اقتصاد

الجزء الثالث والأخير من تقرير صناعة الالبسة الجاهزة في لبنان : من ماضي الازدهار إلى واقع الإندثار

إعداد ـ جمال حلواني

التطورات وشلل السوق العربي

ومن مضاعفات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ما تعرّض له قطاع السياحة من ضربات، ما انعكس تراجعاً بشكل ملحوظ  في أعداد السياح الخليجيين الذين يعتمد عليهم السوق المحلي في تسويق انتاجه خاصة الألبسة، كما انخفض عدد اللبنانيين المقيمين في الخارج الذين يزورن أهلهم في الصيف. هذا كله قلص من الطلب العربي، فيما أسواق اوروبا واميركا كانت ضعيفة ولا يعتمد عليها.

بعدها مباشرة جاءت حرب تموز فأقفلت البلد وتوقفت حركة المطار في شهر يعتبر تجارياً من أقوي اشهر السنة لناحية تصريف الانتاج والتصدير للخارج. فتكدست البضاعة لدى المعامل وتوقف تحويل المال من الخارج، ووقعت أغلب المعامل في مشاكل مالية كبرى مع البنوك والتجار، لاسيما وأن حجم الطلبات لدى المعامل يساوي ملايين الدولارات. وغياب التجار الخليجيين عن بيروت دفعهم للتوجه إلي الصين والولايات المتحدة، حيث يحصلون على  بضاعة صينية بتصاميم اميركية أو تقليد للتصميم اللبناني.

ففي أعقاب حرب تموز أغلق 400 مصنع في الضاحية الجنوبية، وبقي 100 مصنع حسب احصاءات مكتب تجمع صناعيي الضاحية (مرتضي شاهين) إضافة إلى مئات المصانع والورش الصغيرة في بيروت ومناطق لبنان غير المرخصة التي لا علم بها لجمعية الصناعيين.

أما التصدير إلى اوروبا فقد كان صعباً، جرّاء  الشروط الاوروبية البالغة الدقة والهادفة إلى حماية انتاجهم. مثلاً يشترطون معرفة مصادر القماش المستعمل ومصدره من أي بلد، وكذلك مصدر الخيوط والاكسسورات. وتفرض قائمة الشروط  أن تكون نسبة مصادر الانتاج الاوروبية أكثر من 60% من مستلزمات السلعة. وهذا مستحيل على الانتاج اللبناني نظراً لارتفاع كلفة المستوردات الاوروبية عن مثيلاتها. وهي كلفة ليس بمقدور السلعة اللبنانية تحملها. إنما يستطيعها المصممون اللبنانيون المعروفون الذين صدروا انتاجهم إلى اوروبا وروسيا وامريكا وكندا وما زالو ا حتى الآن.

في عامي 2007و2008 جرى أولاً إقفال الوسط التجاري ما أدي إلى تراجع حضور التجار إلى بيروت. وضاعف من حدة المشكلة عدم الاستقرار في الوضع الامني وسيطرة حزب الله ثانياً، فامتنع  معظم التجار السعوديين والخليجيين عن المجيء الي بيروت.

وعندما انطلقت شرارة الربيع العربي، كانت الطامة الكبري مع وصولها إلى ليبيا، حيث خسرت الصناعة اللبنانية أهم وأكبر سوق لها ويقدر بملايين الدولارات. باعتبار أنه  حين بدات الثورة في ليبيا كان جحم الطلبات من معامل لبنان تقدر قيمتها لهذا السوق وحده ثلاثة ملايين دولار.

ثم جاء دور سوريا والعراق حيث كان يتجه نحو أسواقهما أجود البضاعة اللبنانية  ذات الموصفات الاوروبية.

واللافت أن تراجع الطلب العربي الخليجي السعودي والاماراتي كان في جزء منه نتيجة دخول العامل السياسيي الطائفي والمذهبي على خط التبادل. حيث كان يسأل التاجر الخليجي  عن ديانة ومذهب صاحب المصنع، ما شكل مشاكل كبيرة، وتسبب في إلغاء الكثير من الطلبات ما قاد إلى ظهور الموجة الثالثة من اقفال المعامل المتوسطة وجزء من المعامل الكبيرة.

الباقي من القطاع  والمعامل الآن قليل جداً، فقد أقفلت أغلب المعامل الكبيرة، وتوجه أصحابها بمصانهم نحو الانتاج في تركيا. لكن هؤلاء ما لبثوا أن تعرضوا مجدداً لما هربوا منه في لبنان، على صعيد غلاء بدلات الايجارات والكهرباء، وتوقف روسيا عن الاستيراد من تركيا. ومجدداً اقفل الصناعي اللبناني عمله الجديد في تركيا. قسم من الصناعيين والتجار قصدوا أماكن الانتاج الرخيصة كل حسب اختصاصه، أي نحو الصين وبنغلادش وفيتنام وباكستان.

