سياسة

الطبقة السياسية الحاكمة تنتج الأزمات ولا تعالجها

تتكرر كثيراً مقولة عجز الطبقة السياسية التي تتولى الحكم. والاتهام مرده عدم قيام  هذه الطبقة بمعالجة أزمات البلد  التي يرزح تحت وطأة تداعياتها ومضاعفاتها السلبية، واقترابه من حافة الانهيار. علماً أن تلك الأزمات هي نتاج السياسات المعتمدة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع.

    تتكرر كثيراً مقولة عجز الطبقة السياسية التي تتولى الحكم. والاتهام مرده عدم قيام  هذه الطبقة بمعالجة أزمات البلد  التي يرزح تحت وطأة تداعياتها ومضاعفاتها السلبية، واقترابه من حافة الانهيار. علماً أن تلك الأزمات هي نتاج السياسات المعتمدة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع.  أما تفاقم الأزمات فأهم أسبابه، أداء وممارسات  متفرعات الطبقة السياسية الحاكمة التي تتناقض مصالحها مع المصالح الوطنية  للبلد والحقوق العامة لأكثرية اللبنانيين.

من بديهيات الأمور في الدولة الحديثة، أن تحتل المصالح الوطنية، موقع الأولوية  في  برامج وسياسات أهل الحكم، سواء تعلق الأمر بترقية وحدة الشعب وتقدمه، أو حماية البلد من المخاطر الخارجية، أو العمل في سبيل ازدهاره ومعالجة أزماته الاقتصادية والاجتماعية وفق وجهة نظر أو سياسات ومصالح المجتمع بمن فيه من يتولى السلطة. لكن هذه الأمر لم يكن يوماً على جدول أعمال الطبقة الحاكمة في لبنان، بالنظر إلى كونها مفككة ومتصارعة، فهي تتشكل من حاصل تجميع متفرعاتها الطائفية والعشائرية، مما يعني غياب المصالح المشتركة المعبّر عنها ببرامج وسياسات موحدة، يمكن تعريفها أو تنسيبها للوطن وأهله.

من المؤكد أن  قوى السلطة الحاكمة،  لم تسع يوماً وخلال مختلف أطوار تشكلها، لتأكيد جدارتها في تولي الحكم من خلال التزام مصالح وطنية جامعة، أو اعتناق برامج سياسية تتصل بها. واستناداً الى أسس تكوين  القوى الطائفية أو العشائرية، فإن الثابت لدى زعاماتها وأحزابها وتياراتها  الموروثة والمستجدة، هو حقوق ومصالح الحلقة الاجتماعية التي بررت نشأتها ووجودها واستمرارها، والتي مكنتها من تجديد إنتاج أدوارها ومواقع نفوذها. وعليه فإن مطالب وبرامج تلك القوى لم ترق يوماً إلى مصاف الحقوق والمصالح الوطنية ، لأنها أسيرة  قيود مدارات قواعدها الطائفية أو المذهبية او العشائرية التي تدعي تمثيلها أو النطق باسمها. هكذا كان الأمر قبل أن يتأسس الكيان في صيغته الراهنة أوائل القرن الماضي، وهكذا استمر خلال سنوات الانتداب وتكرس  طوال عقود الاستقلال. أما المحاولات المحدودة لتجاوز تلك القيود، فقد حوصرت وأحبطت،  لأن طموح أي طرف لتجاوزها، يصنف عدواناً  على الآخر يستدعي مواجهته وهزيمته. أما اجترار بعض أطراف الطبقة السياسية  شعارات عامة تشكل مبادىء، فإنه لا يتعدى ممارسة التضليل والتغطية على ما هو مخالف لها. 

