أحمد السهيل *
لا تقتصر الإشكالات التي يعانيها العراق خلال العقدين الأخيرين على الجوانب السياسية والأمنية المباشرة وحسب، بل تؤثر أيضاً العوامل المناخية ومواسم الجفاف المستمرة على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذ باتت ما كانت تعرف بأرض السواد أو بلاد ما بين النهرين تعاني إشكالية كبيرة في اتساع رقعة التصحر إلى حدود غير مسبوقة، بل تكاد تكون الأقسى في التاريخ.
وبينما كان العراق أحد أكبر البلدان المصدرة للمنتجات الزراعية في منطقة الشرق الأوسط خلال عقود قليلة ماضية، بات الآن يستورد معظم الحاجات الزراعية من دول الجوار وتحديداً إيران وتركيا، وهو ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت ثمة دوافع سياسية واقتصادية رئيسة تقف خلف ملف قطع إمدادات العراق من المياه من هاتين الدولتين.
أصعب مراحل الجفاف
وكشف وزير الموارد المائية العراقي عون ذياب، في 3 يوليو (تموز)، عن أن العراق يمر بأصعب مراحل الجفاف نتيجة قلة الإطلاقات المائية مما دفع الحكومة إلى تقليل الأراضي الزراعية لهذا العام، وفيما تحدث عن بذل جهود استثنائية لتأمين مياه الشرب وتحسين بيئات الأنهر والأهوار، أشار إلى أن الحكومة منعت زراعة الشلب والذرة الصفراء لهذا العام.
وعلى رغم عدم تجاوب تركيا وإيران خلال السنوات الماضية مع مطالب العراق بزيادة حصصه المائية، تحدث الوزير العراقي عن “مؤشرات إيجابية وتفاهمات مع الجانب التركي لزيادة نسبة الإطلاقات المائية لنهري دجلة والفرات”.
وتستمر تأثيرات الأزمة بضرب القطاع الزراعي في البلاد، إذ ينخفض حجم الأراضي الصالحة للزراعة كل سنة. ودفعت الأزمة التي يعيشها العراق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى القول، مطلع شهر مايو (أيار) الماضي، إن انخفاض مناسيب المياه يستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً، مشيراً إلى أن الأزمة بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي إلا أن الحكومات السابقة لم تكاشف العراقيين بها.
آثار اقتصادية هائلة
وبعد أن كان قطاع الزراعة في العراق يمثل أحد أهم روافد الإيرادات العامة للدولة باتت مساهمته في رفد الموازنة لا تتجاوز حدود اثنين في المئة، وهو الأمر الذي ستكون له عواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة على البلاد.
ورأى المتخصص في الشأن الاقتصادي والمدير العام السابق للعمليات المالية في البنك المركزي العراقي محمود داغر أن أزمة الجفاف في العراق “ستخلق ردود فعل اقتصادية يصعب احتواؤها في المستقبل”، خصوصاً مع استمرار الأزمة وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على احتوائها. أضاف أن الجفاف سيؤدي إلى “عمليات تصادم اجتماعي كبير خصوصاً في المحافظات الجنوبية”، مبيناً أن الآثار الاقتصادية لها ستكون كبيرة مع عدم تجاوز إيرادات العراق غير النفطية معدل ثلاثة في المئة، ويبدو أن “خسارة الأراضي الزراعية ستدفع الطبقات المشتغلة بالزراعة نحو المدن”، محذراً من أن هذا الأمر “سيمثل عبئاً إضافياً على اقتصاد البلاد ويزيد من معدلات البطالة”.
