ثقافة

الطائفية في لبنان: التفكير مع بورديو لنقد ماركس


بول طبر*

30 آب 2021/ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

ينبغي للتحليل الدقيق للطائفية في لبنان (وفي المجتمعات المماثلة)، بوصفه شرطًا ضروريًا للتخلص منها، أن يتحرر من منظورين أساسيين لا يزالان طاغيين في هذا المجال. أما الأول، الذي نجده منتشرًا في الأوساط السياسية المحافظة في لبنان، فيعتبر الطائفية هوية ملازمة لوجود الفرد في هذا البلد (وللكيان اللبناني بذاته)، تتحكم في خياراته الخاصة والعامة بطريقة لا فكاك منها. والمنظور الثاني ماركسي، وهو، مقارنة بالأول، متقدم من دون شك في مجال الدراسة العلمية للظاهرة، إلّا أنه مهجوس بإعطاء المصالح الطبقية، حصرًا، والصراع الطبقي الدور المفتاح والرئيس في تفسير وجود الطائفية في الأساس، وما يتناسل منها من صراعات وأزمات. بذلك، لا يعود للطائفية بذاتها – ليس بالمعنى الهوياتي المتعلق بالوعي الفردي أو الجماعي فحسب، إنما أيضًا بمعناها الرمزي والمادي – أيّ دور في إنتاج علاقات دينامية خاصة بها، تخترقها علاقات القوة والانقسامات والنزاعات والرهانات والمكاسب والخسائر العائدة إلى تلك العلاقات.

وفق المنظور الأول، تتحوّل الطائفية إلى قدر محتّم، وتبقى عنصرًا أساسيًا وطاغيًا على مختلف العناصر والمكوّنات الأخرى للمجتمع في تحديد مسيرته وهويته التي ستبقى طائفية، مهما طال الزمن وتبدّلت الأحوال. المكوِّن الطائفي هو الثابت، والمتحوِّل هو كل مكوِّن آخر، ما عدا المكوِّن الطائفي. إنه المنظور الذي تحكَّم في جميع الكتابات السياسية والتاريخية والصحافية وغيرها، التي صدرت، ولا تزال، عن المثقفين المرتبطين بالنظام الطائفي في لبنان والمقتنعين بشرعيته (ينظر على سبيل المثال كتابات ميشال شيحا ويوسف السودا، ولاحقًا منشورات كمال يوسف الحاج والأب اليسوعي سليم عبو 1928-2018. ولنقد هذا النوع من الكتابات، ينظر كتاب أحمد بيضون، وفواز طرابلسي). إلى هذا، تبقى هذه الكتابات مزدهرةً ومنتشرةً، خصوصًا في وسط أبناء الطائفة الأقوى. وفي المقابل تكون أوساط الطوائف الأقل حظوة عرضةً لخيارات أكثر تنوّعًا، منها الطائفي المضاد، ومنها ما لا يَعْترف بالخطاب الطائفي، وتكون عرضةً للانجذاب إلى الخطاب الوطني واليساري في حال تداوله في الفضاء العام (هكذا كانت حال الوسط الجماهيري لأبناء الطائفة المسيحية والموارنة خصوصًا، في مقابل أبناء الطوائف المسلمة، لا سيما الشيعة، في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية في المدة 1975-1990).

أما المنظور الثاني، فيرى أن الطائفية ظاهرة تاريخية – اجتماعية تنشأ وتتحوّل وتضمر وتزول، بحسب ظروف المجتمع الذي توجد فيه. غير أن بعض أصحاب هذا المنظور، وهم في أغلبيتهم من اليسار الشيوعي الكلاسيكي، لا يزال يتعامل مع الظاهرة بوصفها أداة تضليل تستخدمها الطبقة الحاكمة لحرف وعي المستَغَلين من العمال والفلاحين عن مصالحهم المشتركة والمتناقضة مع الطبقة المستَغِلَّة لقوة عملهم. وهكذا، تتحوّل الطائفية في مختلف تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية والرمزية، وفي وعي أبنائها وتفكيرهم، إلى مجرد وسيلة في خدمة مصالح طبقة المستغِلين في المجتمع. ومع زوال هذه الطبقة وفعل الاستغلال الملازم لها، تسقط الطائفية وتتلاشى مع تلاشي المجتمع الطبقي والاستغلال الطبقي. الطائفية، إذًا، عنصر من عناصر البنية الفوقية (المستوى السياسي-القانوني والمستوى الأيديولوجي)، تتبخّر بمجرد تغيير البنية التحتية (أي نمط الإنتاج) من بنية رأسمالية طبقية إلى بنية اشتراكية تنتفي فيها الطبقات وينعدم الاستغلال الطبقي.

  • أستاذ في الجامعة اللبنانية الأميركية. حصل على بكالوريوس في الفلسفة ودكتوراه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من جامعة ماكواري في سيدني. درّس عددًا من السنوات في جامعة سيدني وجامعة غرب سيدني التي يعمل فيها باحثًا في معهد الثقافة والمجتمع. له عدة مؤلفات باللغة الإنكليزية، وكتاب في اللغة العربية بعنوان الجاليات العربية في أستراليا. له العديد من الأبحاث المنشورة باللغتين العربية والإنكليزية.

Leave a Comment