سياسة مجتمع

التسوية المفقودة بين الداخل والخارج وادارة الانهيار

زكـي طـه

مما لا شك فيه أن ارتدادات الزلزال التركي ـ السوري قبل ايام، والتي اصابت لبنان من أقصى شماله حتى جنوبه، قد وحّدت اللبنانيين للحظات رعباً وقلقاً مما يمكن أن تتسب به من أضرار أو كوارث إضافية. وفيما كانوا يتبادلون امنيات السلامة، ووصف ما جرى لهم وكيف تصرفوا، وجدوا أن ما يتردد على السنتهم جميعاً، قولهم “لم يكن ينقصنا سوى الزلزال وكأن ما حل بنا من زلازل الطبقة السياسية غير كافٍ”، توصيفاً لما هم عليه وسط الانهيار المتمادي منذ سنوات. كان هذا قبل أن ينصرفوا إلى متابعة أخبار الكارثة الكبرى التي تسبب بها الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، وهول ما بدأ يتكشف تباعاً من الخسائر البشرية التي سننتظر طويلاً قبل أن نعرف كم بلغ عدد الضحايا والمفقودين والجرحى وحصة اللبنانيين منهم. هذا عدا كم الدمار الهائل الذي اصاب البلدين على الصعيد العمراني والاقتصادي والاجتماعي، خاصة في سوريا التي ستضاف خسائرها إلى ما تسببت به الحرب الأهلية المفتوحة فيها وعليها من قتل وتهجير ودمار، على يد النظام وخصومه من الميليشيات المتعددة الجنسية، بإدراة ومشاركة خارجية إقليمية ودولية واسعة، باعتبارها ساحة صراع لتقاسم السيطرة عليها ونهب مواردها.

وفي موازاة المتابعة الدؤوبة من قبلهم لنتائج ومضاعفات الزلزال وما يحتدم في امتدادهما من سجالات تتصل باستغلال الكارثة خاصة منها المتعلقة بحاجات الشعب السوري للإغاثة والتنافس على توظيفها على نحو رخيص في خدمة النظام أو خصومه بعيداً عن الجانب الانساني. فقد استأنف أكثرية اللبنانيين سريعاً جدول اعمالهم اليومي لترتيب أوضاعهم وتأمين شؤون معيشتهم وحاجاتهم، وفق معادلة الحد الادنى الممكن والمتاح لهم، في ضوء الانهيار الشامل الذي اصاب جميع قطاعات الدولة واجهزتها ومؤسساتها العامة والخاصة، وسط اتساع حالة الفوضى العارمة وتزايد خروجها عن السيطرة على كل المستويات.

جرى الامر فيما كانت ابصارهم وعقولهم شاخصة إلى العدلية حيث خطر انفجار المعركة في ساحة القضاء وعليه في آن، وإلى باريس حيث اللقاء الذي قيل انه سيبحث في ازمات بلدهم التي تنتظر حلولاً من الخارج طال انتظارهم لها، بعدما بحثوا طويلاً عنها في الداخل دون أن يجدوا مؤشراً لامكانية حصولها، مقابل تكاثر معطيات ابتعادهم عنها.

صحيح أن تأجيل التحقيق من قبل المحقق العدلي بانفجار المرفأ، سحب فتيل تفجير الصراع المفتوح داخل الجسم القضائي مؤقتاً، وسط التهويل بامكانية الاشتباك بين الاجهزة الامنية في اطار تنفيذ ما يصدر عن القضاة من مذكرات توقيف. وكما وأن ما حصل لا يعيد الاعتبار للسلطة القضائية ولا يصوب وضعها وأدائها ايضاً. فإنه كذلك لا ينال من نجاح الطبقة السياسية في تعطيل التحقيق مجدداً والدفع به إلى الهامش، تمهيداً لإلحاقه بسائر الملفات المركونة في ارشيف الجرائم الكبرى التي تقيَّد ضد مجهول.

التسوية المؤجلة

والصحيح ايضاً، أن خيبة أمل اصابت المواطنين الذي راهنوا على لقاء باريس لأن بياناً لم يصدر عنه. وبينما توزع أهل السلطة الارتباك لدى من راهن على اللقاء باعتباره نجدة له ومصدر قوة لتعزيز طروحاته، مقابل الارتياح عند من توجس ريبة منه، باعتباره مستهدفاً لأن مرجعيته الاقليمية لا مكان لها راهناً في ما يجري التدوال به من مخارج تسووية لأزمات البلد. يؤكد ذلك أن الطرفين كانا قد استبقا اللقاء الذي تعددت مواعيد حصوله، بحملات شعواء من الترحيب والتحريض الشعبوي، طالت مختلف جوانب الازمة اللبنانية من بوابة معركة انتخابات رئاسة الجمهورية المعطلة، وما تقوم به حكومة تصريف الاعمال، والتحقيق القضائي الاوروبي مع القطاع المصرفي والمعركة حول التحقيق العدلي، وقضايا الاصلاح الموعود في ميادين الادارة العامة وقطاعات الخدمات واوضاع المصارف والانهيار المالي. وهي الحملات التي عكست وعلى نحو سافر الاهداف والطموحات الفئوية للقائمين بها من مواقعهم الطائفية بعيداً عن المصلحة الوطنية اللبنانية.

