ياسر هلال*
ما زال لبنان يتأرجح بين هبّة ساخنة عند سفر الوسيط الأميركي آموس هوكستين، وهبّة باردة عند عودته. أمّا نتائج جولاته المكّوكية فباتت تتأرجح حول تراجع إسرائيل عن مطالبتها باقتطاع أجزاء من البلوك 8 مقابل تنازلها بالكامل عن المكمن المحتمل في البلوك 9 (قانا)، وهي “الهديّة المسمومة” التي قدّمها هوكستين ورفضها لبنان.
ولكن قبل استعراض الموقف الإسرائيلي وما يترتّب عليه من تطوّرات، تُثار جملة تساؤلات بنهكة الاتّهامات للطبقة السياسية في لبنان حول البلوك 8، وما جرى ويجري بشأنه، والحديث عن وجود قوى وشخصيّات لبنانية تدفع باتّجاه القبول “بهديّة هوكستين”، وهي:
– ماذا يوجد في البلوك 8؟ وما صحّة المعلومة التي ذكرها أحد المسؤولين في معهد المسح الجيولوجي الإسرائيلي في مداخلة له خلال أحد المؤتمرات، وتفيد بأنّ المنطقة الواقعة على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع قبرص (تضمّ البلوك 8)، تحتوي على مخزونات كبيرة من الغاز، وتقدّر كميتها بحوالي 300 – 400 مليار متر مكعّب؟
– ما صحّة المعلومة الثانية التي ذكرها المسؤول الإسرائيلي، ويعرفها كلّ المسؤولين اللبنانيين، وهي أنّ التكوين الجيولوجي للمكمن المحتمل في البلوك 9 (قانا) شبيه بتكوين حقل كاريش الذي يحتوي كمّيات ضئيلة من الغاز تقدَّر بحوالي 48 مليار متر مكعّب، في حين أنّ تكوين منطقة البلوك 8 شبيه بتكوين حقل تمار الذي تقدّر الاحتياطات المثبتة فيه بحوالي 280 مليار متر مكعّب؟ تستند أهميّة هذه المعلومة إلى حقيقة معروفة وهي أنّ مكامن الغاز التي تقلّ الاحتياطات المثبتة فيها عن 85 مليار متر مكعّب، لا تُقدم الشركات عادةً على استخراجها لعدم جدواها، إلا إذا وُجدت حقول مجاورة يتمّ ربطها إلى منصّة استخراج واحدة، كما حصل في حقول كاريش وشمال كاريش وتانين، وذلك ما يعطي لتعبير الهديّة المسمومة معناه.
– لماذا تمّ استثناء البلوك 8 وجزء بسيط من البلوك 2 المحاذي للحدود السورية من المسوحات الثلاثية الأبعاد، علماً أنّ شركتين قامتا بالمسوحات هما “سبكتروم” و”بي.جي.إس”، وفي أوقات مختلفة، كما يوضح الرسم المرفق المنشور على الموقع الرسمي لهيئة إدارة قطاع البترول؟ ولماذا تجاهل المسؤولون هذه المسألة طوال السنوات الماضية؟
– كيف تمتلك إسرائيل نتائج المسوحات لجزء من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية؟ فهل تولّت هي أعمال المسح، وتلك فضيحة؟ أم نفّذت “سبكتروم” و”بي.جي.إس”المسوحات فعلاً، لكنّهما سلّمتا النتائج إلى إسرائيل وليس إلى لبنان، وتلك فضيحة أكبر؟. السؤالان يثبتهما إعلان الوزير جبران باسيل سابقاً أنّ “الداتا” موجودة لدى إسرائيل مطالباً بتسليمها إلى لبنان.
