سياسة

الاستثمار في الانهيار بين قوى الداخل ومصالح الخارج!

 كتب زكـي طـه

رغم مضي شهر على التكليف الثالث لتشكيل حكومة تنهي فراغ السلطة التنفيذية القائم منذ عام، ومع تعثر مواعيد اللقاءات بين الرئيسين وأفول موسم التفاؤل، فإن الشكوك في إمكانية تأليف الحكومة، باتت سيدة الموقف بالنظر لتعذر الاتفاق حول صلاحيات الرئيسين وتوزيع الحصص الوزارية وتسمية الوزراء، في ظل المحاصصة الفئوية تحت مسميات وزراء اختصاص.

لم يعد خافياً على أحد أن تشكيل الحكومة، مرتهن لمدى استجابة الرئيس المكلف وسائر اطراف السلطة، لطلبات رئيس الجمهورية باقتطاع الحصة الاكبر من التمثيل المسيحي، وتوفير ضمانات تحكّمه بسياسات الحكومة ومهامها وآلية عملها، وكفالة دور وموقع “وريثه” رئيس التيار الحر في الاستحقاقات المقبلة. علماً أن الشرط اللازم للتشكيل أن لا يتعارض مع طلبات وسياسات حزب الله وأهدافه الاستراتيجية. لأنه الطرف المتحكم بموازين القوى الداخلية سواء عبر فائض قوته، أو من خلال الاستقواء بالخارج وربط  مصير البلد بأزمات الجوار المتفجرة. وما يُسهّل عليه ذلك عجز شركائه وخصومه عن معارضته أو مواجهته. لأن كلاً منهم يخوض معركته الخاصة، سواء لحماية موقعه أو البقاء على قيد الحياة السياسية.

لقد ساهم اعلان حاكم المصرف المركزي وقف دعم استيراد المحروقات في تعقيد تشكيل الحكومة، وفي دفع  الوضع نحو مرحلة مختلفة جوهرياً، ليس على صعيد الانهيار الشامل فحسب، إنما  في الصراع حول الموقع الاقليمي للبلاد. وهي مرحلة أشد خطورة عما سبق طوال عامين، بالنظر لما  تنطوي عليه وما  يترتب عنها من  مضاعفات ونتائج كارثية يصعب حصر مفاعيلها. 

كذلك ساهم اعلان وقف الدعم، في اتساع حالة الفوضى والفلتان، ووضع الأمن الاجتماعي والغذائي لغالبية اللبنانيين في دائرة المخاطر وخارج أي سيطرة. وذلك بالنظر لتفاقم أزمة المحروقات وارتفاع اسعارها في ظل استمرار التهريب للخارج وتوسع السوق السوداء في الداخل. بالاضافة إلى الانعكسات المرعبة على قدرة أكثرية المواطنين في تأمين حاجاتهم من السلع والخدمات الضرورية، وتعطيل وشلل الدورة الاقتصادية.

واعلان الحاكم، أتى في سياق محاولاته رد تهم الفساد عنه، وتعطيل مساعي الاطاحة به عبر تحميله منفرداً مسؤولية الانهيار المالي ومترتباته. وهذا ما جعله بمثابة رد استباقي على مساعي رئيس الجمهورية والتيار الوطني، والحاحهما على الرئيس المكلف، اعتبار السير بالتحقيق الجنائي في عمل المصرف المركزي مدخلاً لاقالة الحاكم ومحاكمته.

    أما مسلسل فضائح الفساد المدوية، التي تكشفت في امتداد قرار رفع الدعم، فقد طالت سائر اطراف السلطة، سواء حول علاقاتها مع كارتيلات استيراد وتجارة السلع الضرورية من غذاء ودواء ومحروقات. أو لجهة مسؤولياتها وادوارها في دعم الاحتكار وحماية مافيات المولدات والمياه والتهريب للخارج، ورعاية عمليات تخزين السلع الأساسية والبيع في السوق السوداء. 