وفي سياق تبرير تلك الحملات وتغطية ما تنطوي عليه من مواقف سلبية واتهامات متبادلة، لم يتردد اطراف السلطة عن استحضار موروث الانقسامات الاهلية، والاستهانة بوحدة الكيان وتهميش الدولة ومؤسساتها، واستخدامها في صراعاتهم المفتوحة للهيمنة والاستئثار بالسلطة والنفوذ والمغانم، في موازاة استسهال المطالبة بالفدرالية واللامركزية الادارية والمالية، والدعوة لإعادة النظر بصيغة النظام والدولة وفق ما يتردد على ألسنة قيادتي التيار الحر والقوات اللبنانية وسواهم، رداً على امعان حزب الله في استغلال فائض قوته المسلحة من أجل اخضاع الآخرين ودفعهم قسراً للتسليم بهيمنته الطائفية والفئوية باعتبارها أمر واقع.

هذا ما أبرزته مواقف تلك الاطراف ومرجعياتها الروحية وملاحقها التابعة، التي تراهن على الخارج وترتهن له من مواقعها الطائفية الاختزالية والتفكيكية في آن، باعتبار طائفة كل طرف هي شعب قائم بذاته، وفق ما أعلنه رئيس كتلة الوفاء للمقاومة في حزب الله: “شعبنا لن يصرخ وليصرخ الآخرون بقدر ما يشاؤون”، ولا يختلف عنه حليفه التيار الحر الذي يرفع لواء حقوق المسيحيين. وفي السياق ذاته تساجل القوات حول ضمانات الدعوة لتنظيم جبهة النواب المسيحيين تحت راية البطريركية المارونية لتسمية الرئيس وخوض معركة انتخابه، وتشريع جبهة تعطيل دور حكومة تصريف الاعمال الخدماتي، ومنع المجلس النيابي من تشريع الحد الادنى الضروري.

لا شك في أن عدم صدور بيان عن المجتمعين قد شكل رسالة غير متوقعة للبنانيين، لأنها اطاحت بأوهام الكثيرين، وكشفت مأزق سائر اطراف السلطة وقدرتها على الصمود وحماية مواقعها ومكتسباتها الفئوية. فيما هي تخوض معاركها بانتظار التسوية المؤجلة لأن قراراً دولياً – إقليمياً لم يتخذ بشأنها لغاية الآن.

ادارة الانهيار

ولذلك لا يُقرأ عدم صدور بيان عن لقاء احتاج التحضير له أشهر، إلا في ضوء مصالح اطراف الخارج الاقليمي والدولي، للاستثمار في ازمات المنطقة بما فيها الأزمة اللبنانية، التي لا يمكن اختزالها بالتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية. هذا ما أكدته جميع التقارير والبيانات التي صدرت عن الجهات الخارجية منفردة أو مجتمعة. وأبرزها المبادرة الفرنسية وبيان الخارجية الكويتي والبيان الاميركي الفرنسي السعودي وتقارير صندوق النقد والبنك الدولي. وهي البيانات التي لا تكتفي بالتشديد على التزام اتفاق الطائف، بل تكرر المطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية توحيدي يمتلك رؤية انقاذية، وتشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الاصلاحات الضرورية والشاملة على الصعيد المالي، وتحقيق العدالة ومكافحة الفساد والتهريب لضمان استقرار لبنان وأمنه.

وبصرف النظر عن تعدد القراءات حول عدم صدور بيان عن لقاء باريس، فإن السبب الرئيسي مرده تعدد مقاربات الدول المشاركة فيه وتباين مواقفها وأهدافها تبعاً لمصالحها السياسية والاستثمارية، في ظل عدم قدرتها على فرض أي تسوية لا يشارك النظام الايراني في صياغتها وتوفير ضمانات نفاذها، كما كان الامر قبل اشهر، مع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الاسرائيلي. وإذا كانت الاولوية الاميركية راهناً استكمال معركتها مع النظام الايراني ورفض التواصل معه حتى عبر فرنسا أو قطر، وهو في المقابل ليس بوارد تقديم تنازلات مجانية للآخرين، أو تمرير تسويات بلا ثمن. وإلى ذلك الحين فإن توافق اطراف اللقاء على توفير الحد الادنى من المساعدات الانسانية للبنانيين، لا يزال قائماً، ولكن بعيداً عن أجهزة الدولة ومؤسساتها باستثناء العسكرية والامنية منها.

ورغم المعطيات الكثيرة التي تؤكد عدم وجود قرار دولي – إقليمي راهن، يستهدف صياغة وفرض تسوية للأزمة اللبنانية. فإن الهدف من التسريبات حول التحضير لاجتماعات أخرى على مستوى وزراء الخارجية، وعن توزيع أدوار بين الدول المشاركة في لقاء باريس، وحول استمرار المساعدات المتنوعة، لا يتعدى راهنا الإيحاء للبنانيين أنهم غير متروكين لتسلط وعبث الأطراف المتحكمة برقابهم، والممعنة في استغلال الانهيارالناتج عن سوء سياساتها وممارساتها المافياوية، واستسهال دفع البلد إلى نفق الاختناق والتفكك والفوضى الاهلية، وإدامة التوتر السياسي والطائفي، في موازاة اقفال الابواب على أي تسوية انقاذية للاستحقاق الرئاسي، وفق ما أكدته المبادرة الجنبلاطية.

وعليه لن يكون مستغرباً أن يشهد اللبنانيون في القادم من الايام موسماً جديداً من التصعيد بين اطراف الطبقة السياسية حول مختلف القضايا، وسط الانغلاق على أية معالجات ولو محدودة لأوضاع القطاعات الاجتماعية المتضررة. الامر الذي يلقي بثقله بوجه قوى الاعتراض كما يحملها مسؤولية خوض المواجهة مع منظومة السلطة المافياوية دفاعاً عن المصالح الوطنية اللبنانية وحقوق اللبنانيين. وهي المسؤولية التي طال انتظار النهوض باعبائها دون مبرر، وهو لا يشكل تحدياً لها وحسب، بقدر ما يطعن بجدارتها الوطنية والنضالية والانسانية.

Leave a Comment