وقد تداعى فعلياً قطاع صناعة الألبسة الجاهزة بعد العام 2015 حيث فقدت الأسواق العربية اهتمامها بالمنتج اللبناني على ضوء المنافسة من الصين والبلدان ذات الانتاج الرخيص ما أدى إلى اقفال القسم الاكبر من المعامل الكبيرة.  مصنع (اكتيول)لأصحابه عائلة سنو كان لديهم ما يقارب الـ 120 عامل، ويعمل معهم حوالي 25 ورشة، كل واحدة تضم ما بين 12 إلى 20 عامل. ويملكون أحدث الماكنات ذات التكنولوجيا العالية، وبفعل الأزمات التي ذكرنا أقفلوا المصنع واختلف الشركاء، وتراكمت عليهم ديون تقدر بأكثر من مليوني دولار للمصارف التجارية وبفوائد مرتفعة، ما اضطرهم إلى عرض ممتلكاتهم للبيع بما فيها العقارات، علماً أنهم كانوا يملكون سلسلة محلات للبيع بالمفرق في بيروت وباريس.

مصنع (آل ميداني) كذلك أقفل بفعل توقف تصريف الانتاج في ليبيا حيث الثقل الاساسي لسوقه، وكذلك البيع بالمفرق في بيروت. فقام أصحابه ببيع عقارات عائدة لهم بما فيها العقار الذي أقاموا عليه المعمل مع الماكنات والقماش وعدة المعمل لسداد الديون.

كذلك  كان الأمر مع (معمل حلواني غروب) الذي فاقت ديونه الـ  600000 ألف دولار وأغلبها للبنوك وديون تجار ومالية وضمان اجتماعي و ضريبة القيمة المضافة بعد أن تعرضت أسواق صادراته العربية للشلل، ومعها السوق المحلي في المناطق الشعبية التي اتجهت نحو البضاعة الصينية. كما أن أصحاب محلات المفرق باتوا عاجزين عن تسديد التزاماتهم المالية، وبقيت له مبالغ طائلة لم تحصَّل اطلاقاً، ما أدى إلى إقفال المصنع وبيع موجوداته ومعها 3 عقارات لتسديد الديون.

كما طال الإقفال أيضاً (معمل نعيم نعمة –  سد البوشرية)و(معمل فرجيني –الزلقا ) و(معمل ازيك – برج حمود) و(معامل آل العيتاني – المصيطبة). وكذلك أغلب معامل الشمال وتحديداً معامل جبل محسن التي تضررت خلال الأزمة الاقتصادية والأمنية.  واللائحة تطول في سرد ما آلت إليه معامل قطاع  كان يشغِّل ألوف العمال على امتداد كل الاراضي اللبنانية.

ومع هذا المصير الذي طال قطاع النسيج والأقمشة والألبسة الجاهزة جري تشريد الآف العمال اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وشمل الإقفال المحترفات الصغيرة التي توقفت عن العمل مع بداية العام  2020.

مشاكل العمل والعمال

الواضح أن مشاكل أرباب العمل والتي قادت إلى إندثار القطاع بشكل شبه تام جراء  فقدان الأسواق الخارجية عربية ودولية ومحلية، مضافاً إليها ثقل وطأة التشريعات الحكومية التي مثلت كارثة طالت هذه الصناعة.  من جهة أخري كانت الفوائد المرتفعة سبباً حاضراً في افلاس اصحاب المؤسسات، أما العلاقة بين أرباب العمل والصندوق الوطني  للضمان الاجتماعي فقائمة علي الكذب والرشوة. فالمسجلون من العمال في الصندوق لا يتجاوز عددهم ما بين 10 الي 20 % من في أحسن الأحول، باعتبار أن المعامل التي صرحت عن وجودها بشكل قانوني أصلاً قليلة جداً.

أما مع وزارة المال فأغلب أصحاب المصانع لديهم دفترين ماليين، واحد حقيقي، والثاني مخصص لتقديمه إلى المالية، يطلبون بموجبه دفع الضربية علي الربح المقطوع لا علي الربح الحقيقي. لأن الربح الحقيقي يستوجب تدقيقاً مالياً سنوياً من الوزارة، وهذا ما لا يريده أصحاب العمل. أما الربح المقطوع فيدفع صاحب العمل عنه مبلغاً مقطوعاً سنوياً حسب التصريح المالي السنوي الذي يقدمه صاحب العمل بموجب الدفتر المزوّر.