وتمثل الإيرادات النفطية للبلاد دافعاً رئيساً في عدم اتخاذ صانعي القرار الاقتصادي لحل هذه الإشكالية، بحسب داغر الذي لفت إلى أن الدولة الآن “قادرة بسبب إيرادات النفط على استيعاب مغادري المناطق الزراعية في وظائف حكومية بسيطة، ولذلك هي لا تدرك حجم الإشكالات المستقبلية”. وتابع أن هذه المعالجات تمثل “محاولات لامتصاص غضب تلك الطبقات” إلا أنها لن تتمكن من الاستمرار في هذا السلوك على المدى البعيد، مبيناً أن “الغضب الشعبي سيكون شديداً”. وختم بأن إعادة إحياء القطاعات الإنتاجية بعد انهيارها بشكل كامل سيمثل مهمة صعبة للغاية، خصوصاً أن الطبقة الحاكمة “غير قادرة على تطبيق أي إصلاحات وتعتمد بشكل كامل على الريع النفطي، الذي حالما ينتهي سينكشف حجم الإشكالات في البلاد”.
تداعيات اجتماعية
ولا تقتصر الإشكالات عند المساحة الاقتصادية فحسب، إذ إن هناك تداعيات اجتماعية وسياسية كبيرة، وأسهمت هذه العوامل في تغيير الديموغرافيا العراقية، خصوصاً مع ترك كثير من المجتمعات الفلاحية مناطقهم ونزوحهم نحو المدن في محاولة لإيجاد أنشطة اقتصادية جديدة، وتمثل هذه الهجرة، بحسب اقتصاديين، “قتلاً لأقدم نشاط تاريخي على أرض العراق” إذ باتت البلاد تستورد حتى ما كانت تزرعه، وفي كل عام يتم تخفيض نسبة الأراضي المزروعة بحدود كبيرة.
وكانت منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، قالت في يونيو (حزيران) الماضي، إن أكثر من 62 ألف شخص نزحوا داخل العراق، حتى سبتمبر (أيلول) نتيجة الجفاف المستمر منذ أربع سنوات، مرجحة أن يرتفع عدد النازحين نتيجة تدهور الوضع المائي في البلاد.
ورأى أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن الجنوب العراقي، على وجه الخصوص “مهدد بشكل كبير نتيجة أزمة الجفاف” بسبب “الفشل الدبلوماسي العراقي في الحصول على حصص البلاد المائية من تركيا وإيران”، مضيفاً أن في مقدم التداعيات “تحويل عديد من المناطق الزراعية إلى استثمارات في قطاع الإسكان”، وبين أن هذا الأمر إضافة إلى كونه يمثل خسارة لمساحات زراعية كبيرة لا يمكن إعادة استصلاحها، “يسهم في تغيير البنية الاجتماعية للبلاد”.
هجرة الريف نحو المدن
وتمثل الهجرة من القرى إلى مراكز المدن للبحث عن بدائل اقتصادية، بحسب الهيتي، نوعاً من أنواع التهجير، مبيناً أن هذه الهجرة ستؤثر بشكل مباشر في “ديموغرافية المدن العراقية”. وأشار إلى إمكان وقوف أهداف سياسية خلفها، بخاصة أن “المدن تتضمن الكتلة الكبرى لمؤيدي التحالفات المدنية، في حين تغلب النزعات القبلية والدينية والطائفية لدى سكان الأرياف”. وتابع أن هذا التغيير الديموغرافي يمثل “دفعاً للبيئات ذات الطابع القبلي والريفي نحو البيئات الحضرية، مما سيشكل في النهاية تغييراً في الخريطة الانتخابية للمدن بما يحصن النظام السياسي المعتمد على البيئات القبلية”.
ولعل ما يعزز هذا الاعتقاد، بحسب الهيتي، هو كون السلطة باتت “تستثمر الفائض المالي نتيجة ارتفاع أسعار النفط في توفير وظائف في الأجهزة الأمنية لاستيعاب أبناء المناطق الريفية الذين سيمثلون في النهاية دعائم لتحصين النظام السياسي”. ولفت إلى أن ثمة دوافع اقتصادية أخرى تدفع كلاً من تركيا وإيران إلى استمرار حجب حصص العراق المائية، خصوصاً أن العراق بات يعتمد بشكل شبه كامل على المنتجات الزراعية التي يصدرانها إليه.
