“أقف كل مرة أمام استحالة التواصل بيني وبين المثقفين الأوروبيين… ولهذا السبب وضعت كعنوان ثانوي لهذه الدراسة “التواصل المستحيل”. فقد صنعوا منهما (الغرب والإسلام) قطبين للتضاد المستمر الذي لا يتوقف. وتمت صناعة هذا التضاد لاهوتياً وسياسياً وثقافياً ونفسياً… وابتدأ المؤرخون بالكاد يفككون هذا التضاد المزمن والمتراكم. إن مشروعي في “نقد العقل في الإسلام” يمثل جزءاً لا يتجزأ من هذا البرنامج الطموح والجديد حقاً الذي يهدف إلى تفكيك مناخين من الفكر… ليس المناخ الفكري العربي الإسلامي هو وحده المستهدف بالنقد أو التفكيك، وإنما المناخ الفكري الغربي أيضاً”.
اقتُطِفَتْ تلك الكلمات من كتاب المفكر الجزائري الأمازيغي محمد أركون في مؤلفه “قضايا في نقد العقل الديني” (1998). لعلها تلقي بعض الأضواء الجريئة على مسائل أساسيّة برزت آنذاك عشية “العشرية السوداء” التي عاشتها الجزائر بعد تصادم حداثة “تحريرية” عرجاء مع أصولية اسلاموية تكفيرية، وتبدو أشد إلحاحاً فيما الجزائر تمر الآن بـ”ربيع” مدهش في سلميته ومدنيته وتشابك تحدياته. الأرجح أن فشل الحداثة العربيّة في أن تكون حداثة فعليّة في مجتمعاتها، يظهر واضحاً في فشل دول الحداثة العربية بتنويعاتها كلها، وكذلك في فشل أحزاب الحداثة يساراً ويميناً التي يبدو كأنها تبددت لمصلحة تمدد لفكر سياسي- أصولي ديني متخلف وعنيف. ربما تمثّل الإسلامويّة المتطرفة شكلاً بارز الوضوح في ذلك، لكن هل أنها وحيدة؟ ماذا عن أحزاب الهويات المنغلقة والجوهرية، بمعنى أنها لا تنظر إلى الإنسان والمجتمع عبر تفكير تاريخي فعلي، بل تتحجر نظرتها في هوية ثابتة تملك مواصفات لا تتغير ولا تتبدل عبر التاريخ الذي يصبح مجرد تتابع زمني لوجود تلك الهويات؟ قدّمت النازية والفاشية والعنصرية حيال السود ونظرية “تفوق الرجل الأبيض” (القديمة والحديثة)، نماذج عنها. وحاضراً، يظهر التفكير الهوياتي- الجوهري في الاسلاموية التكفيرية وأحزاب اليمين السياسي- الديني، ومجموعة أحزاب الهويات المسماة خطأً بـ”الأقليات” (التسميّة مؤشر آخر على تراجع فكري ترافق مع صعود أحزاب الهويات “الكبرى”، خصوصاً الدينية، ويمزّق الوحدة الوطنية للشعوب. ماذا يحصل في سوريا، خصوصاً في قوى الثورة فيها؟).