على ذلك فإن أدوار وسياسات وممارسات متفرعات الطبقة الحاكمة كانت دائماً محصورة بضمان حصولها على حقوقها المرسومة، أما الشروط الضامنة لتلك الحقوق والمصالح، فهي تتمثل بتماسك قواعدها الاجتماعية وجهوزيتها الدائمة، لتحصينها وحمايتها وصد محاولات الاعتداء عليها أو المس بها، من قبل الآخرين سواء كانوا شركاء أو حلفاء أو خصوم. في حين أن الهزيمة او الفشل نتيجته الإنهيار  وتبرير ولادة البديل منعاً للفراغ. لذلك فإن انقسام المجتمع  عامودياً وتأطيره  وقولبته على أسس طائفية ومذهبية وعشائرية أو مناطقية، يشكل شرطاً ضرورياً لبقاء التيارات والاحزاب والزعامات القائمة، وأساساً لتبرير استمرارية وجودها. ولأن الانقسامات الطائفية والمذهبية والعشائرية لا تستقيم وتتبلور إلا عبر الصراع تحت راية الحقوق والمصالح الخاصة، فإن النزاعات حولها، لا تساهم في تجديد  بنيان القواعد الاجتماعية فحسب، بل هي رافعة لزعاماتها واحزابها. كما أنها في المقابل المنتج الرئيسي لمسلسلات الاضطراب المستمرة والمتناسلة خلال مختلف المراحل. ومن خلالها يمكن قراءة  مسارات استقواء قوى الطوائف بالخارج الجاهز دوماً للتلاعب بها وفق مصالحه. أما محطات النزاعات المتفجرة،  فإنها ترتبط بمواسم احتدام  الصراعات، وبلوغها مرحلة الانفجار تحت وطأة اغراءات تعديل الحصص والمكاسب في ضوء تبدل التوازنات الداخلية وتقاطعها مع عوامل خارجية. مما يسهل معه تحولها حروباً أهلية، تنتهي دائماً بتسويات مؤقتة يفرضها مستثمرو الخارج بصفتهم أوصياء ووكلاء.أما التسويات المعقودة، منذ عهود الإمارة والمتصرفية وصولاً إلى الانتداب والاستقلال، فقد استندت دائماً  الى قواعد  الانقسام الطائفي ومبدأ المحاصصة وتقاسم النفوذ، وفق آلية تراعي التوازنات القائمة من أجل ضمان مصالح  مختلف متفرعات الطبقة السياسية الحاكمة- المتصارعة- المتحالفة والمتقاتلة في آن. لذلك كان تطبيق تلك التسويات ولم يزل، مرتهناً لمعادلات الصراع حول مضمونها ونصوصها القابلين للتأويل، مما يجعلها على الدوام عرضة للنقض والتعطيل للمؤسسات والاستحقاقات.

على ذلك من الطبيعي أن تكون سياسات وممارسات  أطراف الطبقة السياسية الحاكمة منتجاً للأزمات في شتى المجالات والميادين، وليس غريباً  أن تستثمر فيها  وتستغلها من أجل تعزيز مواقع نفوذها. ليس مهماً بالنسبة لأطراف السلطة، من هم ضحايا الأزمات ما داموا لم يتحولوا قوى ضغط أو اعتراض ترفع مطالب عامة أو ذات طبيعة وطنية عابرة للطوائف. المهم بالنسبة لها إعالة قواعدها الاجتماعية من حساب الدولة، ورشوة شرائح منها وانتفاعها من الأزمات القائمة، وتسهيل الخدمات لها  خلافاً للقوانين، وتبرير الاعتداء على المال العام ونهبه.  الأهم هو ضمان ولائها، أما وسائل وأساليب التجييش والتحشيد فهي لا تختلف من طرف إلى آخر سوى في لون الرايات والأسماء، فأرشيف كافة الطوائف والمذاهب والعشائر، حاشد بشتى انواع الممارسات، وزاخر بكل منوعات ثقافة الانحطاط والإنعزال والعنصرية.

 بناءً لما ورد يصبح مستغرباً انتظار الحلول والمعالجات للأزمات على يد من تسبب بها، كأن نتوقع من القيّمين على النظام الطائفي وأركانه مثلاً أن يبادروا إلى إصلاحه وبناء دولة مدنية. أو أن نصدق التزام الاحزاب الطائفية  إلغاء الطائفية السياسية وتبني برامج بناء دولة المواطنة. كما سيكون مستهجناً أن يقوم صنّاع دويلات الطوائف بحلها طوعاً لمصلحة سيادة الدولة الوطنية. أو أن  يقود الحرب على الفساد، أبطاله والمستفيدون منه.

أما ذروة العبث فإنه يتمثل برهانات بعض دعاة التغيير على من استباح الدولة ومؤسساتها ومرافقها ومرافئها العامة وصنع ازماتها ومشكلاتها، بأن يتولى طوعاً التصدي لممارساته الذاتية، وتجنيب البلد مضاعفاتها ومخاطرها. يبدو أن العجز مقيم عند من غاب عنه، أن المطالب والحقوق تتحقق بالنضال ولا تُقدم منّةً من أحد، ونسي أن مسيرة التغيير وبناء وحدة المجتمع وضمان استقراره ومستقبل الوطن لا تصنعها الأوهام والرهانات الخاطئة. 

[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]