زيادة البطالة والأعباء على النساء
في السياق، قالت أستاذة الاقتصاد سلام سميسم إن الزراعة في العراق مثلت السمة الرئيسة لاقتصاد البلاد حتى خمسينيات القرن الماضي، مبينة أن شح المياه طوال العقود الماضية سيتسبب في “اندثار هذا القطاع الرئيس في الاقتصاد العراقي الذي باتت نسبة مشاركته في الإيرادات لا تتجاوز حدود اثنين في المئة”. وأشارت إلى أن العراق يملك عديداً من وسائل الضغط على تركيا وإيران، خصوصاً في ما يتعلق بالميزان التجاري الكبير الذي يصل إلى عشرات مليارات الدولارات مع الدولتين، إلا أن أياً من الحكومات المتعاقبة لم تستخدمه كوسيلة ضغط.
أضافت أن الجفاف في العراق أدى إلى “انتقال الكوادر البشرية العاملة بالزراعة إلى مراكز المدن القريبة، وهذا الأمر أدى إلى تغيير ديموغرافي ليس في صالح العراق”، خصوصاً أن هذه الطبقات “ليست منتجة في المدن، ولا تمتلك القدرة على الدخول في سوق العمل الأمر الذي سيزيد من معدلات البطالة”.
ولا تتوقف الآثار الاقتصادية لشح المياه عند هذا الحد، إذ لفتت سميسم إلى أن الانتقال من القرى إلى مراكز المدن “زاد من الأعباء الملقاة على عاتق النساء في العراق”، مبينة أن “كثيراً من الدراسات تحدث عن ارتباط النزوح بتحفيز الاعتماد على النساء في إعالة عائلاتها”، وختمت أن ما يجري يؤشر بشكل مباشر إلى “عدم اكتراث صانعي القرار في البلاد لهذا القطاع الحيوي”.
معارضة لأي مشاريع عربية
وعلى رغم الانهيارات الكبيرة التي يعانيها قطاع الزراعة في العراق، خلال السنوات الماضية، لا تخفي الجماعات المسلحة الموالية لإيران معارضتها أي مشاريع زراعية من الدول العربية داخل العراق، وبينما يتضاءل حجم المساحات الخضراء في العراق، يرى مراقبون أن حلفاء طهران يخشون احتمال نجاح أي مشروع لا تشرف عليه إيران بشكل مباشر خوفاً من أنها قد تمثل بوابة لربط العراق بشبكة مصالح مع دول مؤثرة إقليمياً ودولياً.
وفي حين تقطع إيران وتركيا حصص العراق المائية، لا تبدي الجماعات السياسية والمسلحة الموالية لها أي مواقف إزاء ذلك، وتكتفي بمواجهة أي مشاريع زراعية من الدول العربية، إذ عملت على إجهاض مشروع استثمار بادية السماوة من قبل شركات سعودية عام 2020.
وبينما كانت هذه الجماعات تقوم بـ”ندب المياه الجوفية” بحجة أن الاستثمارات السعودية تحاول استنزافها من خلال ادعائها أن المشاريع “مخصصة لزراعة الأعلاف”، لا يكترث أي منها للحديث عن نحو 40 نهراً تقطعها طهران وتجفف روافدها التي تصب في العراق.
وكانت “اندبندنت عربية” قد تقصت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، عن طبيعة المشروع السعودي الذي كان من المفترض أن يدخل حيز التنفيذ عام 2021 من قبل وزارة الزراعة العراقية، التي نفت بدورها من خلال المتحدث باسم الوزارة حينها حميد النايف أن يكون مخصصاً للأعلاف، مؤكدة أنه يشمل زيادة الإنتاج الزراعي والمساحات الخضراء.
ويرى مراقبون أن هذا السلوك يؤكد أن إحدى غايات قطع المياه الرئيسة هي إبقاء العراق مستهلكاً للمنتجات الزراعية الإيرانية.
*نشرت في اندبندنت العربية السبت 8 تموز/ يوليو 2023
Leave a Comment