سياسة صحف وآراء

قراءة في أسباب وأبعاد تمرد بريغوجين

موسكو ـ سعيد طانيوس

لم ترحل ميليشيات “فاغنر” شبه العسكرية عن دائرة الأضواء لتعود، بل هي ما زالت حديث الساعة دائماً في روسيا كما في الغرب، لكونها مجموعة روسية ولدت من زواج غير شرعي بين رجال الأوليغارشية وأهل السلطة، لذلك فهي تُثير الجدل دائماً من خلال نشاطها وتصريحات رئيسها، يفجيني بريغوجين، وعلاقته الملتبسة بولي نعمته، رئيس البلاد وقيصر روسيا الجديدة، فلاديمير بوتين.

اشتهرت هذه الميليشيات التي تضم شذاذ آفاق وضباطا سابقين ومجرمين وطامحين إلى المال السلطة، من خلال مشاركتها في عمليات قتالية دموية وشرسة ليس فقط في أوكرانيا، وخصوصاً في منطقة باخموت، بل وفي مشارق الأرض ومغاربها، بدءا من سوريا مرورا بالسودان ومالي وأفريقيا الوسطى، وصولا إلى روسيا نفسها وجارتها بيلاروس، التي أصبحت الملجأ الأخير لفلول هذه الميليشيات التي لا فكر ولا شريعة لها غير شريعة القتل والاسترزاق واسترقاء المجرمين المحكومين.

 “الانقلاب” على بوتين

بوتين الذي ظل وفيا لولي نعمته بوريس يلتسين، رغم المآسي التي جرّها هذا الأخير على البلاد والعباد بسياساته المتهورة النابعة من سكراته المتكررة وعشقه للخمر أكثر من حبه لروسيا وشعبها، لم يتوقع أن ينقلب عليه واحد من ربيبته الذي كان ولي وسبب نعمته منذ كان نائبا لعمدة العاصمة الثقافية، سانت بطرسبورغ،  لذلك فوجئ ليل الجمعة في 23 حزيران/ يونيو، بدعوة قائد ميليشيات “فاغنر” إلى انتفاضة على قيادة الجيش الروسي بعدما اتّهمها بقتل عدد كبير من عناصره في قصفٍ استهدف مواقع خلفيّة لهم في أوكرانيا، وهو اتّهام نفته موسكو مُطالبةً مقاتلي يفغيني بريغوجين باعتقاله بتهمة “الدعوة إلى تمرّد مسلّح”.

لذلك ظهر بوتين في خطابه الذي ألقاه صباح يوم السبت في 24 حزيران/ يونيو، كمن ألقي في يده، وشبيها بمن كان آخر من يعلم بخيانة “زوجته” له، ويومها سهر الليل بكامله ليدبج خطابا ديماغوجيا مليئا بالأخطاء والخطايا والاتهامات السخيفة التي لا سند لها والأحقاد الدفينة، دون أن يذكر اسم بريغوجين على شفته ولا مرة.

وفيما كان قائد ميليشيات “فاغنر” يؤكد صباح السبت أنه دخل المقر العام لقيادة الجيش الروسي في مدينة روستوف، الذي يشكل مركزا أساسياً للهجوم الروسي على أوكرانيا، وسيطر على مواقع عسكرية من ضمنها مطار المدينة، كان بوتين يتهم البلاشفة زورا  بسرقة انتصارات الجيش الروسي في الحرب العالمية الأولى، رغم أن هذا الجيش لم يمن إلا بالهزائم في تلك الحرب، ولولا مسارعة فلاديمير لينين لتوقيع “صلح بريست” لكانت روسيا فقدت الكثير من الأراضي والأرواح، وليس فقط قلعة بريست وجوارها.

وقال بريغوجين في مقطع فيديو نشر على تلغرام “إننا في المقر العام، إنها الساعة 7,30 صباحا” (4,30 ت غ)، مضيفا أن “المواقع العسكرية في روستوف تحت السيطرة بما فيها المطار” فيما كان رجاله المدججين بالسلاح وهم يرتدون بزات عسكرية خاصة يسيرون خلفه بكل تصميم.

ولم تواجه قوات الجيش الروسي على الأرض، ميليشيات بريغوجين عسكريا، بل اكتفى جنرالاتها بدعوتها للتعقل، في حين كان بوتين يتوعد “الخونة” بالحساب العسير وسوء المصير.