   تحصّن الحاكم بالقوانين ونجح في مواجهة تخبط رئاسة الجمهورية وقوى السلطة، وتمكن من تعطيل مفاعيل الضغوط  التي مورست عليه، متجاهلاً مواقف الرفض والإدانة لما قام به.  نتج عن ذلك فشل رئيسي الجمهورية والتيار ومعهما رئيس الحكومة المستقيل، المدعومين من حزب الله، في ثني الحاكم  أو اجباره على العودة عن قراره. ومما زاد في حدة مأزق الرئاسة رفض طلب عقد جلسة للحكومة المستقيلة لاتخاذ قرارات ملزمة للحاكم. ما دفعه إلى رمي الكرة في ملعب المجلس النيابي ومطالبته ايجاد مخرج للمشكلة. لكن الأخير رد بتوصية تطالب رئيس الجمهورية الاسراع في تأليف الحكومة واقرار البطاقة التمويلية، مستخفاً بتهديدات رئيس التيار الحر باستقالة نواب كتلته من المجلس. الامر الذي دفع رئاسة الجمهورية لتكرار اصدار قرارات خارج اطار الدستور بموافقة رئيس الوزراء المستقيل ووزير المال بصرف اعتمادات من الاحتياط الالزامي لتغطية  فرق دعم المحروقات بشكل مؤقت وحتى نهاية شهر أيلول، وإلزام حاكم المصرف المركزي. 

 ومع استمرار الفراغ الحكومي، وسط تبادل أدوار وتهم تعطيل التأليف، وتجاهل ما آلت احوال اللبنانيين وردود افعالهم. فإن الأخطر كان ولا يزال، في قدرة وجهوزية قوى السلطة على الاستثمار في ما تنتجه من أزمات تطال مختلف قضايا وشؤون البلد، من أجل تحقيق مآرب سياسية فئوية، تتعلق بالسلطة والنفوذ والمنافع. كما في سبيل تنفيذ مشاريع الهيمنة والسيطرة الفئوية بقوة الأمر الواقع وعبر الاستقواء بالخارج.

 ومع استمرار تجاهل حزب الله، أولوية إنهاء فراغ السلطة المزمن، لم يكن مستغرباً أن يُعطي الأولوية لاستيراد المحروقات من ايران، وأن يُعلن استعداد شركاتها للتنقيب عن النفط،  بذريعة تأمين حاجات اللبنانيين. ما أنتج أزمة جديدة اُضيفت إلى سابقاتها وساهمت في تعقيد تشكيل الحكومة، كما ضاعفت من مخاطر استغلالها  لتصعيد الحصار على البلد وفرض عقوبات إضافية ترتد سلباً على اللبنانيين.

 لكن المستهجن في أداء الحزب تحلله من المسؤولية عن الانهيار، بما فيه رفع الدعم عن استيراد المحروقات والدواء وارتفاع اسعارها، كما عن التهريب والسوق السوداء. وذلك من خلال تحميل المسؤولية للدولة التي ساهم ولا يزال في اضعافها وتعطيل فعالية اجهزتها وشل مؤسساتها، والتحكم بقرارتها. ومن الواضح أن سياسات الحزب لا تضع البلد أمام الأمر الواقع فحسب، بل تؤكد  التزامه نهج الاستثمار في أزمات اللبنانيين واستغلال انقساماتهم. أولاً بين قوى السلطة بما يمكنه من التحكم بقرارت الدولة وأداء شركائه في السلطة وشل فاعليتهم، وابقائهم في حالة عجز عن الاعتراض أو المواجهه معه. ما يجعل رهانات بعضهم  على الخارج عديمة الجدوى. وثانياً حرص الحزب على إدامة الانقسام بين اللبنانيين، ليس من أجل تبرير دوره وسياساته الفئوية فحسب، بل في سبيل ضمان قدرته على التحكم باراداتهم واخضاعهم بقوة الامر الواقع، سواء بذرائع حمايتهم من العدو الاسرائيلي، أو بحجج تأمين حاجاتهم من المحروقات والدواء والغذاء، من أجل تغطية سياساته في الداخل وارتباطاته بالخارج، والتضليل بشأن حصته من المسؤولية عن الانهيار البلد وأزماته.

