صحف وآراء مجتمع

الحرب على غزة والصدمات النفسية لأطفال “لا يكبرون”!

البروفسورة بهاء يحي*

كيف لنا أن نكتب وسط كل هذا اللا معقول الذي نعيش، وسط كل هذا الإنحياز واللاإنسانية، وسط كل هذه الصور التي تتوالى عن مجازر العدوالإسرائيلي في غزة-العزة الأبية الصامدة في وجه الظلم والهمجية والغطرسة… غزة فلسطين تلك القضية التي تسكن قلوبنا وعقولنا منذ ولادتنا، فأخبار النكبة والنكسة تجتاح وعينا ولا وعينا الفردي والجماعي…

تخصصتُ في علم النفس وكان الأطفال اهتمامي الأول وخاصة أطفال الحرب: الحرب الأهلية في لبنان، والأطفال ضحايا الإعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وخاصة جنوبه… وكانت مجزرة قانا عام 1996 بداية العمل الميداني في مستوصفات الصحة النفسية في مدينتي النبطية وصوروقرى المنطقة.. ومع حرب تموز 2006 توسّعت دائرة العدوان الإسرائيلي لتشمل الوطن بأكمله… كانت هناك إنعكاسات لهذه الحرب على النفوس وتفاوتت الأعراض ما بين الخفيفة والشديدة، وساهمت جلسات العلاج النفسي والدعم النفس- اجتماعي والأنشطة التفريغية في الحدّ من هذه الأعراض، وتمت متابعة الأطفال في مدارسهم ومنازلهم للأخذ بأيديهم ومساعدتهم على تخطي أزماتهم العالقة للمضيّ قُدُماً في مشوار الحياة… وما يجري في  غزّة اليوم يفوق القدرة على التحمل والرؤيا والمتابعة، فيما أهل الداخل تتقاذفهم كرات الموت من كل حدب وصوب ، لا سقف يحميهم ولا يد تنتشلهم من تحت الأنقاض، لا ماء، لا كهرباء، لا دواء، لا غذاء، لا ملجأ بل كمٌّ هائلٌ من القذائف المحمومة والصواريخ المشروعة وغير المشروعة دولياً، والخيار واحد: الموت او الموت… تعالوا نستعرض معاً بعضاً من هذه الصور التي أضحت تملأ الذاكرة القريبة والبعيدة ولنبدأ مع هذه الطفلة الظاهرة على دعوة ندوتنا هذه ، هي ليست مُصابة ووحهها ليس ملطّخاً بالدماء ولكنها تقف على الأنقاض وترنو بتلك النظرة الحزينة، الخائفة والمتعالية معاً، تبحث عن الأمان ، هي تنادي الآخر، الآخر – المنقذ تُرى اين هو؟ وهل هو موجود فعلآ؟ وهذا الطفل الصغير الذي فقد القدرة على الكلام ، أُصيب بالحُبسة نتيجة الصدمة، لم يصدق أنه لا يزال على قيد الحياة، انه خائف ويرتجف من اعلى رأسه الى أخمص قدميه، حاول المسعف تهدئته لينفجر لاحقاً بالبكاء مطلقا العنان لكل الرعب الذي بداخله.وهذا الطفل الذي يقف على رأس أخيه الأصغر الذي يحتضر جرّاء اصابته، ويلقّنه الشهادة وهو فخور بذلك…ربّاه ما أصعب ذلك فكيف يودع أخيه على هذه الصورة؟؟؟ وتلك العائلات التي تقتنص اوقات الهدنة لتكتب على السواعد اسماء اطفالها خشية فقدان هويتهم حين يتحولون الى أشلاء وأرقام، ويصعب حينها التعرف عليهم ودفنهم معاً.. بداية لم استوعب ولم اصدق كيف يفعلون ذلك وهم فرحون بان هذه الحيلة ستجمعهم لا محالة…وكيف ننسى كيف كان اطفال الصهاينة يكتبون اسماءهم على الصواريخ التي ستُدكُّ غزة كهدايا موت لأطفال تلك المدينة الصابرة…وهذا الطفل الذي ينقذ قطته وتلك الطفلة التي تبحث عن دميتها تحت الأنقاض..