محسن زين الدين*
أن تكتب عن محسن إبراهيم كمن يروي نصف حلم، حيث أن نصف الحلم الآخر لم يدركه لشدة ما اندمج في نصفه الأول. تعرفت على “أبو خالد” في أوائل سبعينيات القرن الآفل في مجلة “الحرية”، أو استدراكاً اوائل تأسيس منظمة العمل الشيوعي في لبنان، في لقاء محسن إبراهيم تمسح صفحة تفكيرك لتصبح كورقة بيضاء، يملؤها كلامه تحليلاً وتصنيفاً وتوجيهاً وتخطيطاً ومهاماً. وكأنك تخرج من اللقاء بنسخة من كتاب مزهواً بأنك حصلت على نسختك الخاصة.
كان أبو خالد بالنسبة إلينا، نحن أعضاء تنظيم لبنان الاشتراكي، إنه ذلك الآتي من حركة قومية، علينا نحن أبناء لبنان الاشتراكي مهمة صقل معرفته بالماركسية، وبالتالي صقل معرفة أعضاء منظمة الاشتراكيين اللبنانيين. ذلك أن غرورنا الثقافي كان يهاجم أغلب التنظيمات والاحزاب كبيرها وصغيرها، معتمدين النقد اللاذع الذي لا يؤدي الى لقاء بل الى اتساع هوة. وكنا نعتبر أننا نمتلك بوصلة السياسة الثورية. وحين ولدت منظمة العمل الشيوعي في لبنان تحت طائلة الاندماج بين لبنان الاشتراكي ومنظمة الاشتراكيين اللبنانيين، بدا لنا في لبنان الاشتراكي أننا حققنا نصراً، وأن منظمة الاشتراكيين التحقت بنا فشكلنا منظمة العمل الشيوعي في لبنان.
مرت الايام والمنظمة الجديدة تشق طريقها بنشاط، وكان يتجاذبها طرفان، ذلك الذي تغريه النظرية والنظرية فقط، وذلك الذي يتعرف على النظرية، لكنه يمتلك مقومات العقل الثوري والفعل الجماهيري، وهذا كان جناح منظمة الاشتراكيين وفي المقدمة منها محسن ابراهيم.
واختلفنا وافترقنا بين طلاب نظرية ثورية استمروا طلاباً، وبين رواد عمل تزودوا بالمعرفة واندمجوا بالمجتمع يدفعون باتجاه التغيير، ونتج عن ذلك انشقاق قادة لبنان الاشتراكي وانكفاء البعض الآخر. على إني رافقت “ابو خالد” منذ اواخر سنة 1974 حتى اوائل 1976 حين تم انتخابي ضمن الحلقة القيادية الضيقة لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، والتي لم يتجاوز عدد اعضائها سبعة، معظمهم ممن كانوا في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين.
كان اجتماعاتنا تتالى اكثر من مرة في الاسبوع الى حد قد يتجاوز الثلاث اجتماعات في الاسبوع، في كل اجتماع كان ابو خالد يقدم مداخلته ذات الشقين، الداخلي المتعلق بعمل المنظمة ومهامها على امتداد الساحة اللبنانية، والشق الخارجي المتعلق بعمل المجلس السياسي المركزيّ للحركة الوطنية، والذي كان يشغل موقع امينه العام التنفيذي. كان في بعض الاحيان يبدو لنا من فرط حماسته للعمل المشترك في الحركة الوطنية ومجلسها السياسي، ان “ابو خالد” يمثل الحركة الوطنية في منظمة العمل الشيوعي، لما كان يحمله ويسكنه من همّن نجاحها وهاجس وحدتها وتماسكها، بصفتها الطرف اللبناني في الصراع الدائر، حيث كانت مبدئياً تتنكب مهمة التغيير نحو إقامة الدولة المدنية العلمانية في لبنان. ولذا اطلقت برنامجها الاصلاحي الوطني، كما حملت اثقال مناصرة قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته في مواجهة ما حيك ويحاك لها في الداخل اللبناني.
هاتان المهمتان، مناصرة فلسطين شعباً ومقاومة من ناحية والعمل على تغيير موازين القوى الداخلي لصالح الحركة الوطنية وفرض برنامجها الإصلاحي طريقاً للتغيير بمساعدة المقاومة الفلسطينية. وعلى هاتين القضيتين، أطلق ابو خالد بشجاعة القائد ذلك النقد الذي تلقفه الخصوم لغاية رموا إليها قبل أن يتلقفه الاصدقاء الذين أثار لدى اغلبهم حقائق لم نكن جميعاً في وارد رؤيتها، وقد يكون أيضاً هناك بعض من الاصدقاء الذين لم يرق لهم ذلك، ولأنهم كانوا شركاء فيما انتقده محسن ابراهيم. في كل اجتماع لقيادة المنظمة كان ابو خالد يقدم ويحلل ويقترح ويحدد المهام. كما كان يسأل ويستوضح ويبدي كل اهتمام بأدق التفاصيل، وحتى يحاول استدراجنا لقول ما لا نبوح به من آراء أو اقتراحات. وللحقيقة امام ما كان يقدمه ابو خالد لم نكن “أغلبنا” لنجد ما يمكن إضافته على ما قدم، وحتى لا أكون مجحفاً كان بعض الرفاق يدلي بدلو من الافكار، لكنه كان كمن يحاول ان يضيف بعض قطرات من الماء لا مكان لها في وعاء ملأه ابو خالد كفاية دون هدر.
أبو خالد ذلك الحلم الذي انكفأ نصفه الثاني لأكثر من عقدين زمن جفت فيهما أغلب عوامل التغيير، بعد أن كنا قد حملنا الآمال ونحن نعيش نصف حلمنا الأول.
في كل ما مرّ على المنظمة بانخراطها بالعمل الشعبي والمسلح، كان همه مسألتين اساسيتان، سلامة الرفاق ووضوح الرؤيا والعمل.
أبو خالد لن أرثيك لأن بعد الرثاء نسيان. وانت العصي على النسيان.
أبو خالد لن اقول وداعاً، لأن الوداع انقطاع العلاقة بالقوة وأنت الرفيق الدائم.
أبو خالد لن اقول الى اللقاء لأنك ستبقى في حلمنا الباقي نسمع منك كلمات الأمل.
وإلى رفاقك في المنظمة التي كنت أمينها العام ولا زلت دليلها العام، عليكم العمل لتحقيق النصف الثاني من الحلم الذي لم ندركه مع ابو خالد، بناء وطن بدولة مدنية علمانية ديمقراطية.
*عضو قيادي سابقاً في منظمة العمل الشيوعي في لبنان
Leave a Comment