حاك العديد من المحللين السياسيين والعسكريين الروس والأجانب، أساطير كثيرة عن سبب تمرد ميليشيات بريغوجين، معظمها من نسج الخيال والأوهام التي تصل إلى حد الفانتازيا، لكن لم يتذكر أحد قول القائد العظيم لثورة أكتوبر، فلاديمير لينين، بأن “لا حركة ثورية دون  استنادها والتزامها بفكر ثوري”. هكذا وبكل بساطة، مثلما ربّى الأمريكيون ذئبا في أفغانستان، اسمه أسامة بن لادن، بحجة الجهاد ضد الاتحاد السوفياتي والشيوعية والملحدين، ثم عاد ليرتد عليهم ويهاجمهم في عقر دارهم، ربى بوتين وعلى حساب قوت شعبه هذا الغول بريغوجين الذي قضى زهرة عمره في السجن بعد إدانته بجرم السرقة، والذي لا يملك أي فكر سياسي أو مستوى علمي، لذلك لم يكن من غير المتوقع أن يحاول هذا الغول التهام اليد التي أطعمته وسقته وأتخمته كثيرا وطويلا.

تحدث الكثير من العقلاء والحكماء في روسيا وخارجها مسبقا، عن خطر تضخم شركة فاغنر وتوسعها وانفلاتها وامتلاكها للأسلحة الثقيلة، الأمر الذي انعكس في الانتقادات الحادة للقيادة العسكرية ممثلة بشخصَي وزير الدفاع ورئيس الأركان، لكن بوتين لم يحرك ساكنا، وبقي متخذا صفة المراقب الذي يملك خيوط اللعبة كلها. لكن انتقادات بريغوجين تحولت لاحقاً إلى انتقاد للقيادة السياسية مطالباً بمحاربة الفساد والبيروقراطية وترتيب البيت الداخلي، والتهديد بان روسيا مقبلة على ثورة تشبه ثورة 1917.

ووصل الأمر بهذا الذي يسميه الغرب “طبّاخ بوتين” حدّ انتقاده الصريح والعلني لقرار بوتين بشن عمليته العسكرية الخاصة في أوكرانيا، ورفض تنفيذ قرار وزارة الدفاع الأخير الذي أيده بوتين والذي يقضي بضرورة تعاقد وتسجيل كل المقاتلين من الشركات الخاصة بما فيها فاغنر مع وزارة الدفاع، وهذا يعني إنهاء فاغنر عملياً. فرفض بريغوجين قرار بوتين وقال لن ننتسب إلى طريق “العار”.

ومع ذلك فإن بريغوجين تراجع  لاحقاً معلنا بأنه لم يخطط لقلب السلطة في روسيا، بل لإرسال رسالة بضرورة معاقبة المتخاذلين في قيادة الجيش، وأن تمرده هو عبارة عن مسيرة تبحث عن العدالة. ولكنه تمرد مع ذلك على قرارات بوتين علناً، بالرغم من أنه لم يطالب بتنحيته، باستثناء تصريح له بأن رئيسا ً جديداً لروسيا قادم.

وفي تصريح لبريغوجين مؤخراً بأنه رفض محاولات الجيش حل قوات فاغنر وقد يكون هذا أحد أسباب التمرد.

وهناك من يقول إنه راهن على دعم عسكري وشعبي وأمني ولم يرَ ذلك، مما دفعه للتراجع.

ما حدث يوم الرابع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو يؤكد بأن الحرب في أوكرانيا تركت أثراً بالغاً على الوضع السياسي الداخلي في روسيا، وكشفت النقاب عن صراعات بين النخب الحاكمة العسكرية والسياسية والأمنية، والدليل هو كثرة التصريحات التي تنال أكبر المسؤولين وتتجاوز الخطوط الحمراء في الحياة الروسية. فمتى كان يستطيع كائن من كان انتقاد وإهانة قيادة الجيش الروسي ولا يتعرض للقضاء والعقاب؟ بينما هناك من قال كلمة أو كتب بوستاً قصيراً في الفيسبوك وتعرض للسجن لسنوات طويلة.

أعمال وعمليات فاغنر قذرة بكل المقاييس وها هي ترتد على من كان يدعمها. وفاغنر لن تختفي من الحياة الروسية بسهولة. والوداع الشعبي العارم لفاغنر في مدينة روستوف، يدحض ما قاله بوتين بأن كل الجيش والشعب والقوى الأمنية وقفت صفا واحدا ضد التمرد.  وهو دليل حسّي على تعاطف شعبي مع هذه الميليشيات، مؤشر واضح على أن هناك الكثير من الصامتين والمتذمرين مما يجري، وهم يُعتبرون ويشكلون قنبلة موقوتة قد تنفجر يوما بوجه بوتين وحاشيته من الأوليغارشية، خصوصا إذاما طال أمد الحرب في أوكرانيا دون تحقيق نصر كاسح.