يلحقون البراءة كي يقتلونها بأيّ ثمن… وهذه الأم يسحب الممرض من بين يديها طفلها الذي مات لكي تهتم بالآخر الجريح، وهذا الأب الطبيب الذي يلقى ابنه في عداد الأموات في مشرحة المستشفى… صورٌ، صورٌ، صور تُدمي القلوب ويعجز العقل عن عقلنتها والقبول بها، ولكنها ستحفر في ذاكرتنا الفردية والجماعية ليتم استحضارها لاحقاً بشكل او بآخر. وذاك الطفل الذي سُئل:” شو بتحلم تصير بس تكبر؟” نظر الطفل الى سائله نظرات ملؤها الذكاء مجيباً: ” إحنا أبنكبرش، إحنا بيطخونا قبل ما نكبر” يا آلهي على هذا الرد من فم طفل لا يستطيع ان يحلم بالغد، وأن يكبر مثل غيره من الأطفال، وأن يسير بمراحل النمو كما تقتضي الطبيعة البشرية، ولكنه فهم بحدسه وذكائه أن ايامه وسنينه ربما تكون معدودة فقط لأنه على الهوية فلسطيني. وهذا المراسل الصحفي الذي فقد عدداً من أفراد عائلته، أخذ إجازة دفن فيها أحبابه الموتى ثم عاد الى عمله لينقل رسائل عن أحوال الذين لا يزالون على قيد الحياة، وتلك الطفلة التي أطلق عليها اهلها اسم بيروت بعد تفجير المرفأ إستشهدت هي ايضا فتعانقت غزة وبيروت…كيف لنا ان نستوعب كل هذا؟ نحن المسمّرون على شاشات التلفزة ومنصّات التواصل الإجتماعي نتابع موتهم، هي مجزرة، محرقة، إبادة ونحن عاجزون عن فعل ايّ شيء … فما بعد 7 تشرين الأول 2023 ليس كما قبله، فالزمن قد تغيّر والنبض الفلسطيني قد تغير، ما عاد يصدق كل المعاهدات، كل الوساطات ولا يؤمن بكل المفاوضات التي لم تفضِ إلا الى المزيد من الآحتلال واقتطاع الأرض وبناء المستوطنات على حساب أهل الأرض الأصليين. شعب مقهور على مدى كل هذه الأعوام لا بدّ وان يصل الى عتبة الإنفجارالتي تحرّره من كل ما هو مكبوت، وتخلع عنه عباءة السكوت والرضوخ عن كل ما هو لا معقول، وما عاد بالإمكان القبول بكل هذه الضغوط وبكل هذا التعنت وتضييق الخناق. في علم النفس عندما يتجاوز الفرد “عتبة الإنفجار” النفسية تظهر الأعراض المرضية عليه ويصبح بحاجة الى المتابعة والعلاج النفسي، اما الشعب الفلسطيني وبالأخص شعب غزة ومن شدة القهر كان عارضه ” طوفان الأ قصى”، فقد طفح الكيل وبات على العالم أجمع ان يعرف مدى الظلم والقهر الكبير والصبر اللا محدود… لسنا دُعاة حرب بل نحن أصحاب حق، نحن اهل الأرض ومفاتيح منازلنا هناك لا تزال في جيوبنا، فأعيدوننا اليها، حاولنا بالسلم والتفاوض لم ينفع، فوقعت الحرب…لسنا هواة إفتعال الحروب والمعارك، فنحن نعلم ما هي آثار وانعكاسات الحروب على البشر والحجر معاً، الحجر قد يُعاد بناؤه وترميمه، اما ترميم النفس فيحتاج الكثير الكثير…فكيف يمكن للأهل ان ينسوا خسارة ابنائهم؟ وكيف يمكن للأطفال، إن بقوا على قيد الحياة ان يتابعوا المسيرة بعد فقدان الأهل والأحبة والبيت والمدرسة وترك المكان؟ كيف يمكن للذاكرة ان تنسى وهل ننسى؟ ستضع الحرب أوزارها يوماً وستتكشف أهوال النتائج، وسيكثر الحديث عن الدعم النفسي لأهالي المناطق المنكوبة والضحايا والأطفال والأيتام والمعاقين…العمل على ذلك سيكون طويلاً ومضنياً ومعالجة صدمات الحروب تستدعي تضافر جهود العاملين كافة في هذا المجال: الأطباء النفسيون، المعالجون النفسيون،المنشّطون، العاملون في كل قطاعات الخدمة الاجتماعية كي تطال جميع الشرائح العمرية التي تضررت: اطفال، مراهقون،شباب ومسنون…الخسائر حتما كبيرة على وقع جرائم