– لماذا تمّ اختيار البلوك 9 وليس البلوك 8 لطرحه في دورة التراخيص الأولى؟
– وهل صحيح أنّ شركات النفط الدولية، وخاصة الأميركية منها، هي التي ضغطت لاستبعاد البلوك 8؟
حرق أوراق قوّة لبنان
بانتظار إجابات واضحة على هذه التساؤلات من قبل المسؤولين بدلاً من تقاذف المسؤوليّات وتغطية “السموات بالقبوات” كما هي العادة اللبنانية الشائعة، نستعرض الاحتمالات الممكنة لتطوّر المفاوضات، والتي يمكن اختصارها في احتمالين هما:
ـ الإحتمال الأوّل: التصلب الإسرائيلي
تمسّك إسرائيل بربط التنازل في البلوك 9 ومكمن قانا بالحصول على تعويض مناسب في البلوك 8. وما يعزّز هذا الاحتمال أنّ التنازل مكلف من الناحية السياسية لأنّه يشكّل انتصاراً واضحاً لحزب الله بعد التصعيد المدروس من خلال المسيَّرات، وتحديد شهر أيلول مهلة نهائية لتوقيع الاتفاق. والمرجّح في هذه الحالة أن تلجأ إسرائيل إلى المماطلة وشراء الوقت بحجج مختلفة كالإنتخابات، وحلّ عشرات النقاط التفصيلية في الاتفاق العتيد. أمّا بالنسبة إلى مهلة أيلول التي وضعها حزب الله، وهي موعد بدء الاستخراج من حقلَيْ كاريش وتانين، فيبدو أنّ بعض المسؤولين الإسرائيليين تعمّدوا تسريب معلومة عن الإستعداد لتأجيل بدء الاستخراج إلى “ما بعد أيلول” باعتبار أنّ التداعيات السياسية السلبية للتأجيل ستكون أقلّ بكثير من تداعيات التنازل عن البلوك 8، بعد التنازل عن مكمن قانا. أمّا الخسائر الماليّة الناجمة عن التأجيل فيمكن تحمّلها،خاصة أنّ إنتاج حقلَيْ كاريش وتانين يعتبر محدوداً مقارنة بحقلَيْ تمار ولفياتان.
تراهن إسرائيل على أنّ التأجيل سيفتح المجال لحدوث تطوّرات قد تؤدّي إلى حرق أوراق القوّة اللبنانية، وهي:
– أوّلاً، توافق الطوائف والزعماء على اعتماد الخط 23 كاملاً واعتبار ذلك الحدّ الأقصى للتنازلات بعد التنازل عن الخط 29. وترى إسرائيل أنّ هذا التوافق قد لا يستمرّ طويلاً في ظلّ تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والماليّة، خاصة إذا ما تمّ ربط المساعدات والاستثمارات من الدول المانحة والمؤسّسات الدولية بإنجاز ملفّ الترسيم، معطوفةً على ضغوط تمارس على بعض الأحزاب والشخصيات اللبنانية لتغيير مواقفها. ويُشار هنا إلى حقيقة معروفة، وهي أنّ عدم التوافق والصراع بين الطوائف والأحزاب على الاستئثار بالملف ترسيماً وتنقيباً واستخراجاً، كانا نقطة الضعف الرئيسية في الموقف اللبناني والسبب المباشر لتعطّل الترسيم طول السنوات الماضية.
– ثانياً، ورقة القوّة الثانية تتمثّل في صواريخ حزب الله والقدرة على إلحاق أضرار كبيرة بصناعة النفط الإسرائيلية، مع التسليم سلفاً بالدمار الشامل الذي سيلحق بلبنان. وإسرائيل “تُدرك الحقيقة المعروفة”، وهي أنّ قوّة هذه الورقة مرتبطة موضوعيّاً بالورقة الأولى، أي التوافق والموافقة على الحرب من قبل كلّ اللبنانيين أو غالبيّتهم، وليس من قبل بيئة حزب الله أو غالبيّتها فقط. وقيادة حزب الله أكثر من يعرف هذه الحقيقة، ويصبح الكلام عن “تكليف إلهي” أقرب إلى الحرب النفسية لإقناع إسرائيل بجدّيتها ولإقناع بيئته بضرورتها. يُضاف إلى ذلك أنّ هذه الورقة لا ترتبط فقط بالحقوق والحدود، باعتبار أنّ سلاح حزب الله هو جزء من المعادلة الإقليمية ومن نفوذ وقوّة إيران في المنطقة.
