مالك ونوس*
هل انتظر الاتحاد التونسي للشغل لكي يُلدغ من الجحر الذي لُدغ منه كثيرون قبله، حتى يرفع صوته في وجه إجراءات الرئيس قيس سعيّد في قمع الحريات؟ من غير الواضح إن كانت التحرّكات الاحتجاجية التي دعا إليها الاتحاد، وخرجت قبل أيام، في باجة وقفصة وسليانة والكاف، والتي ستتبعها تحرّكات في العاصمة وغيرها، موقفاً جذرياً يؤذن بتغيير سياسة الاتحاد التي هادن فيها تدابير الرئيس الاستثنائية ورحَّب بمساره، أو هي مجرّد تنديد بقمع الحريات والاحتجاج على الوضع الاقتصادي، من دون التأسيس لمعارضة حقيقية لمواجهة سياساته التي تهدّد البلاد، وتدفعها نحو الفوضى والانهيار الاقتصادي والاجتماعي. إذا كانت مجرّد تنديدات لم تكن لتخرُج إلا بعد توقيف عدد من منتسبي الاتحاد، فستكون مؤشّراً على عدم وصوله إلى إدراك خطورة الوضع في البلاد، وهو ما يجعله مسؤولاً عن تمادي السلطة، كما فعلت قوى سياسية أخرى، حين صدقت مرويَّات سعيّد التي لا تتوقف، والتي تخالف بأهدافها ما يقوله.
أما موقف الاتحاد الباهت والمهادن لتدابير قيس سعيِّد الاستثنائية التي اتخذها، في 25 يوليو/ تموز 2021، وجمَّد بموجبها البرلمان المنتخب، وعلق عمل الحكومة وأقصى القضاة وحكم بالمراسيم، والتي تُعد مقدمةً للتفرّد بالسلطتين، التشريعية والتنفيذية، وإعلان الحكم الفردي المطلق، فيعزوه كثيرون إلى عدة أسباب، ليس أقلها تعلّق الاتحاد بالسردية التي ساقها بعضهم، وهي أن سعيِّد يريد إقصاء التيار الديني من الحياة السياسية، وهو ما يُعَدّ إبعاداً لأحد المنافسين الكبار من طريق الاتحاد. إلا أن الدوافع الأخرى وراء موقف الاتحاد هذا، هي حساباتٌ داخليةٌ كرَّست هذا الموقف، من بينها التنافس على القيادة، وتفرّغ القيادة الحالية لتثبيت أقدامها في زعامة الاتحاد سنوات لاحقة، ما جعلها تؤجّل الاصطدام بالسلطة مخافة التأثير في سير عملية الاستئثار بقيادته. كذلك يعزوه آخرون إلى وجود تياراتٍ عدة داخل الاتحاد، منها الناصري والقومي واليساري، إذ يجد أصحاب التيارين، الناصري والقومي، في شعارات سعيِّد الفارغة دغدغة لأحلامهم، من دون تكليف أنفسهم قراءة أبعادها والمرامي التي تقف خلفها، والتي تبيَّن أنها ممارسة واضحة لديماغوجية نافرة.
ولكن، يُستغرب على هذا الاتحاد المنادي بالديمقراطية كيف لم يحلّل الواقع ويستشرف آثار سياسات سعيِّد القمعية على مستقبل البلاد، فلم يرَ أن هجوم السلطة على فصيل سياسي، حتى لو كان منافساً له، سيكون مقدّمة للانقضاض على بقية الفصائل، وتحطيم الحياة الحزبية عبر الاستفراد بهذا الحزب بعد الانتهاء من غيره. كذلك يُستغرب عدم ملاحظته منذ انقلاب سعيِّد الذي رفض الاتحاد تسميته انقلاباً أن سياسات هذا الرئيس غير الدستورية التي بدأت بتجميد البرلمان، ثم شلّ القضاء والتضييق على الصحافة والحريات الصحافية، ثم اعتقال المعارضين والخصوم من رؤساء أحزاب ونقابيين وحقوقيين وصحافيين، بل ومغرّدين، وإحالتهم على المحاكم العسكرية، سياسة قمعية ممنهجة، هدفها تكريس دولة الاستبداد وتعزيز دكتاتورية الفرد. وقد استكملها عبر استخدام أساليب الترهيب، واتباع سياسة الانتقام من المعارضين، التي ظهرت قبل أيام من خلال استدعاء نقيب الصحافيين للتحقيق معه بسبب مشاركته السابقة بوقفة رافضة للاستفتاء على الدستور الذي جرى، في يوليو/ تموز 2022.
