مالك ونوس *
من الصعب على كثيرين تقبل تغيير التسميات بما يتناسب مع حقائق تفرض نفسها تبعاً للوقائع والمعطيات المستجدّة، خصوصاً حين يكون التوصيف الذي تشير إليه التسمية مناقضاً للتسمية الأساسية والباقية في التداول. يُقصد بهذا الكلام جمهورية الصين، التي يشار إليها أيضاً بـ “الصين الشعبية”، هذه التسمية التي تدغدغ عواطف وأحاسيس فئاتٍ حملت أحلام التغيير، لكي تتحول الدول إلى دولٍ للعمال الفلاحين، بدلاً من بقائها تحت سيطرة القوى الرأسمالية والاحتكارات. أما هذه الأيام، فقد تغيّرت الصين، ولم تعد تلك البلاد التي تباهي بطريق تطورها الاشتراكي، إذ تفوّقت رأسماليتها على رأسماليات عريقة في الغرب في استغلال الثروات والانسان، بل تفوّقت على الولايات المتحدة التي راجت تسميتها “إمبريالية” بعد الحرب العالمية الثانية، في مشاريعها العابرة للقارات، كمشروع “الطريق والحزام” الذي يسعى لزيادة الاستثمارات الصينية في الخارج وزيادة المبادلات التجارية مع الدول في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
ومناسبة هذا الكلام ما ساد بين كثيرين من الشيوعيين واليساريين العرب، ومن لحقهم أخيراً من أتباع حلف الممانعة، من اعتقادٍ بأن الصين الصاعدة ستكون قوة اقتصادية وعسكرية تواجه الإمبريالية الأميركية، و”تقضم” حصصاً من مناطق هيمنتها ونفوذها التاريخية وتسيطر عليها، ما يُضعف هذه الإمبريالية ويُضعف قوى الاستغلال العالمي التي بنت امبراطورياتها على استغلال الشعوب الأخرى وثروات بلدانهم الطبيعية.
لطالما اعتبر الشيوعيون، من خارج الخط الماوي، الصينيين تحريفيين، لأنهم لم يلتزموا النص الماركسي، بل اتبعوا أسلوب التطوّر الذي يتناسب مع طبيعة الصين الزراعية، ووطَّنوا الماركسية لتتناسب مع الواقع الصيني، معتمدين أسلوب حرق المراحل، وضاربين النظرية التي تقول إنه لا يمكن بناء الاشتراكية إلا في مجتمعٍ وصل إلى مستوى كبير من التطوّر الاقتصادي، من قَبيل المجتمع الرأسمالي الذي يحمل في داخله إمكانية تغيير علاقات الإنتاج ونمط الإنتاج فيه ليصبح نمطاً اشتراكياً. وكان هذا سبباً للاختلاف، بل وحتى العداء بين الشيوعيين الصينيين وشيوعيي الاتحاد السوفييتي، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم حماة النص، وعلى كل من يدور في فلكهم من أحزاب ودول شيوعية التزام هذه السياسة، ولذلك عانت الصين من هجوم هؤلاء عليها ومن عزلها.
أما هذه الأيام، وبعد استفاقتهم من صدمة انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعدما انحرفت الصين عن الاشتراكية، وتحوّلت إلى دولة رأسمالية بمقياس الدول الليبرالية الجديدة، وتحوّل حزبها الشيوعي إلى جهاز دولة يُستخدم، في أحيان كثيرة، لقمع أي احتجاجات تندلع، استفاق الشيوعيون واليساريون العرب، ومن في حكمهم، على الصين فجأة، وهم المحبَطون الذين لم يروا في ثورات الربيع العربي ضالتهم للتغيير الذي ينشدونه فاجتَنَبوها. إحباط أُضيف إلى إحباطهم من أنظمة بلدانهم التي تأبى تغيير سلوكها المؤدّي إلى تفقير الإنسان وتيئيسه فقهره، علاوة على تبعيتها الكاملة للغرب الذي يرون أنه يحمي هذه الأنظمة ويمدّها بأسباب الاستمرار. استفاقوا على الصين ووضعوا أملهم فيها، لأنهم رأوا في صعودها فرصةً “تلجم الإمبريالية الأميركية”، بحسب رؤية أحد المفكرين، هذه الإمبريالية التي يعتبرونها تاريخياً رمز الاستغلال، ومصدر الشرور التي تعاني منها الدول الفقيرة، فهل تبقى الولايات المتحدة متفرّجة على الصعود الصيني وعلى التهديد الجيوساسي الذي تشكله من دون احتوائها؟ هل يعي هؤلاء حقيقة أن الصين لا يمكنها الاستمرار من دون الولايات المتحدة، وأن لها المصلحة في بقائها قوة اقتصادية جبارة، لتبقى سوقاً لتصريف بضائعها من جهة، ولأن الصين قد أصبحت أكبر مستثمرٍ في السندات الحكومية الأميركية بعد استثمارها ما يقارب تريليون ونصف تريليون دولار في هذه السندات؟
