بقلم مايكل سينغ*
ظلت إدارة بايدن، طوال القسم الأعظم من الأشهر الماضية، تعاني لأجل إيجاد السبل الآيلة إلى تخفيف أسعار النفط، في خضم صدمة الحرب الروسية في أوكرانيا. وحين قررت “أوبك بلس”، وهي مجموعة من الدول المصدرة للنفط، خفض إنتاج النفط مقدار مليوني برميل يومياً في أوائل أكتوبر (تشرين الأول)، كان رد فعل واشنطن قاسياً. فأكدت سكرتيرة البيت الأبيض الصحافية كارين جان بيار، “إن أوبك بلس تنحاز بوضوح إلى روسيا”. وكانت الانتقادات الحادة أكثر إثارة للدهشة لأنها وجهت إلى المملكة العربية السعودية، التي تعد، إلى كونها أكبر بلد منتج للنفط في المجموعة، شريكاً مهماً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ومن منظار موضعي كان اتهام البيت الأبيض صحيحاً. فالمملكة العربية السعودية وروسيا عضوان في “أوبك بلس”. وتلتزم المنظمة تجنب المنافسة التي من شأنها أن تخفض عوائدهم من التصدير. وأعضاؤها مجمعون على السعي في تحقيق مصلحتهم. ومع ذلك بدا التصريح أبعد هدفاً: أكدت إدارة بايدن أن الرياض، على رغم العلاقات الأمنية القديمة التي تربطها بواشنطن، تنحاز إلى روسيا سياسياً، فتدعم فعلاً حرب موسكو في أوكرانيا، وتضعف الجهود الغربية الرامية إلى تدفيع روسيا ثمن الحرب.
وتتماشى النظرة الثنائية للإدارة مع منظورها الأوسع نطاقاً في ما يتصل بالشركاء. فمنذ وصول إدارة بايدن إلى السلطة، كثيراً ما تتخذ الإدارة نظرة ثنائية إلى النظام العالمي – “منافسة بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية”، وفق استراتيجية الأمن القومي لعام 2022 التي صاغتها الإدارة. وهي تميل إلى تصوير القرارات التي يتخذها شركاؤها باعتبارها اختباراً للولاء للولايات المتحدة.
وهذه رؤية لا يشترك فيها كثر من شركاء أميركا. وليس واضحاً لمعظمهم أن الانحياز القاطع إلى روسيا أو الصين، أو إلى الولايات المتحدة، هو ثمرة خيار. فموسكو وبكين لا حلفاء لهما، بل عملاء . وفي هذه الأثناء تمر أميركا بمرحلة تتقلب فيها أولوياتها الدولية، مما يجعل شركاءها أقل يقيناً من دوام اهتمام واشنطن غداً بما يشغلها اليوم، أو من أن دعمهم الولايات المتحدة في مسألة معينة يضمن لهم معاملة بالمثل من قبل الولايات المتحدة في مسائل أخرى. وعليه، يسعى عدد متزايد من شركاء الولايات المتحدة إلى تجنب الانحياز التام، والحفاظ على علاقات بالقوى العظمى كلها في وقت واحد. ويعني هذا أن الحاجة تدعو الولايات المتحدة إلى انتهاج استراتيجية أكثر وضوحاً. وفي مواجهة شركاء من غير المرجح أن يلبوا رغبات واشنطن كلها، يتعين عليها أن تتبنى نهجاً أكثر ذكاء، وأكثر صرامة في التعامل مع النظام الدولي، وذلك على نحو يعزز نفوذها إلى أقصى حد في عالم متعدد الأقطاب.
ما سبق كله، وليس كل شيء أو لا شيء
ويعتبر معظم البلدان المنافسة بين القوى العظمى، التحدي الأعظم الذي يواجه مصالحها، وليس تهديد قوة عظمى واحدة القوى الأخرى. فالسعوديون، مثلاً، يعدون الصين شريكهم الاقتصادي الأول، ويستهلك نحو 20 في المئة من صادراتهم. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2022، أعلنت المملكة العربية السعودية أن الرئيس الصيني شي جين بينغ سيزور المملكة – في ثالث رحلة يقوم بها إلى الخارج منذ بداية جائحة كوفيد-19 [وحصلت الزيارة فعلاً]. وفي الوقت نفسه، يعتبر السعوديون الولايات المتحدة شريكهم الأمني الأول. والاضطرار إلى تقديم علاقة على الأخرى – أو إلى تقليص إحداهما تقليصاً كبيراً – مكلف. وعلى هذا فالمملكة العربية السعودية، شأن كثير من البلدان المتوسطة الحجم الأخرى، تسعى، بدلاً من ذلك، إلى الحفاظ على كلتا العلاقتين.
وفي الشرق الأوسط وحده، تعد بعض الدول شركاء حوار، حاليين أو مستقبليين مع منظمة شنغهاي للتعاون. وهي مجموعة سياسية واقتصادية وأمنية محورها الصين، وتوصف أحياناً، على قدر كبير من المبالغة، بالبديل من منظمة حلف شمال الأطلسي. ويقال إن المملكة العربية السعودية ومصر أعربتا عن اهتمامهما بالانضمام إلى منظمة “بريكس”، وهي مجموعة من بلدان الأسواق الناشئة، الهند والصين عضوان فيها على رغم المنافسة المتعاظمة بينهما (تجمع “بريكس” الأحرف الأولى للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). كذلك أبدت تركيا، الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط المتحالفة رسمياً مع الولايات المتحدة، اهتماماً بأن تكون عضواً في المنظمتين.
