نجح الحراك الشعبي في كل من السودان والجزائر في إسقاط حكم الرئيسين عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة ، كما تمكنا من اختراق دور المؤسسة العسكرية التي كان يراهن عليها الحكمان السابقان في استمرارية نظاميهما، وإن غاب شخصاهما عن المشهد. وبدلاً من ذلك بات العديد من رموزيهما المدنية والأمنية في السجون. مما يعني أن شوطاً متقدما من الإنجازات تم اجتيازه، وما زال هناك المزيد أمامه لترسيخ التغيير وبناء سوية حياة ديموقراطية، يتداول خلالها المجتمع السلطة، وتعمل قواه الحية على المشاركة في الحياة السياسية، واستعادتها من الثكنات ودوائر المخابرات والملاحق، والتصدي للمشكلات العاصفة بكلا البلدين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وهي كثيرة وكبيرة على أي حال.
وما تميز به الحراكان كان مشاركة الملايين من أبناء الشعبين وقواهما الحية في التعبير عن غضبها ورفضها ما آلت إليه الأوضاع، ونزولها المتواصل واليومي إلى الشارع معلنة قرارها في صنع التقدم . وقد استطاع التحركان إعادة النبض إلى الانتفاضات العربية التي عرفتها المنطقة منذ اضرام البوعزيزي النار في نفسه في العام 2011. ومع أن تلك االتحركات قد شملت معظم الدول والشعوب العربية، إلا أنها أُغرقت بالدماء في كل من ليبيا واليمن وسوريا ومصر. من هنا تنبع أهمية إعادة الروح لهذا النبض السلمي مستفيداً من تجارب العقد الذي مرَّ لإعادة انتاج الحراك المعارض، بمضمون أكثر وعياً للمخاطر وبأشكال متنوعة ومبتكرة. ويظل الأهم هو تمكنهما، وكل في ساحته من فتح مسام المجتمع ومكوناته على مساحات النضال المشتركة تحقيقاً لحلم التغيير، بعد أن تكلست مؤسسات الدولة وما تملكه من أحزاب ومؤسسات سياسية وأمنية، بعد ثلاثة عقود من الزمن لكليهما على الأقل.
ففي الجزائر نجح المتظاهرون في إنهاء محاولة بو تفليقة تجديد ولايته على البلاد للمرة الخامسة، دون أن يملك القدرة الجسدية والنفسية على ذلك، بينما الفعلي أن آخرين من وراء الستار وخارج التكليف يتولون مهمة الحكم دون مسؤولية دستورية أو شرعية. أما البشير فقد كابر بداية ضمن طموح تجديد نظامه الفاسد تحت مسمى آخر من ذات التركيبة العسكرية التي أخضعت البلاد لحروب متناسلة مزقت وحدتها الترابية وفرضت نوعاً من العنف المقيم بين تشكيلاتها القبلية والاجتماعية وإفقار الفئات المفقرة أصلاً. وإنجاز الإطاحة بكل من بوتفليقة والبشير ما كان له أن يتحقق لولا الإفادة من التجارب التي عاشتها الانتفاضات والتحركات العربية، لذا لم يعد ينطلي على هذه الشعوب الثائرة على طغيان وفساد حكامها المجئ بالتركيبة البائدة نفسها لتكرار المشهد الذي خبرته الجماهير طويلاً. وكلا الحراكين يعمل تباعاً الآن على إقصاء طاقم النظامين الذي شارك في المآلات التي وصلت إليها الأوضاع، ومنعها من محاولة العودة من النافذة بعد أن جرى إخراجها من الباب.
والمهم في كلا الحراكين هو أن القوى المنضوية في اطاريهما تنتمي إلى المجموع الديموقراطي المجتمعي، ولا تمثل فئة واحدة من فئاته أو تياراته السياسية، ما وضع الجماعات الاسلامية التي سبق وشاركت النظامين، بعد أن قادت مغامرات دموية كلفت البلاد الارواح والمقدرات، في خانة العزل، علماً أنها حاولت ركوب موجة الحراك وتجييره لصالحها. لكن القوى الديموقراطية في السودان والجزائر حالت دون ذلك، وأكدت على ديموقراطية تحركاتها وعلمانيته، انطلاقاً من الحشود المليونية التي انضوت في التظاهرات وأعمال الاحتجاج التي عمت العاصمتين والمدن والأرياف.
إن الثوار الجزائريين والسودانيين، بقيادتيهما في المنظمات السياسية والمهنية كـ “تجمع المهنيين السودانيين” المنضوي في “إعلان الحرية والتغيير”، جهدوا للتأكيد على الاصرار على انتزاع مطالبهم واحدة إثر أخرى، وعلى سلمية الحراك الثوري الذي يخوضون، تجنباً للدخول في دوامة عُنف يقع حراكهم فريسة سهلة له، ويُغرق البلدين في بحر من الدماء والدموع والدمار. إن المثابرة التي عبرت عنها ملايين المتظاهرين هي التي استطاعت بالتدريج أن تنتزع ما تم انتزاعه من حقوق، دون أن يعني أن كل ما تطمح له قد تحقق، إذ ما زالت هناك العديد من المفاصل التي تتطلب المواجهة توصلاً إلى تحقيق الانتقال الذي يفتح على التصدي للمعضلات التي تركها وراءه نظاما الحكم، مع كل ما رافق ممارستهما خلال عقود من ارتكابات وتشويه وافتئات على الحقوق البديهية للأغلبية العظمى في تأمين العيش الكريم. لقد أنهى التحركان عهود المافيات العائلية والأقلوية التي تحلقت حول شخصي البشير وبوتفليقة وبات المطلوب هو وضع الأسس التي تضمن عدم نهوض هذا الماضي من قبوره العميقة. على أن ما تحقق لم يكن ابن ساعته التي تتجلى بالأسابيع التي أمضاها المتظاهرون في الساحات العامة والشوارع، بل هو محصلة عملية تراكمية متكاملة، تمثلت مقدماتها في حشد قوى الاعتراض معاً على اختلاف منابتها، وقرارها مواجهة صلف وعنجهية السلطات، ومن تولى حراستها والتي تبين عند وضعها أمام محك الامتحان، أنها أعجز عن صياغة ما يمكن أن يرتقي إلى مستوى الحلول للمعضلات التي سقط البلدان في لجتها، سواء على صعيد تجديد الحياة السياسية وانتظامها ضمن مؤسسات قادرة على ضخ المزيد من الدماء الشابة في عروقها، أو الاقتصادية عبر اطلاق طاقة الاقتصاد وتنويعه بدل الاعتماد على المصدر الطبيعي الوحيد والذي يخضع لتقلبات السوق العالمي، والذي تعتاش منه البلاد، وتذهب عوائده في معظمها إلى جيوب حفنة من كبار المنتفعين في المؤسستين السياسية والعسكرية.
لقد تواكب النضال من أجل حماية مستقبل الجزائر عبر رئاسة حقيقية وليس رئاسة صورية يحكمها مافياويون من خلف ستارها، وكذلك ثورة الخبز التي انفجرت في السودان إثر رفع سعر هذه السلعة الأساسية مع الوقود… إن هذا يؤكدا على تكامل معركة الديموقراطية والخبز والكرامة الوطنية بديل البطالة والهجرة والحروب المتناسلة. إن الكأس قد فاض بالجزائريين والسودانيين معاً فاندفعت جموعهم نحو صياغة مستقبلها غير عابئة بالتهويل والتهديد الذي جرى التلويح باللجوء إليه.
[author title=”محرر الشؤون العربية” image=”http://”]محرر الشؤون العربية[/author]