ولأن الحزب قادر على تعطيل اعتراضات خصومه في السلطة، وفي استيعاب مواقف الاحتجاج والإدانة بصرف النظر عن مصدرها. فإنه ليس بحاجة لاستشارتهم أو انتظار موافقتهم. أما تبادل تهم التخوين معهم، فهو المشترك الذي لا يقدم أو يؤخر سوى في توتير الاجواء وتحشيد الانصار وشد عصب الولاء الطائفي.

اما الخارج المنتظر مخلصاً للبلد وفق رهانات البعض، فإنه وكما كان الامر على الدوام فلن يكون، ولا باستطاعته او في مصلحته، بديلاً عن اللبنانيين الذي يدفعون على الدوام أكلاف الأزمات ويحصدون نتائجها.

ولذلك لا يضير دول الخارج مطلقاً من يحكم البلد او يتحكم بأوضاعه وسياساته وعلاقاته الخارجية، إلا إذا تعرضت مصالحها للخطر. يؤكد ذلك عدم اعتراضها على بقاء منظومة السلطة في الحكم. والاكتفاء بتجاهل أو الإدانة الشكلية لقرار ايران البدء بتسيير بواخر المحروقات إلى لبنان بناءً لطلب حزب الله، الذي تعهد أمينه العام بحمايتها باعتبارها أرض لبنانية. وبصرف النظرعن بعض التحذيرات الصادرة من هنا او هناك، إلا أن كل الوقائع والمعطيات بما فيها المعلنة على السنة المسؤولين الاميركيين، لا تنطوي على قرار منع وصول البواخر، بقدر ما تشي بالاستعداد للتعامل معها كأمر واقع. يؤكد ذلك أن الأولوية للمصالح وليس لرغبات أو حاجات بعض اللبنانيين، يستوي الامر في ذلك لدى اميركا وفرنسا وايران والسعودية وحتى اسرائيل. أما اعلنه رئيس الجمهورية حول المساعي الاميركية لتأمين الكهرباء والغاز من الاردن ومصر عبر سوريا فهو لايتعدى النوايا غير القابله للصرف. 

ومع دخول البلد نفق جحيم الفوضى والانهيار التام، وسط فجور أهل السلطة ولا مبالاتهم، وحصر اهتمامات كل منهم بمصالحه في مواجهة الآخرين. لذلك فإن ردود أفعالهم حول قرار رفع الدعم أو انفجار قرية تليل، لم تخرج عن اطار الاستغلال لهما. أما ردة فعل قوى ومجموعات الانتفاضة، فإنها لم ترقَ إلى مستوى الانهيار وحجم الكارثة، باستثناء تظاهرة صيدا الحاشدة على صعيدي الطرح والخطاب.

مرة أخرى ورغم الأزمات والمخاطر الكارثية أضاعت القوى الحزبية الرئيسية وخاصة دُعاة التغيير فرصة الخروج من فئوياتها، وجددت التأكيد أنها لا تزال اسيرة خطوط الانقسام الموروثة عن الحرب الاهلية المستمرة في صيغة فوضى شاملة. والاقامة وسط العجز عن الانتساب إلى أزمة البلد، مدخلاً لصوغ مشروع جواب انقاذي من الجحيم، يتضمن برنامج اولويات راهنة لاستقطاب وتحشيد القوى والفئات المتضررة، وخطة عمل قابلة للتحقق  لاعطاء اللبنانيين أملاً بالانقاذ.

Leave a Comment