تتبدّى معضلة الاتحاد التونسي للشغل في أن كثيرين من أبناء الشعب التونسي يعوِّلون عليه في حماية الديمقراطية والمكتسبات الاجتماعية والاقتصادية، كما ينتظرون وقوفه في وجه إملاءات الخارج الاقتصادية، خصوصاً صندوق النقد الدولي، بينما لاحظوا انكفاءه حين شنّ سعيِّد هجومه على الخصوم وعلى مكتسبات المواطنين عبر اتفاقه مع صندوق النقد الدولي. وينطلقون في موقفهم هذا استناداً إلى تاريخ الاتحاد المشرف في مقاومة الاستعمار الفرنسي ومساهمته في صيانة الحقوق والحريات وتعزيزها خلال مسيرة بناء الدولة الوطنية، ووقوفه في وجه السلطويات في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وصولاً إلى دوره في ثورة 2010، الذي ساعد في توجيهها ومنحها الصبغة الجذرية التي ساعدت في خلع بن علي. غير أن موقف الاتحاد المهادن تجاه تدابير سعيِّد، والمناداة بمنحه الفرصة، جعل آمال الكثيرين فيه تتحطم، ما ألحق الضرر بصورته، وصورة قوى سياسية أخرى اتخذت موقفاً مشابهاً لموقفه.
حاول الاتحاد فعل أمورٍ لا تُغضب الرئيس، من قبيل الدعوة إلى حوار وطني، ليكرّر بذلك ما تفعله الأنظمة المأزومة، حين تدعو إلى حوار بين أفرقاء البلاد لاستجلاء حقيقة الواقع كلما خرجت فيها احتجاجات. وكأن هذه الأنظمة لا تعرف أن مشكلات بلدانها سببها سياساتها الاقتصادية الخاطئة، وتفرّدها بالقرار وتحالفها مع قوى الفساد من أجل تثبيت دعائم سلطتها، بغضّ النظر عما يمكن أن تسبّبه هذه السياسات لبلدانها من خراب. كذلك فإنه بصدد طرح مبادرة للإنقاذ، وهو ما سخر منه سعيِّد حين تحدّث عن جدوى الحوار وجدوى مبادرات كهذه، ما يؤكّد رفضه إياها. وفي هذا محاولة من الاتحاد لتلطيف سياسات الرئيس، بدلاً من الوصول إلى النتيجة التي أصبح القاصي والداني يدركونها، وهي أن سعيِّد بات هو مشكلة تونس التي تحتاج إلى حل إسعافي، لا تلطيفي.
خلال الاحتجاجات التي قادها الاتحاد أخيراً، قال الأمين العام المساعد للاتحاد، سامي الطاهري، أمام المحتجّين في باجة إن الهدف منها إسماع الصوت الرافض للسياسات اللاشعبية، وأضاف: “المنظومة الحالية لا تختلف عن المنظومات السابقة في تفقير الشعب، وفي عدم تحقيق أهداف الثورة وعدم الجدّية في مقاومة الفساد”، فهل تُعدّ هذه الاحتجاجات استفاقة للاتحاد من غفوته التي طالت، ووصوله إلى فهم حقيقة سعيِّد وسياساته؟ لن يتحدّد هذا الأمر إلا عبر المواقف التالية التي يمكن أن يتخذها الاتحاد في الاحتجاجات التي دعا إلى خروجها في سوسة وتطاوين وسيدي بوزيد وغيرها، والمسيرة الكبرى في العاصمة، إضافة إلى إمكانية تنسيقه مع القوى السياسية الأخرى التي سبقته إلى إدراك حقيقة سعيِّد وفهمه، لمعرفة السبل الكفيلة بوقف المسار السريع والمؤدي إلى انهيار البلاد.
*نشرت في العربي الجديد في 03 آذار / مارس 2023
Leave a Comment