وقد برزت المشاكل الفعلية للقطاع، مع تطبيق ضريبة القيمة المضافة على المؤسسات التي يزيد حجم مبيعاتها عن 100000ألف دولار. علماً الرقابة لاستنسابية من قبل الموظفين المتعاقدين بشكل مؤقت والذين لا يتمتعون بالخبرة الكافية ساهمت في تغطية مخالفات أرباب العمل.

قبل الحديث عن مشاكل العمال في القطاع لا بد وأن نشير إلى أن معظم اليد العاملة اللبنانية في قطاع الخياطة هي من العنصر النسائي. ويلاحظ أن معظم العاملات أصبحن من المسنّات ويتم استبدالهن بعاملات من سوريا. تتلخص أبرز مشاكل عمال القطاع إضافة إلى البطالة المستشرية في صفوفهم بعد إقفال المصانع في الاتي:

  1. عدم تنسيب العمال على العموم إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ما يحرمهم الإفادة من حقوق الطبابة والإستشفاء وتعويض نهاية الخدمة.
  2.  بالنظر إلى ضعف موقع العمال، ومعظمهم من الفتيات، يحصلون على أجور منخفضة، ويتعرضون لعملية ضغط  لمنعهم من الانتساب إلى نقابات القطاع.
  3.  هناك عدم ثقة شريحة كبيرة من العمال بالنقابات القائمة. والسبب يعود إلى تجاربهم في تحركات سابقة، إذ أن بعض النقابيين كانوا يحصلون على  رشاوى من أرباب العمل مقابل قيامهم بإجهاض التحركات.

4- عدد كبير من المعامل لا يراعي الشروط الصحية اللازمة لبيئة العمل، لجهة الرطوبة والتهوئة و نظافة المكان.

5 – يفرض عدد من أرباب العمل كشرط مسبق توقيع العامل الراغب بالعمل لديه قبل تشغيله على كتاب استقالة غير مؤرخ، ومعه يستطيع طرده في اية لحظة يطالب فيها بحقوقه.

6 – توجيه إنذارات صرف من الخدمة لوزارة العمل غير موقعة من صاحب العلاقة، بل من العمال المحسوبين علي رب العمل. وللعلم فإن إصدار ثلاثة انذارات ترسل إلى وزاة العمل يستطيع بعدها رب العمل طرد العامل.

7 – كما وأن العمال المنتسبون للضمان لا يسجلون برواتبهم الفعلية، بل بالحد الأدني للاجور لتهرب أرباب العمل من دفع ما يترتب عليهم، بما فيه تهرب من دفع كامل المتوجب عليهم من ضريبة الارباح لدى وزارة  المال.

8 – أما العمال غير المضمونين لدى الصندوق فبعد تركهم العمل يقسط رب العمل تعويض نهاية الخدمة الي اقساط شهرية، بحيث لا يستفيدون من تعويضاتهم التي تتآكل قدرتها يومياً.

9 – أما الجانب القانوني في المحاكم (مجالس العمل التحكيمية )، الخاصة لشكاوى العمال ضد أرباب العمل،  فالجلسات فيها تمتد إلي سنوات طويلة جداً. وفي بعض الحالات تصل إلى أكثر من 10 سنوات، ولا يحصل في نهايتها العامل على حقوقة. كما أن  وزارة العمل لا تمارس الاشراف على المعامل، وتغض النظر عنها إلا في حال دخلت على الخط  الحسابات الطائفية، وغالباً ما تحل هذه بالرشاوي. 10 – مع ارتفاع اكلاف العمل وعدم تحمل ارباب العمل هذة الكلفة المالية ابتدعوا نظام العمل علي القطعة، أي أنه يتم دفع مبلغ مالي مقطوع اجرة للعمل المنوي تنفيذه، وهو نظام استغلال معروف ينتشر بين العمال غير المنظمين في نقابات وبين المهاجرين غير الشرعيين في دول الجذب. هذا النظام لا يقدم أي ضمانات أو تعويضات. كما لا يعطي زيادة على الأجور. كما أن استمرارية العمل غير مضمونة. أما التعويض فيدفع – اذا دفع – حين انتهاء العمل وتفتيش العامل على عمل آخر. وهو ما يمارسه أرباب العمل اللبنانيين الذي أدخلوا أعداداً كبيرة من  العمال السورين للعمل بكثافة في بيروت والمناطق، ما شكّل منافسة للعمال اللبنانيين الذين خسر معظمهم وظائفهم، بمن فيهم من كانوا يعملون عند كبار مصممي الأزياء العالميين المعروفين.

Leave a Comment