وبسبب هذه الصبيانية في التفكير، من الضروري، بين فينة وأخرى، تذكير أصحاب هذا الرأي ببعض الحقائق والمسلّمات التي يمكن عبرها تصنيف الدول. ومن السهولة في هذا الإطار تصنيف الصين وفقاً لما أصبح عليه اقتصادها، وليس تبعاً للهوية الأيديولوجية لحزبها الحاكم، خصوصاً بعد أن حادَ في أوساط سبعينيات القرن الماضي عن نمط التطور الاشتراكي، واعتمد أسلوب اقتصاد السوق في إدارة الدولة، أو ما سمّاه المنظر الماركسي البريطاني المعاصر، دافيد هارفي، “ليبرالية جديدة بخصائص صينية”، والذي مهد لظهور رأسمالية صينية قوية، أسّس إنتاجها الضخم لنشوء شركات قابضة وظهور احتكارات عابرة للقارّات. ويؤدّي هذا الاحتكار، بحسب استخلاصات فلاديمير إيليتش لينين في كتاب “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” إلى الانتقال من الرأسمالية إلى نظامٍ أعلى، فكانت اللبنة الأساسية للإمبريالية الصينية.
ومعروفٌ أن أسلوب اقتصاد السوق الذي اتبعته الصين سبّب تركُّز الثروات في أيادي فئة قليلة، تراكِم يوماً بعد يوم عشرات مليارات الدولارات في أيديها، حتى إن دراسةً مشتركةً بين إحدى الشركات المتخصصة بإدارة الثروات في العالم، وأخرى المتخصصة بالمراجعات الحسابية، أفادت قبل سنوات بأنه في كل أسبوع يظهر ملياردير جديد في الصين. وقبل أشهر، تحدثت قائمة “هورون”، التابعة لمؤسسة هورون البحثية، عن ظهور ملياردير صيني كل يوم، جمع كثيرون منهم ثرواتهم من خلال المضاربات العقارية التي عادة ما تؤدّي إلى نزع الملكيات الصغيرة من أصحابها بإجبارهم على بيعها بأثمان زهيدة. وهذا ما يؤدّي إلى احتكار الأعمال وحرمان الشركات والمصانع الصغيرة والفبارك المنزلية وأصحاب الأراضي الزراعية الصغار مصادر رزقهم وتُحولهم إلى عاطلين. وقد أدّى هذا إلى زيادة نسبة الفقر بين الصينيين وزيادة نسبة البطالة، حتى وصلت، في الربع الثالث من السنة الماضية، إلى 14,6% بين الشباب، بحسب المكتب الوطني للإحصاء الصيني، وهو ما يعدّ تجسيداً للتشخيص، أو التحذير، الذي أطلقه كارل ماركس حول مراكمة الثروة في قطبٍ ما، الذي يعني في النتيجة مراكمة البؤس والعبودية والجهل في القطب الآخر، أم أن كلام ماركس هنا يعفي الصين؟
وليست صفة الإمبريالية الملحقة بالصين جديدة، ولا هي اجتهادٌ من بعض الصحافيين أو المحللين السياسيين، بل صدرت عن دولٍ، قبل سنوات، حين بلغ حجم الاستثمارات الصينية والاستحواذ على ثروات بعض الدول الأفريقية أرقاماً كبيرة. ما حدا مسؤولاً صينياً، سنة 2012، إلى التعليق على اصطلاح “الإمبريالية الجديدة” الذي درج يومها بالقول إنه اصطلاحٌ غير منصفٍ. وأضاف المسؤول الصيني، وهو رئيس الجمعية الصينية لدراسات منظمة التجارة العالمية، سون تشن يو، في تصريح نقلته وكالة شينخوا الصينية للأنباء: “تنشر بعض الدول إشاعةً إن الصين تقوم بعملية استعمارية للاستيلاء على الموارد في أفريقيا، أو ما يدعى “الإمبريالية الجديدة”، إنها