بات المسؤولون اللبنانيون في مواقع السلطة ” مُتمسحين”، لا تؤثر في أبدانهم أو عقولهم التظاهرات الهادئة والصاخبة، ولا البهدلات والتقريع الكلامي المكتوب والمسموع. فالصحف الغربية والساسة والخبراء الدوليون والمحليون والموفدون وآخرهم وزير الخارجية الفرنسي أعادوا مراراً وتكراراً على مسامعهم تلاوة المزامير المعروفة، حول السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد مما أصبحت فيه، سواء أسميناه كما جاء في الصحف العالمية جهنم أو المجاعة أو الكارثة الزاحفة. لكن كل التنبيهات و التحذيرات لم تؤثر، ويبدو أنها لن تؤثر بهم. ويتأكد أنه لم يعد يعنيهم الواقع المقيم أو المصير القاتم، باستثناء متابعة نهجهم التدميري لما تبقى من مقومات البلاد وسبل عيش المواطنين. لذلك تظل الأزمة تراوح مكانها دون التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام من أجل اعتماد أوليات حلول على الأقل، باعتبار أن الحلول الفعلية تتطلب سنوات من العمل الشاق والمضني.
وهكذا تدور المفاوضات دون أي خطوة تقدم إلى الحد الذي أصبح فيه ممثلو صندوق النقد الدولي يوجهون الإنذار تلو الآخر من أنهم سيقطعونها، باعتبارها أنها ما تزال في المربع الأول أو نقطة الصفر، رغم عقد أكثر من 18 جولة لم يجرِ فيها الدخول في صلب الموضوع وهو كيفية مواجهة الوضع الراهن الذي يلقي بثقله على اللبنانيين من الفئات الوسطى والمحدودة الدخل، وبالطبع على قطاعات العمل ومرافق الإنتاج. كان المسؤولون اللبنانيون يعتقدون أنهم بالقليل من التذاكي والوعود والتشاطرعلى الصندوق يمكن أن تُفتح خزائنه لهم، فتصل الأموال منه فيعاودون سيرتهم الأولى في الإنفاق دون حسيب أو رقيب، يحولون ما يشاؤون منها إلى حساباتهم الخاصة خارجياً، وينفذون في الفُتات المتبقي مشاريع صورية أو وهمية تخدم مصالحهم المالية والسياسية … وعليه تبقى الأوضاع تراوح مكانها ويخسر لبنان واللبنانيون وقتاً ثميناً كان يمكن انفاقه في ما هو مجدٍ ، وبما يعيدهم إلى خارطة الانتظام الاقتصادي داخلياً واقليمياً ودولياً. ولأن هذه السلطة قد “تمسحت” منذ عقود وعقود وقد ازدادت “تمسحة ” مع حكومة الرئيس حسان دياب فلا شئ يغير في سلوكها، رغم أن من هم في الخارج يعيدون عليها دون جدوى الدرس الاصلاحي مرة بعد مرة ” ساعدوا أنفسكم لنساعدكم” على حد توصيف لودريان.
