كتب محرر الشؤون العربية
عاد العراق منطقة صراع مفتوح بين كل من الولايات المتحدة الاميركية وايران عبر أدواتها المحلية. وفي وضع من هذا النوع تبقى البلاد رهينة صراع المصالح المحتدمة بين القوتين المتصارعتين. أما معضلات العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية فتبقى على حالها في ظل فقدان الحد الأدنى من مركزية الدولة ووحدة قرارها، وقدرتها على اعتماد سياسات استقلالية تنعكس إيجاباً على الأوضاع العامة التي تسير من سيء إلى أسوأ. وتزداد الأوضاع تردياً متى أدركنا أن اللاعبين لا يقتصرا على اميركا وايران، إذ هناك أيضاً اللاعب التركي الذي تتجاوز تدخلاته صراعه مع الاكراد إلى مسألة القواعد العسكرية التي أقامها داخل العراق في غضون السنوات السابقة، ومشكلة المياه وتوزيعها وفق القانون الدولي للأنهر العابرة لحدود الدول. وهو في هذا يتشارك مع ايران في تعريض الأمن المائي للبلاد لأفدح الأخطار والكوارث. وكما حدث في لبنان فقد خبت التحركات الشبابية التي شهدتها العاصمة بغداد والمدن العراقية الأخرى التي رفعت شعارات مناهضة لايران ورموزها وأدواتها، تحت وطأة مسلسل الاغتيالات التي استهدفت الناشطين، والاختراقات الأمنية والسياسية، بعد أن تبين عجز السلطات السياسية والأمنية الرسمية عن كبحها وحماية حق التظاهر السلمي، باعتبار أن هذه الجرائم قيدت ضد مجهولين يفلتون دوماً من العقاب، باعتبار أن سيادة القانون ما تزال خارج التطبيق.
التطور الأبرز الذي شهدته الأسابيع الماضية هو عودة اميركا إلى توجيه الضربات لبعض مكونات الحشد الشعبي، الذي تمت شرعنته كما هومعلوم، وباتت موازنته جزء من الموازنة العامة للدولة. وهو كما يعرف القاصي والداني بمثابة ذراع ايران الضاربة التي تستعملها كلما رأت أن مصالحها تتطلب ذلك، ما يجعل من البلاد بمثابة مسرح مفتوح على التدخلات. لكن الحشد الشعبي، وهنا مكمن الخطورة ليس مجرد قوى ميليشياوية تجمعت تحت هذا العنوان العام، بل أصبح قوة سياسية لها وزنها في مجلس النواب مع شبكة علاقات متشعبة مع قوى سياسية عديدة. وهو وزن يشل قدرات الحكومة على تنفيذ ما سبق ووعدت به لجهة استعادة وحدة قرارها، وبالتالي سلطتها على الاراضي العراقية ومرافقها العامة والمجتمع بمكوناته. وسط الاحتدام الداخلي بدت مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي في اطار 5 + 1 متعثرة إلى حد ما، ومهددة بالتوقف في لحظات محددة. فالمفاوضات الدولية مع إيران بشأن الملف النووي، والتي شهدت 16 جلسة من التفاوض في العاصمة النمساوية فيينا، وبحضور غير مباشر من قبل الولايات المتحدة، ما زالت بعيدة عن تحقيق نتيجة إيجابية مُعلنة، في انتظار ما تطلق عليه مختلف الأطراف “جولة القرارات الصعبة”، المتوقع عقدها خلال الشهر الجاري. وقد ترافق ارتفاع منسوب التشاؤم بوصولها إلى نتائج إيجابية، مع ظهور نتائج الانتحابات الايرانية ووصول الرئيس المُنتخب إبراهيم رئيسي إلى سدة الرئاسة مع ما يحويه سجله القمعي الزاخر من منجزات. ما يعبر عن اشتداد قبضة المرشد العام ومعه الحرس الثوري على مفاصل السطة السياسية في البلاد. والأهم من ذلك كله تأهيل رئيسي لتولي منصب المرشد العام في حال وفاة خامنئي لضمان استمرار هيمنة القوى الممسكة بالسلطة على مقاليد الأمور في البلاد. وكما كانت تضغط ايران سابقاً عبر البوابة اليمنية، أدت اللقاءات السعودية الايرانية التي شهدتها العاصمة العراقية، إلى منح موقع أولوية الضغوط الايرانية للساحة العراقية. وهكذا شهدت الأشهر الماضية استمراراً للهجمات التي كانت تشنها فصائل الحشد الشعبي على شبكة من المواقع والمصالح الأميركية، سواء أكانت السفارة الأميركية في بغداد، أو القواعد العسكرية التي يتمركز فيها قرابة 2500 جندي