تهمة ظالمة”. وقال المسؤول إن بلاده تساعد الدول الأفريقية عبر مدّ الخطوط الحديدية وشقّ الطرقات وبناء المدارس والمستشفيات، غير أنه لم يقل إنها تبني الجسور وتطوّر الموانئ والمطارات، لتحقيق الهدف الأهم، المساعدة على إيجاد بيئة مناسبة لاستثمارات الشركات الصينية والوصول السريع إلى مكامن الثروات الباطنية، من نفط وذهب وألماس واستغلالها. وتحدّث الرجل عن قروضٍ تمنحها بلاده لعدد من الدول، بينها دولٌ أفريقية، لكن هذه القروض عادة ما تكون بمثابة رشىً لزعماء هذه الدول الذين يحوّلونها إلى حساباتهم السرّية في البنوك الأوروبية، حارمين أبناء البلاد الاستفادة منها. أما حين تتعثر هذه الدول وتتخلف عن تسديد ديونها، تفرض عليها الصين طريقتها للتعويض، عبر المقايضة ببسط هيمنتها على ثرواتها الباطنية ومرافقها الحيوية، كما حدث حين فرضت على سيريلانكا اتفاقية استحوذت بموجبها على 70% من أسهم أحد مرافئها، بعد عجز الأخيرة عن سداد قرض بقيمة مليار ومائة مليون دولار استجرته من أحد بنوكها.
لم يترافق التقدّم الصيني بتطور على الصعيدين، الاجتماعي والسياسي، إذ لم تتغير نظرة القيادة الصينية إلى موضوع الحقوق أو موضوع الحريات العامة والفردية التي تحدّد مدى تطور الدول، بل بقيت بمثابة تابوات يُمنع مسّها أو التطرّق إليها. ومارست جرائم جماعية عبر تماديها في انتهاك حقوق الأقليات، مثل أقلية الإيغور المسلمين، واستخدامها الفيتو لمنع مجلس الأمن من إدانة اضطهاد مسلمي الروهينغا في ميانمار، حيث الحكم العسكري الذي لم يكن له أن يدوم من دون دعم الصين، علاوةً على محاولاتها لوأد الديمقراطية المكتسبة في هونغ كونغ، بعد عودة الأخيرة إلى السيادة الصينية أواخر القرن الماضي، على الرغم من أن الاتفاق الذي حدّد عودتها منحها الاستقلالية في شؤونها الداخلية، فتتدبر بنفسها أمنها الداخلي، وتصوغ قانونها الانتخابي الخاص، علاوة على القوانين الأساسية، وهو ما تحاول دائماً الصين الانقضاض عليه لفرض هيمنتها عليها.
كذلك استمرت الصين بسياستها الخارجية بالوقوف إلى جانب الدول والأنظمة القمعية، جديدها أخيراً وقوفها إلى جانب الانقلابيين في السودان، حين التقى السفير الصيني رئيس الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، بعد أيامٍ من انقلابه، بينما خرجت دعوات شعبية إلى عزل الانقلابيين وعدم الاعتراف بسلطتهم. وفي مسار استغلالها الدول الأفريقية، لم تكن مسألة حقوق الإنسان أو محاربة الفساد شرطاً تفرضه الصين قبل الاستثمار في هذه الدول أو مدّها بالقروض، كما يفعل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولو من باب الدعاية، بل نادراً ما تولي هذه المسائل اهتماماً.
إذا كانت الصين ستُضعِف الإمبريالية الأميركية فتقلل من توحش الرأسمالية والاحتكارات فيها وفي بقية دول الغرب، فهي لن تفعل ذلك إلا لنشر هيمنتها محل الهيمنة الأميركية المتقهقرة تحت ضربات الصين المفترضة. لذلك، حريٌّ بمن يحلم بالتخلص من أميركا بأيادٍ صينية، من أجل إحداث تغيير في واقع بلاده، وربما منطقته، أن يبحث عن سبلٍ أخرى لهذا التغيير، لا أن ينتظر عشرات السنين مراقباً لحظة حدوث الاشتباك العظيم بين الإمبرياليتين، في عصرٍ أصبح الجميع فيه يمدّ يد العون لخصمه لمنعه من السقوط، وهي حركةٌ لم يعد يضبطها إلا إيقاعٌ واحد هو إيقاع المنفعة.
* نُشرت في العربي الجديد في 31 كانون الثاني / يناير 2022
Leave a Comment