والواضح أن هذه السلطة التي تباهى رئيسها بإنجازات وصلت إلى 97% مما وعدت به، أشبه ما تكون بمن سقط في مستنقع موحل وبدل أن يعمل على عبوره بأقل جهد ممكن، يتخبط فيه ما يجعل الخروج منه مستحيلاً. فالخطة الاقتصادية التي أعلنتها الحكومة والتي تضمنت من الأخطاء أكثر مما فيها من صحة، باتت أبعد عن أن تكون بمثابة برنامج مقنع للداخل ومع المفاوضين الدوليين. وعليه فقد أصبحت بحكم الساقطة بعد أن تنصل منها الذين أعدوها. وزاد الطين بلة تخلي الكتل النيابية عنها، ووضعها ثقلها في لجنة تقصي الحقائق النيابية التي أطاحت بالكامل بالخطة، وما تضمنتها من أرقام وتقديرات ومشاريع حلول. أكثر من ذلك ما تزال الأطراف اللبنانية عالقة وسط صراعات تدور على نحو علني بين الحكومة والعهد ووزارة المال والمصرف المركزي وجمعية المصارف على صعيد تحديد حجم الخسائر وتوزيع المسؤولية عنها وكيفية الخروج منها. والأبلغ وأكثر دلالة هو موقف الحكم والحكومة في رفض اعتماد كل ما يمت بصلة إلى الاصلاح المطلوب. فقد أسقط العهد الاصلاح القضائي من خلال رفض تشكيلات مجلس القضاء الأعلى، وأكمل ذلك بالطعن أمام المجلس الدستوري بالشروط والمواصفات التي حددها مشروع قانون مجلس النواب لإشغال وظائف الفئة الأولى، ما أثار حفيظة العديد من الكتل النيابية، وذلك لإبقاء قرار اختيار مفاتيح الإدارة العامة ضمن التوزيع المعروف في نظام الزبائنية . وكانت التعيينات المالية وغيرها، التي تمت بمثابة عودة إلى نظام المحاصصة على نحو فاقع . ولكن الأكثر دلالة هو ملف الكهرباء المسؤول عن حوالي نصف عجز الدولة والعودة إلى إقرار إنشاء معمل سلعاتا الذي سبق للحكومة وأن تخلت عنه.
والواقع أن الكتل البرلمانيّة وتجمع الأقطاب السياسيين وكل لحسابه الخاص يعملون على تعميق الهوة التي ترزح تحتها البلاد، فهؤلاء يمررون هذه السياسات أو تلك خدمة لمصالحهم، حتى ولو كان ثمنها قطع كل سبل الخروج من الأزمة. فهذه الكتل بما هي التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي وسواهم تتراوح في موافقها بين هذا التوجه وذاك، ما أعاق مثلاً تكليف شركة كرول بالتدقيق الجنائي، وحصره بالمصرف المركزي دون سواه من إدارات عامة كشركة الكهرباء ووزارت النفط والمالية والأشغال وغيرها.. والأسوأ من ذلك كله تلك المعالجات التي تستهدف تجريد المصرف المركزي مما لديه من دولارات عبر ضخها إلى الصيارفة أو غيرهم تحت عناوين مموّهة دون أدنى تأثيرات ايجابية.
حتى اللحظة لم تظهر أي مؤشرات ايجابية على الوصول إلى تفاهم مع الصندوق تفضي الى اتخاذ قرار بمساعدة لبنان، لا بل أن المؤشرات توحي بالعكس، ففريق الصندوق لم يتراجع عن مطالبه الإصلاحية، والحكومة لم تتقدّم خطوة إلى الأمام، ما يعني أن نفق الأزمة النقدية والاقتصادية لا نهاية له. ومع مثل هذا الوضع القاتم تتهاوى القطاعات ويستعر الصرف الكيفي في مرافق ومؤسسات لم يحصل أن تأثرت بالزلازل السابقة التي مرت على البلاد، فاعلان مستشفى الجامعة الاميركية عن صرف 850 موظفاً ليس خبراً عادياً، وقطاع الاستشفاء برمته يبدو على شفا الانهيار كما يعلن نقيبه، أما القطاع التعليمي فأقصى ما حصل عليه هو دعم فرنسي للمدارس الفرانكوفونية بقيمة 15 مليون يورو، بينما سواها من مدارس وجامعات تتجه نحو الاقفال، أو في أحسن الأحوال تقليص برامجها، وبالتالي صرف قسم كبير من إدارييها وأساتذتها. والقطاعات الأخرى سبق وصرفت مئات ألوف العاملين. وفي مثل هذا االوضع تحضر قضية تفشي وباء الكورونا في البلاد لتزيد البلاء بلاءً. وبالاختصار يمكن القول إن الاستحقاقات السياسية والاقتصادية الداهمة من شأنها مضاعفة المأزق الذي يدفع ثمنه المواطنون من عملهم ومقومات عيشهم.
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]