أميركي، أو حتى المؤسسات الأميركية في إقليم كردستان العراق. وسط هذا المشهد ضاعف الحشد من فرض حضوره وسياساته. والدليل الأبرز على ذلك كان الاستعراض الذي أقامه في بغداد بما تضمنه من قطع ووحدات عسكرية ومنوعات الاسلحة التي يمتلكها، ولاسيما الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيَّرة التي يستخدم مثيلاتها في هجماته على المصالح الاميركية. وهي الهجمات التي قدمت رسالة الرئيس بايدن إلى الكونغرس تفصيلاتها ووقائعها خلال الأشهر الأخيرة. وفي ما ايران تتابع المفاوضات السياسية في فيينا تعتبر التحركات الميدانية لأذرعها ضرورة رئيسية لانتزاع تنازلات في الملف النووي العالق حالياً. وهو ما حدا بالإدارة الاميركية إلى توجيه ضرباتها الجوية داخل العراق والاراضي السورية معاً، معلنة عبر القصف أن المسار الذي تعتمده ايران إزاءها في جنيف والعراق يجب أن يتوقف عند حدوده. خصوصاً متى تذكرنا أن المفاوضات، وإن كانت تتمحور حول هذا الملف، الا أنها مفتوحة على ملفات أخرى لاتقل عنه أهمية، منها صواريخ ايران البالستية وتغلغل نفوذها الاقليمي في كل من سوريا ولبنان واليمن. والمؤكد أن اميركا تنطلق في هذه الرسالة العسكرية من مصلحة استراتيجية مشتركة مع اسرائيل، التي تعتبر الخطر النووي والبالستي الايراني تهديدا لها في المنطقة. خصوصاً بعد أن أحرزت اسرائيل اختراقا سياسياً واقتصادياً وأمنياً معلناً داخل العمق العربي من خلال بوابة كل من مملكة البحرين ودولة الامارات المتحدة.
رئيس الوزراء العراقي مصطفى كاظمي بدا في غضون اندفاعة الموجة الايرانية المتجددة متراجعاً عن وعوده الكثيرة التي سبق وأطلقها حول تحرير القرار السياسي العراقي من المؤثرات الايرانية، واستعادة المبادرة لصالح سلطة القانون المركزية التي يمثلها. وبدا مؤخراً محاولاً امساك العصا من الوسط من خلال حضور استعراض الحشد الشعبي شخصياً في رسالة طمأنة لايران، متخلياً عن وعوده بإخضاع كل القوى بما فيها الحشد لوحدة قرار الدولة السياسي من جهة. ومحاولته عبر علاقاته المعروفة مع المملكة العربية السعودية ومع التحالف العربي المكون من الاردن ومصر استعادة توازن ما مع ايران، ما يعزز موقعه من جهة ثانية. وهو ما يتلاقى وكل لحساباته مع سياسات الاردن ومصر، التي تحاول كحليف للولايات المتحدة استعادة دورها الدبلوماسي ولعب دور تهدئة ووساطة كما فعلت إزاء المعارك التي شهدها قطاع غزة. وهو الدور الذي يتقاطع مع جملة المصالح الاستراتيجية الاميركية على صعيد المنطقة ككل. وهذا النمط من العلاقات لا يزعج ايران كثيراً طالما أن البحث بين الرئيس المصري والملك الاردني ورئيس الوزراء العراقي لم يتجاوز الجانب الاقتصادي إلى الوضع السياسي. فالمصالح الايرانية أوسع من مجرد توريد الغاز إلى محطات الكهرباء العراقية، بل تعتمد في المقام الرئيس على تواجد مليشيات مسلحة لا يقل عدد المنتسبين إليها المعلنين عن 120 ألفاً جاهزين لتنفيذ الأجندة الايرانية. ويضاف إليهم وجود طبقة سياسية حليفة تمّ بناؤها وتنظيمها على مدى عقود، وتجري رعايتها وحمايتها باستمرار طالما أنها تحقق لها مصالحها السياسية والاقتصادية والايديولوجية من خلال وزن العامل الروحي للجمهورية الإسلامية في الداخل العراقي على حساب مرجعية السيستاني.
على أي حال جاء استهداف الفصائل المدعومة من ايران ريف دير الزور الشرقي حيث قاعدة “حقل العمر” النفطي الذي تتخذه قوات التحالف الدولي مركزاً، رداً على الضربات الجوية الاميركية التي استهدفت الحشد الشعبي عند الحدود السورية-العراقية ليعني أمراً واحداً هو أن الصراع لن يظل في جنيف عبر المداولات الدبلوماسية، وأن الرسائل الحربية المتبادلة في الميدان العراقي لن تكون أقل “اقناعا” من سواها.
Leave a Comment