نتائج تمرد بريغوجين:

شكل هذا التمرد هزة حقيقية للدولة الروسية برمتها، ولشخصة بوتين التي حاول دائما تزيينها بصورة القيصر الجديد. فقد انقسم المجتمع الروسي بين مرحب بانتصار فاغنر على الجنرالات، وبين من طالب بقمع التمرد بسرعة لأنه خطر على النظام السياسي في روسيا. وأول هؤلاء هو الرئيس بوتين، الذي تحدث شخصياً وعلانية ولآول مرة، عن خطر التمرد وإثارته للفتنة التي ستدمر الدولة الروسية. ويرى البعض بأن إرسال رمضان قاديروف، رئيس الشيشان قواته إلى روستوف لمقاتلة فاغنر، وكذلك إرسال مجموعة أخرى الى موسكو لمكافحة فاغنر، قد تكون مؤشرا على تنافس مراكز القوى حول بوتين، واستعدادها للعب دور حاسم في مستقبل البلاد. فالقوات الشيشانية هي الوحيدة في روسيا إلى جانب فاغنر التي تتقن حرب الشوارع في المدن.

التمرد خبا حاليا بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بالتنسيق مع صديقه فلاديمير بوتين. ويبدو أن بريغوجين استنتج بأنه سيواجه حربا طاحنة بسبب غضب بوتين، وهو لم يكن متأكداً من وجود دعم حقيقي له، فقرر حماية مقاتليه وقبول اتفاقية مع بوتين ليغادر إلى بيلاروسيا ولا أحد يعرف إلى متى ولأي هدف؟ ولكن الأخبار تفيد بأن قوات فاغنر التي ترفض الانضمام إلى القوات المسلحة الروسية ستنسحب إلى بيلاروسيا حيث أقيمت معسكرات خصيصاً لهم في مقاطعة ماغيلوف على الأراضي البيلاروسية. ولا نعرف ما هو الدور الذي ستضطلع به لاحقاً، يعدما انقطع عنها التمويل الحكومي، الذي اعترف بوتين بأنه كلف البلاد 86,262 مليار روبل في أقل من عام، أي أكثر من مليار دولار، وهو مبلغ يشكل ميزانية دولة صغيرة من دول أمريكا اللاتينية أو إحدى الدول الأفريقية.

ومن المؤكد أن شركة فاغنر وميليشياتها بشكلها الحالي انتهت عملياً لأن صاحبها ومؤسسها بريغوجين فقد ثقة القيادة الروسية وبوتين شخصيا. ولا نعرف كيف سيكون وضع فاغنر في خارج روسيا؟.

ولكن هذا التمرد لن يمر مرور الكرام بل سيكون له تبعاته في كافة المجالات لأن ما تحدث عنه بريغوجين ليس قضية شخصية بل قضايا تمس أمن ومستقبل الدولة الروسية والمجتمع الروسي بمكوناته العسكرية والمدنية والسياسية. وإن غادر بريغوجين روسيا فسياتي بريغوجين آخر فالشركات الأمنية المنتشرة في روسيا حاليا عددها يزيد على 800 شركة وكلهم مدربون على حمل السلاح.

لكن، وبدلاً من البحث عن معالجة أسباب التمرد وفيها الكثير من الحقيقة، وعوضا عن الوصول إلى قناعة، بأن الخصخصة عامة وبال ومقتل لروسيا، ولا سيما خصخصة الأمن والسلاح، بعد خصخصة كل شيء في البلاد، يخرج سيرغي لافروف بفكرة بأن استخبارات أجنبية قد تكون وراء تمرد فاغنر. وهذا يعني العودة إلى نظرية المؤامرة الكونية، التي يعزفها جيداً رجال الأوليغارشية وحاشية بوتين، والنخب الانتهازية المتلونة التي التحقت بحزب السلطة “روسيا الموحدة”و حولته إلى خطر وجودي على روسيا.

وهكذا شهدنا تمردا ليوم واحد كان كفيلا بهز الدولة الروسية بكامل أركانها ومناصبها،  لأنها دولة لا تحكمها مؤسسات دستورية عريقة ومنتخبة، بل يديرها قيصر جديد يتخذ من كل مؤسسات السلطة وأحزابها وقواها الأمنية والعسكرية أذرعا وأدوات له، فماذا لو استمر التمرد عدة أيام أو أشهر؟!.

Leave a Comment