العصر هذه التي لا تُغتفر… بعد عدوان تموز2006 على لبنان وأثناء متابعتي النفسية للعديد من الحالات ، كنت فعلا اتفاجأ بتلك الصلابة والمرونة النفسية- هذا المصطلح الذي ذاع صيته لدى العديد من الذين فقدوا أبناءهم وارزاقهم والذين حافظوا على صمودهم النفسي والإستمرارفي الحياة، فالنصر بدحر العدو والإيمان بعقيدة الجهاد وتقبّل الشهادة في سبيل الوطن كانت تشكل مدماكاً نفسياً منيعاً للمواجهة والبقاء…وهكذا ايضا وبشكل أقوى ما نراه في غزة ولدى الشعب الفلسطيني، فغريزة الحياة والبقاء والذود عن الأرض والأصل ومقاومة الظلم وجبروت الإحتلال ومحاولة الإستمرار من جيل الى جيل يهون أمام كل التضحيات وكيفما كان تصورها، وصدقوني كلما أشاهد هذه البسالة والشجاعة واسمع صوت فيروز ينادي: الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع، أحسّ بأنّ قدمايّ قد وطأتا أرض فلسطين… ولكن من الجهة الأخرى ايضا كيف نداوي جروحات الأطفال والنساء، عذابات التهجيروالترحال ، فقدان الأب- السند وصورة البطل في الأذهان، كيف نتعامل مع كل هذه الصور البربرية التي اختزنتها العين والذاكرة وسوف تحفر عميقا في النفس والجسد دون أن تستطيع في الكثير من الأحيان إيجاد قنوات تفريغية لها ما لم تقدم لهم يد الدعم والمساندة وبشكل عاجل وطارئ… طفولة ممهورة بشتى أشكال العذابات والإجرام، تُرى كيف ستكون صورة المستقبل لديها؟ بِمن ستتماهى وكيف؟ وكيف ستدير أوالياتها الدفاعية؟؟؟ أطفال الحجارة، أطفال الإنتفاضة ، أطفال غزة، أقبّلُ أياديكم وأقدامكم وأمسح دموعي. لسنا دعاة حرب وموت ودمار، بل نحن نحب الحياة إذا استطعنا اليها سبيلا، ولكن إذا سُدّت الطرق في وجوهنا وحوصرنا وشُرّدنا ونُكّل بنا وبأطفالنا، فلا حلّ لنا سوى القتال والمقاومة والإستشهاد، فلن نترك أرضنا لرحيل آخر، بل سوف تضمنا أراضينا في مقابر جماعية تشهد على التصاقنا بهاواختيارنا الموت على ايّ حل يبعدنا عن تراب الوطن… اعتقد اننا ومع مشاهدات الحرب على اطفال غزة أصبحنا بحاجة الى تعزيز معجم مصطلحات علم النفس بمفاهيم على تماس مع جرائم الحرب التي ترتكب وإسقاطاتها النفسية الشديدة الوطأة. ما بعد 7 تشرين الأول 2023 ليس كما قبل هذا التاريخ، وطوفان الأقصى سيكون علامة فارقة في تاريخ المنطقة المعاصر، علامة على صمود وشراسة واستبسال شعب حوصر من كل الجهات حتى الموت، دافع بأشلاء اطفاله وأكفانهم عن حقهم بالبقاء في أرضهم… محرقة، مذبحة، ملحمة، إبادة شعب على مرأى من العالم أجمع ومن تخاذل معظم الأنظمة العربية والغربية، أوَ لم يكن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش على صواب عندما قال: لا، لا مفر، سقط القناع عن القناع، سقط القناع، لا اخوة لك يا أخي،لا اصدقاء يا صديقي، لا قلاع، لا الماء عندك لا الدواء، ولا السماء ولا الدماء ولا الشراع ولا الأمام ولا الوراء، حاصر حصارك لا مفر…

  • مقاطع من كلمة القيت في ندوة نظمت في المعهد العالي للدكتوراه والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية خلال الاسبوع الماضي تحت عنوان: “الحرب على غزة والصدمات النفسية، قراءة في مشاهد وصور القتل والدمار والتهجير”.

Leave a Comment