اقتصاد

الانهيار الشامل إلى مزيد من التفاقم وغياب المعارضة الفعلية

كتب عماد زهير

فقدت الليرة اللبنانية حوالي 90 بالمئة من قيمتها منذ أواخر العام 2019، حين اندلعت الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد و” الحبل على الجرار” . وتجاوز سعر الدولار الاميركي في الايام الماضية عتبة الـ 15 ألف ليرة على وقع أزمة سياسية واقتصادية عاصفة، ما قاد إلى مضاعفة انهيار المداخيل وقدراتها الشرائية على نحو اضافي، مع غياب سياسة الدعم التي اعتمدها المصرف المركزي. وانفجرت  معها أزمة محروقات نقلت بيع المادة من طوابير الذل والانتظار أمام المحطات إلى السوق السوداء، في ما باتت حوالي 70 بالمئة وأكثر من الأدوية مفقودة من الصيدليات، وهو ما ينسحب كذلك على المستلزمات الطبية. وعدم توافرهما من شأنه أن يؤدي إلى وفيات بين مرضى القلب وغسيل الكلى والسرطان والمحتاجين إلى أجهزة تعويضية حيوية وذوي الأمراض المزمنة وسط فقدان أبسط متطلبات العمليات الجراحية وغيرها.

وفي مثل هذا الوضع يكابد لبنان انهيارا اقتصادياً كارثياً يهدد استقراره الأمني من البوابة الاجتماعية. من هنا وصف البنك الدولي الأزمة الراهنة بأنها أعمق كساد يعانيه لبنان في التاريخ الحديث. ورغم أن المصرف المركزي لم يعلن بصراحة وبوضوح عن فقدانه النقد الأجنبي الذي يستخدمه في برنامج دعم السلع الأساسية مثل الوقود والأدوية والقمح، الا أن ما يحدث عملياً لجهة تأخير تحويل الأموال لتمويل المستوردات الخارجية، إن كان يعني من أمر، فهو أن الدعم قد بات بحكم المرفوع عن سلع أساسية، من شأنها أن تضاعف من التهاب الأسعار وسط انهيار المداخيل المتأتية عن رواتب الموظفين والمتقاعدين والعاملين. هذا دون أن نتحدث عن فقدان مئات الألوف أعمالهم نتيجة شلل القطاعات وتوقفها عن الانتاج.

ولم تلجم إجراءات المصرف المركزي ووعوده الارتفاع المضطرد للدولار في السوق السوداء. فقد أعلن المصرف عن منصة “صيرفة” لضبط سعر صرف الدولار عند حدود الـ 12  ألف ليرة،  كذلك عن قدرة المودعين على سحب مبلغ 400 دولار شهرياً من حساباتهم بالعملة الاميركية،  أو ما يوازيها بالليرة اللبنانية بسعر قريب من سعر السوق السوداء، وهو ما تنصلت منه المصارف بأشكال شتى. ومع أن لجنة المال والموازنة النيابية قطعت شوطاً كبيراً في درس قانون” الكابيتال كونترول” لضبط حركة رؤوس الأموال وتحويلها للخارج، الا أن تأخر المجلس النيابي في درس واقرار هذا القانون يعني أن ” من ضرب ضرب ومن هرب هرب “، وباتت مليارات الدولارات خارج البلاد من خلال إقدام المرجعيات السياسية ومن يلوذ بها من محاسيب، وكذلك المصرفيين على نقل ودائعهم إلى ملاذات آمنة. ما دفع بالأزمة نحو مواقع متقدمة وأكثر جموحاً مما كانت عليه منذ البداية. ويترافق هذا الوضع مع عجز متراكم في ميزان المدفوعات قبل الانهيار ومعه، بفعل اختلال التبادلات المالية بين لبنان والخارج نتيجة الاعتماد في الاستهلاك على ما نسبته تقريباُ 80% على المستوردات الخارجية، في ظل عدم دخول دولارات بكميات كبيرة تعيد تعديل سعر صرف الليرة أو تحد من خسائر الليرة أمام الدولار. ولعل هذا يفسر المنحى التصاعدي المتواصل لسعر صرف الدولار في السوق الموازية. وعليه، يتوقع أن يترافق اقرار قانون “الهيركات” المتأخر حوالي العامين مع مزيد من الارتفاعات في سعر صرف الدولار في السوق السوداء.

ونتيجة المأزق السياسي والعجز عن تشكيل حكومة تضع برنامج اصلاح اقتصادي فعلي واستجلاب المساعدات والاستثمارات من الخارج، لا تجد حكومة تصريف الأعمال ومعها العهد وسائر مكونات السلطة الطوائفية أمامها سوى طبع العملة، أو محاولة الإنفاق من الاحتياطات الإلزامية للمصارف في المصرف المركزي – أي أموال المودعين –  لتأمين السيولة من العملة الصعبة لتأمين بعض الضروريات ( ثمن حمولة عدد من بواخر الفيول أويل لمعامل الكهرباء وبالقطارة )، وتمديد عمر الدعم الذي يذهب كله كما هو معلوم للمهربين والتجار الذين ينشطون على خط لبنان مع الخارج ولاسيما مع سوريا برعاية مافياوية – سياسية. وهكذا جرى استنزاف احتياطات المصرف المركزي، وتراكم الخسائر في حساباته، وتبديد ما تبقى من سيولة النظام المالي المتأتية من أموال المودعين. فعمليّة دعم الاستيراد كانت تتم عمليّاً من الاحتياطات المتبقية، وقد سمح غياب قانون الضوابط على سيولة النظام المصرفي، أو ما يعرف بالـ”كابيتال كونترول” باستعمال هذه الاحتياطات داخلياً من جهة، وتهريبها خارج النظام المالي من جهة ثانية. وهو ما من شأنه أن يقود إلى تمادي  الانهيار ومضاعفته في سعر الصرف، وزيادة نسبة من هم تحت خط الفقر من المواطنين الذين يتقاضون مداخيلهم بالعملة الوطنية، أو يصرفون من مدخرات وودائع لهم على سعر صرف متدن هو 3900 ، بينما يحصلون على سلع مسعَّرة على أكثر من 15 ألف ليرة. يجري هذا مع انهيار الدعم كما أسلفنا وعدم وجود الأموال للبطاقة التمويلية لتعويض العاجزين عن تأمين قوتهم اليومي ونفقاتهم الضرورية التي تضاعفت أسعارها. 