ويقترح بعض الباحثين، مثل بول بوست من جامعة شيكاغو، أن توسيع عضوية “بريكس” ومنظمة شنغهاي للتعاون مقدمة لنشوء “نظام دولي بديل”. ولكن الدول التي تسعى إلى تعميق مشاركتها في منظمة شنغهاي للتعاون، وفي “بريكس”، لا تنأى بنفسها عن مجموعة الدول السبع، أو منظمة حلف شمال الأطلسي، أو الأمم المتحدة. وبدلاً من بناء نظام تنافسي، يرفض عدد متزايد من الدول النظام العالمي الثنائي – أو هو يسعى إلى الإفلات من القيود والعواقب المترتبة عليه – من خلال إبقاء قدم في المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة، والأخرى في المؤسسات المتعددة الأطراف التي تقودها روسيا والصين. وكثير من هذه الدول كانت غير منحازة في أثناء الحرب الباردة، وتنحاز اليوم إلى جميع الأطراف معاً بدلاً من ذلك.
ومن طريق تبني نهج كهذا، يسعى بعض الدول، منها تركيا والمملكة العربية السعودية، إلى تقليص أكلاف تنافس القوى العظمى إلى حده الأقصى، وتعزيز منافع المنافسة. ومع تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى، أصبحت الدول الصغيرة والمتوسطة الحجم عرضة، في شكل متزايد، إلى مطالب متنازعة – مثل اشتراط الصين دعم سياساتها تجاه هونغ كونغ وتايوان، أو طلب الولايات المتحدة تجنب الاستثمار في البنية التحتية وتكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات في الصين. ويرجح اعتبار كلا الجانبين دولة معينة شريكاً معقولاً استهداف دولة بالإقناع، وليس بالعقوبات، وتهدئة القوة العظمى المهتمة لقاء أكلاف منخفضة نسبياً وعدم استفزاز القوة الأخرى.
وتحتسب دول كثيرة منافع من هذه الاستراتيجية. فالانحياز إلى الجميع عوض عدم الانحياز يعني – نظرياً إن لم يكن فعلاً – التأثير في عملية اتخاذ القوى العظمى القرار، إلى الاستمتاع بمزايا هذا الانحياز. وتتعاظم هذه المزايا في حال خشية إحدى القوى العظمى خسارة شريك لمصلحة قوة أخرى. ويتولى الانحياز إلى الجميع مهمة التحوط من استحالة توقع سلوك القوى العظمى. وهذا التحوط أوضح ما يكون في الشرق الأوسط، إذ مستقبل المشاركة الأميركية والصينية مبهم، وحيث يجد حتى أقرب شركاء الولايات المتحدة علاقاتهم بواشنطن غير مستقرة على نحو متعاظم بسبب السياسات المحلية الأميركية.
ولا شك في أن مثل هذا التحوط تترتب عليه أكلاف. وشراء تركيا عام 2017 نظام الدفاع الجوي الروسي “إس-400″، في مخالفة لعضوية تركيا في منظمة حلف شمال الأطلسي، أدى إلى طردها من برنامج المقاتلات “إف-35”. وكان رفض دولة الإمارات العربية المتحدة تقليص علاقاتها الأمنية والتكنولوجية ببكين سبباً في تعثر صفقة شرائها مقاتلات “إف-35” من الولايات المتحدة. وقد يعزز رفض هنغاريا المشاركة في العقوبات الأوروبية على روسيا عزم بروكسل على حجب أموال الاتحاد الأوروبي عن بودابست بسبب مخاوف تتعلق بسيادة القانون. وإسرائيل نفسها، وهي من أقرب حلفاء الولايات المتحدة، شاهد على حلول مشكلة علاقاتها.
وقد تستسلم الولايات المتحدة لإغراء توجيه إنذار نهائي إلى شركائها المستسلمين للتحوط ، وينبه الإنذار الشركاء إلى أن المنافسة مع روسيا أو الصين تقتضي منهم اختيار أحد الطرفين. وإذا واصل الشركاء التعامل مع هؤلاء المنافسين فقد تضطر واشنطن إلى تقليص علاقاتها التفضيلية بهذه الدول. ولكن مثل هذا النهج ليس عملياً. فمن ناحية، لا يمثل كثير من أشكال التعاون بين شركاء الولايات المتحدة وبين روسيا أو الصين – الشطر الغالب من التجارة عبارة عن سلع – تهديداً كبيراً لمصالح الولايات المتحدة، ولا يستحق معارضة شديدة. وإلى هذا، وفي ما يتصل بالصين، قد يكون قطاف ثمرة الإنذار النهائي مستحيلاً. وذلك لأن اقتصاد شركاء الولايات المتحدة متشابك مع اقتصاد بكين – وهذا فارق رئيس بين المرحلة الحالية من المنافسة بين القوى العظمى وبين المرحلة السابقة. وعلاوة على ذلك، من المحتمل أن يؤدي طلب كهذا إلى طلبات من شركاء الولايات المتحدة للحصول على ضمانات اقتصادية وأمنية أكثر صرامة، قد تتردد واشنطن في تقديمها أو قد تعجز عن ذلك.
*فورن أفيرز، ديسمبر (كانون الأول) 2022
Leave a Comment