وبهذا المعنى يمكن القول إنّ مبادرة الأمين العام لحزب الله إلى ربط الإتفاق باستخراج متزامن للغاز بين لبنان وإسرائيل وليس بالترسيم فقط، تحمل وجهين متعارضين:
ـ الأوّل ، أنّها تشكّل لغماً لتفجير المفاوضات إذا لم يحصل توافق أميركي إيراني على هذا الملفّ، ومبرّراً لأيّ تصعيد عسكري محتمل.
ـ الثاني، أنّها تشكّل ورقة بيد المفاوض اللبناني وتجيّر إنجاز الترسيم لصالح الحزب إذا حصل التوافق.
وعليه فإنّ إسرائيل تراهن على أنّ التطوّرات المرتقبة ستؤدّي إمّا إلى تحييد ورقة الصورايخ إذا تمّ توقيع الاتفاق النووي، وإمّا إلى حرقها في أتون الصراع الداخلي، أو تحمّل أوزارها في حال وقوع الحرب، وهو أمر مستبعد ضمن المعطيات والمؤشّرات الحالية.
الإحتمال الثاني: انصياع إسرائيل
– أمّا الاحتمال الثاني فهو انصياع إسرائيل للمطالب اللبنانية، باعتماد الخط 23 كاملاً بدون “تعرّجات”. وما يعزّز هذا الإحتمال هو ميل إسرائيل إلى تجنّب أيّ تصعيد عسكري، وحاجتها إلى إنهاء النزاع الحدودي لضمان استخراج الغاز من البلوكات الشمالية بعدما ثبت أنّ المكامن الكبيرة موجودة في تلك البلوكات، خاصة في ظلّ حاجة أوروبا إلى صادرات الغاز من شرق المتوسط على الرغم من ضآلتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ إسرائيل تدرك منذ بداية المفاوضات أنّ الخط 23 يمثّل الحدّ الأدنى من حقوق لبنان، وقد راعت في توزيع البلوكات هذا الأمر كما توضح الخريطة المنشورة على الموقع الرسمي لوزارة الطاقة والتي تبيّن أنّ البلوكات 1 و2 و3 الموجودة بين الخطّين 1 و23 هي بلوكات مصطنعة من حيث الشكل والمساحة مقارنة ببقيّة البلوكات الإسرائيلية، وكأنّها وُضعت للتنازل عنها حين تحين ساعة الاتّفاق. ولم يتمّ إدراج هذه البلوكات في دورات التراخيص المتتالية، وحتى عندما اضطرّت إسرائيل إلى تجديد عقد تلزيم البلوك 72 “ألون دي” المحاذي للبلوكات الحدودية العام الماضي، أطلقت دورة تراخيص مخصّصة حصراً لهذا البلوك.وهو الأمر الذي يقلّل من ضرورة وأهميّة المعارك الوهمية والانتصارات الوهمية في اعتماد الخط 23.
شركة النفط الوطنيّة والمكامن المشتركة
بانتظار هوكستين الذي عنده “الخبر اليقين” بشأن أيّ من الاحتمالين سيتحقّق، ولنفترض تحقّق الاحتمال الثاني وحصول توافق داخلي وإقليمي لإبرام اتفاق الترسيم، فعندئذٍ تبرز التحدّيات الأكثر أهميّة وخطورة، ومنها على سبيل المثال:
– أوّلاً،الترسيم مع قبرص وسوريا وحلّ أيّ نزاع حدودي، كشرط لجذب الشركات وإقناعها باستثمار المكامن المشتركة الموجودة بغضّ النظر عن الخط الذي يُرسم على سطح الماء.
– ثانياً، تأسيس شركة وطنية للنفط والغاز تتولّى المشاركة مع الشركات الدولية كبديل عن “بدعة” الكونسورتيوم المكوّن من شركة مشغّلة وشركتين غير مشغّلتين، وهي البدعة التي تمّ اختراعها لفتح المجال أمام القطاع الخاص بالشراكة مع بعض السياسيّين، وهذا يُنبه إلى ما في ذلك خطر الفساد.
*كاتب اقتصادي لبناني
والمادة نشرت على موقع أساس السبت في 13 آب / اغسطس 2022
Leave a Comment