ولعل ما كشف عنه تقرير أخير للبنك الدولي، ووصفه لبنان بأنه يعاني “الغرق”، وأن أزمته المالية والاقتصادية تحتل مرتبة من الثلاث الأولى من الأزمات الأكثر حدة على مستوى العالم منذ منصف القرن التاسع عشر، يؤشر إلى عمق الهوة التي تندفع نحوها البلاد دون حد أدنى من الكوابح، بدليل الكارثة الاجتماعية التي يعانيها أكثر من 55% من السكان نتيجة انخفاض الناتج المحلي وتراجع نصيب الفرد الإجمالي من الدخل وحال الانكماش، وفقدان القدرة على تأمين البديهيات كالأغذية والرعاية الصحية والتعليم وارتفاع نسبة التضخم وحال البطالة، ما يجعله في قائمة الدول الهشة التي تسيطر عليها النزاعات والعنف والفشل الوطني مع عواقبه الاقليمية والعالمية المحتملة.

ويلحظ التقرير أن الأزمة المالية والاقتصاديّة زادت من هشاشة لبنان وتفكّكه، ما يرفع من خطر الاضطرابات المدنية والاجتماعية. ويفاقم من أوجه الخلل الطويلة الأمد، بما في ذلك مكامن الضعف المؤسسيّة، والسياسة الاجتماعيّة والاقتصاديّة الفاشلة، والخدمات العامة السيئة. ووفقاً للتقرير، فإنّ القلق يزداد في لبنان، من تضافر العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.

ويسلّط التقرير الضوء على محركين اقتصاديين محتملين قيد التدقيق المتزايد، يمكن أن تكون لهما انعكاسات اجتماعيّة ملحوظة، وهما دعم الصرف الأجنبي في لبنان للواردات الأساسيّة والمهمّة، والذي يشكّل تحديًا اجتماعيًّا وسياسيّاً جدّيّاً. والثاني هو وقع الأزمات على أربع خدمات عامة أساسيّة وهي الكهرباء، وإمدادات المياه، والصرف الصحي، والتعليم.

رغم حدة الأزمات وتفاقمها وشمولها كل الخدمات العامة التي تضاعفت أعباء الحصول عليها نتيجة ارتفاع أكلاف البدائل المعتمدة ( كهرباء مولدات ومياه للشرب وخطوط هاتفية وانترنت وما شابه)، فضلاُ عن تحليق أسعار السلع اليومية لاستهلاك المواطنين العادي واليومي ( أرز ، سكر ، حبوب ، زيوت ، لحوم و..) ، لا يمكن سوى أن نلحظ غياب ردود الفعل المعارضة فعلياً على هذه الاستباحة لغذاء ودواء ووقود وأكلاف تعليم اللبنانيين. وهو غياب لا يغيِّر فيه دعوة الاتحاد العمالي العام للتحرك 17 الجاري عبر تجمعات في مختلف المناطق من أجل تشكيل حكومة انقاذ. إذ إن شعاراً من هذا النوع فضلاً عن ملابساته السياسية ومرجعيته المعروفة، بات أعجز عن الإحاطة بوضع كارثي على هذا المستوى من التدهور. ما يثبت الحاجة الملحة لقيام معارضة نقابية وديموقراطية ووطنية شامل لسياسات وأداء وبقاء إدارة الطبقة السياسية الممسكة بزمام البلاد. بعد أن بات كل يوم إضافي لها في مواقع السلطة لا يعني سوى تعميق للانهيار مع ما يرافقه من افقار وجوع وإذلال وتفكك ومخاطر اجتماعية وأمنية، واحتمالات زاحفة على بقاء الكيان الوطني نفسه، الذي يبدو أشبه ما يكون بأشلاء ممزقة في كل المجالات ومن مختلف الجوانب. إن مثل هذا الكلام موجه في المقام الأول للقوى الديموقراطية في الانتفاضة التي تتحمل مسؤولية عن التفاعل مع حدة الأزمة عبر الاندماج والاندراج في تعبئة ومشاركة القطاعات الحيوية المنكوبة والتي تتعرض للتدمير الفعلي يومياً من خلال فقدانها البُنى النقابية المصادرة من قوى السلطات الطوائفية. ما يدفع أعداداً منها للتخلي عن حلم البقاء في الوطن والرحيل إلى حيث تتوافر لها الفرص للعمل بعد أن بات البقاء ضمن الاوضاع القائمة يدخل في عداد المستحيلات. 

Leave a Comment