عودة الى خلق القرآن
أين النقدية التاريخية في الحداثة؟تتصادم المشارب الآنفة الذكر مع النظرة التاريخيّة، بطريقة لا تقل عن الصدمة التي تحدث لدى الاسلاموية التقليدية والمتطرفة، عند الحديث عن تاريخية القرآن، وهي إشكالية ما برحت تجرجر نفسها منذ العصر العباسي الأول، خصوصاً منذ نهاية المعتزلة (لنتذكر أنهم كانوا قمعيين أيضاً) في عهد الخليفة العباسي المتوكل. ثمة توضيح بشأن تاريخية النص القرآني. إنها تعني أن الله خلق القرآن، وبالتالي لا يكون بمثل قِدَمْ الله، والأهم أنه خاطب مجتمعاً معيناً وثقافة معينة، وبالتالي يتوجّب ربط مقاصد آياته وأحكامه بالتاريخ (الزمان والمكان والمجتمع والثقافة)، والاستناد إلى تلك التاريخية في استنباط المعاني والأحكام. واستطراداً، يكون القرآن بتلك التاريخية صالحاً لمجتمعات مختلفة وأحوال تاريخية مختلفة، استناداً إلى القياس على المقارنة التاريخية مع التركيب الاجتماعي الذي شهد نزول الوحي. بديهي القول أن الكلمات السابقة ليست سوى أقل من ومضة على نقاش طويل دار منذ عهد الخليفة المأمون ولم يتوقف حتى اللحظة. في عهد المتوكل، حسم الفقه السائد المسألة ضد القول بتاريخية القرآن. وتصاعدت إدانة التاريخية إلى حد التكفير. اقترب طه حسين من التاريخية بأن نادى بدراسة لغة القرآن وعلاقتها مع اللغة العربية (وغيرها من لغات الجزيرة) عند تاريخ النزول، فكُفّر. توسع رفض التاريخية، مع صعود الفقه التكفيري المتشدد، فصار حتى القياس على مقاصد الآيات أمراً مكفّراً. وحورب الفقه المقاصدي (الإمام الشاطبي وتلامذته)، بدعوى أنها شكل للتاريخية. ومع إنكار التاريخ، تصاعد التشدّد في تطبيق قالب غير تاريخي مفترض، ووصل الأمر إلى أحد ذراه في ممارسات “داعش” التي لم يرفضها الفقه المتشدد الذي تسيّد المشهدية الاسلامية بتصاعد منذ سبعينيات القرن العشرين، بل أدان تفاصيل في أدائها… لاغير.
لا تبدو حالة الحداثة العربيّة أفضل! ولاحظ محمد أركون أن الجزائر ما بعد التحرر الوطني كان فيها أمل بأن يسير الفكر التحرري نقدياً ضد الاستعمار، وأن ينجز نقد الموروث المتخلف ويجدد العلاقة مع الأديان كلها عبر تأصيل الحداثة جزائريّاً. لم يحصل ذلك، وفق أركون، بل ساد خطاب أيديولوجي خدم سيطرة الحزب الواحد والنخبة المتحكمة فيه (ما حصل في الجزائر مثل عن حالة الحداثة العرجاء عربياً). لنتذكر أن الأيديولوجيا المتصلبة فيها تنكر للتاريخية أيضاً، فلم تستطيع صوغ خطاب حداثي عربي فعلي تجاه الإسلام، وكذلك امتد الفشل نفسه في تعاملها مع بقية الأديان (خصوصاً المسيحية) في العالم العربي، والأهم أنه فشل في الاستفادة من التعدد في المسارات الحضارية التاريخية لشعوبنا، ما أوصله إلى فشل مأساوي في التعامل مع التنويعات الإثنية (أمازيغ، أكراد، شركس…). ويزيد تعقيد الموضوع أن الحداثة لا تؤخذ باعتبارها يوتوبيا، بل أنها تحتاج دوماً إلى نقد مستمر، حتى/خصوصاً لمن يريد الأخذ بها. وفي السودان، عانت الصوفية في زمن الرئيس عمر البشير (إنصافاً، علاقته ملتبسة مع “الإخوان”)، وتتأهب للعودة إلى السلطة، خصوصاً عبر “حزب الأمة” (الصادق المهدي).
وفي أول المقتطف أعلاه من أركون، هناك الصدمة التي عاشها مع المستشرقين الأوروبيّين الذين كانوا يرون في كل الإسلام “جوهراً” لا يتغيّر ويقعون في مطب الثنائية الجوهرية إسلام- غرب، وهي ما استثار أركون فوصفها بأنها تجعل التواصل مستحيلاً بينهم وبين من يسعى الى تأصيل المشروع الحداثي في التربة الإسلامية- العربية، مع التشديد على أن ذلك التأصيل يفترض تفكيراً نقديّاً بعمق.
يحرص الحراك الجزائري على عدم الوقوع في الالتباس بين رفض دولة الحداثة المشوّهة وبين رفض الحداثة نفسها. وهناك تعدددية وتنوّع في الحراك الجزائري يشمل الاسلاموية. وصل النائب الاسلامي المعارض سليمان شنين الى رئاسة مجلس الشعب. كيف تسير العلاقة بين الحداثة العربية التي لم تنقد عدم تاريخيتها “المزدوج” (تجاه شعوبها والحداثة الغربية) وبين الاسلاموية المطبوعة على رفض الفكر التاريخي النقدي؟ مجرد سؤال.
[author title=”أحمد المغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]