارات والنظم الحاكمة لا تختلف عنها في تبني سياسات لا تخدم سوى أهدافها ومصالحها الخاصة أولاً.. وآخراً. وأن ما كان، وما نشهده راهناً من تنافس ونزاعات وحروب فيما بينها، وما يتشكل في امتدادها من محاور سياسية واقتصادية وعسكرية، يقع بمجمله في اطار محاولات تحقيق المصالح الفئوية الخاصة بكل منها. يستوي في ذلك الدول المتقدمة والنامية والمتخلفة، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وعدا كون الاخيرة منها، تشكل قاعدة الهرم العالمي، فإنها ايضاً الأكثر عرضة للأزمات المتنوعة والنزاعات الاهلية التي تجعل منها ميادين وساحات مشرعة للتدخلات الخارجية سواء للسيطرة عليها أو لتقاسم مواردها الطبيعية.

ومع غياب القرار الخارجي للتوافق على تسوية ما في لبنان، ورغم تدهور اوضاع البلد وتسارع الاندفاعة نحو المجهول، وامام عمق المأزق لدى غالبية قوى السلطة واعتماد سياسة التصعيد والهروب الى الامام. فقد تابع اللبنانيون والخارج حشد المواقف التضليلية، وكمية الاتهامات المتبادلة بين أبرز قادة وزعماء التيارات والاحزاب الطائفية. أما ذروة المواقف، فقد عبّر عنها أمين عام حزب الله، من خلال رفضه الصريح لأي رئيس توافقي يقبل به الخارج أو لأي صيغة تسوية انقاذية تنال من نفوذه. ولذلك لم يتردد في اطلاق التهديدات للعدو الاسرائيلي حليف اميركا. وتحميل الاخيرة مسؤولية جميع أزمات لبنان ومحاصرة مصالحه وحقوقه النفطية والدفع به نحو الفوضى. ومن أجل المواجهة استعاد أمين عام الحزب لتبرير التحصن بسلاحه، شعارات حماية لبنان والدفاع عن شعب المقاومة، ومواجهة المتآمرين، من شركائه في السلطة الذين يرفعون راية السيادة والرهان على الخارج من مواقعهم الطائفية.

والتصعيد الحاصل، يقع في امتداد سياسات التعطيل وفرض الامر الواقع، التي لم تنتج سوى الخراب العام على جميع المستويات. مما يعني امعان قوى السلطة الرئيسية من مواقعها المتناقضة، في تأزيم أوضاع البلد والدفع به نحو حافة الهاوية داخلياً ومع الخارج، علّها تفلح في دفع الآخرين للتفاوض معها باعتبارها الأكثر قدرة وقوة. هكذا كان الامر مع تشكيل الحكومة والاستحقاق الرئاسي ومفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي. وفي هذا السياق أيضاً كان تهديد حزب الله بنشر الفوضى وتعميمها في المنطقة ككل، رداً على كل من يحاول تجاهل مرجعيته الاقليمية أو المس بموقعه. وهو الذي توّهم التسليم له بتكريس تحكمه بالبلد بقوة الامر الواقع مقابل تمرير اتفاق الترسيم.

الشراكة والخصومة معاً

وبما أن قوى السلطة هي الممسكة بأيدي بعضها البعض وفق معادلة الجمع بين الشراكة والخصومة والعداوة. فإن حزب الله لا يختلف عن الآخرين، بقدر ما يتفوق عليهم تنظيماً وقوة، سواء من حيث البنية الطائفية والأداء الفئوي، أو في ادعاء البراءة من المسؤولية عن تعطيل الاستحقاقات والانهيار المالي والخراب الاقتصادي وانتاج الفوضى واستغلالها. وهكذا تجدهم يتبادلون معه اتهامات التسبب بذلك، وفق قائد القوات اللبنانية وحلفائه، أو بحماية الفساد ورموزه كما يقول حليفه السابق رئيس التيار الحر.

ورغم إقرار أمين عام الحزب، كما شركائه في السلطة، بمشروعية مطالب الفئات المتضررة من اللبنانيين. لكنه لم يتردد أيضاً من اتهام هؤلاء بأنهم أدوات ودمى تحركهم السفارات الخارجية لتنفيذ مؤامراتها ضد شعب المقاومة. والاتهام ليس جديداً أم مستهجناً، وهو يحقق المساواة بين اللبنانيين والايرانيين وجميع المحتجين على القهر الاجتماعي أو مناهضة الاستبداد السياسي أينما كان. وكلاهما لا يضيران أميركا بقدر ما يخدمان مصالحها. وهي التي تعرف كيف تستغل شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان من أجل تطويع أنظمة الاستبداد التي يدين لها الحزب بالولاء سواء في ايران أو سوريا مثلاً.

لقد فات الحزب أو تجاهل عدم قدرته على تفجير حرب مع العدو الاسرائيلي لا ينال لبنان منها وخاصة بيئته سوى الحصة الاكبر من الدمار. عدا أنها لن تأتي بحل لأزمات البلد. لكن الأهم بالنسبة للبنانيين، هل يمكن مواجهة الفوضى الاميركية المدعاة بمزيد من الفوضى والانقسام الاهلي، أم بالوحدة واعادة بناء الدولة واستعادة الاستقرار؟!

ومن المفارقات التي تُحسن منظومة السلطة استغلالها، أن اصحاب المصلحة الحقيقية في الخلاص من تسلطها هم ضحايا سياسات قواها وممارساتهم. وهم الذين يشكلون أكثرية اللبنانيين والفئات المتضررة منهم، والمستمرين بالاقامة على الهامش وسط معاناتهم القاتلة. والسبب في ذلك أن الذين يطالبون بالتغيير ويدّعون النطق باسمهم من الاحزاب والتنظيمات والمجموعات، لم يعملوا من أجل استقطابهم إلى دائرة الصراع. بقدر ما ادمنوا اتهام قوى السلطة والاكتفاء برفع الشعارات واسقطوا من حساباتهم اعادة بناء قنوات التواصل مع تلك الفئات التي فقدت الثقة بهم وبقدرتها على الدفاع عن حقوقها في آن. ولذلك وعلى رافعة الزمن المهدور والرهانات الخاطئة واوهام التجارب السابقة ودروسها، القديم منها والحديث، يتجدد السؤال هل فات الأوان أم أن هناك مجال للاستدراك في سبيل خوض معركة الإنقاذ.

سؤال برسم تلك القوى جميعاً واليسار أولاً؟!

Leave a Comment