إغناثيو غوتيريث دي تيران*
أوغسطين فيوسو سانتيستيبان*
نشرت “منظمة العفو الدولية” (أمنستي)، مطلع شهر شباط/ فبراير، تقريراً من 182 صفحة بعنوان “نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة والجريمة ضد الإنسانية”، توثّق فيه ما سمّته “نية إسرائيل إنشاء نظام تضمَن من خلاله قمع الفلسطينيين والهيمنة عليهم”، كما جاء في الملخّص المتوفّر على موقع المنظمة. ومن بين الوسائل والإجراءات العمليّة المتّخذة لتحقيق أهداف السيطرة والتهميش، يذكر التقرير “شرذمة الأراضي؛ والتفرقة والعزل والسيطرة؛ ونزع ملكية الأراضي والممتلكات؛ إضافة إلى الحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية”.
وفي الختام، ذهبت المنظمة إلى أن تلك السلوكيات تخوّلنا وصف سياسة إسرائيل بحقّ الفلسطينيّين بأنّها سياسة فصل عنصري (أبارتهايد)، وبالتالي على “الدولة العبرية”، كما يسمّيها البعض، تفكيك ذلك النظام الذي يتّسم بالقسوة، ومن واجب المجتمع الدولي الضغط عليها لتحقيق غرض التفكيك هذا. لا شك أنّ وصف إسرائيل بالعنصرية يتطابق مع جلّ التعريفات المختصّة بمفهوم التمييز على أساس عرقي أو ديني، أو على الأقل مع تلك الواردة في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، و”الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري” للأمم المتحدة.
أخيراً، تقدمت المنظّمة بطلب إلى المحكمة الدولية لاعتماد تلك القوانين والأنظمة من أجل إدانة إسرائيل، بعد إتمام التحقيقات الجارية على الأراضي الفلسطينية، في حين دعت الدولَ المعنيّة إلى ممارسة حقّها في اللجوء إلى العدالة الدولية لعلّها تساهم في ردع المسؤولين الإسرائيليين عن التجاوزات الموصومة بـ”العنصرية” وجرّهم إلى المحاكم الدولية. لا بدّ أن نقول إن خطوة المنظمة في هذا الصدد مهمة جداً، لا سيّما وأنها تخاطب المجتمع الدولي لأول مرة بهذه الصراحة، وتدعوه إلى تجاوز مرحلة الانتقادات الخجولة، واتخاذ مواقف أكثر فعالية إزاء دولة الاحتلال، على الرغم من تأخر هذه الخطوة، وربما فوات أوانها.
من دواعي الحزن والأسى أن تكون “أمنستي” قد تأخرت عقوداً طويلة في الإفصاح عن هذا الطلب، وإن كانت في الماضي قد دعت ضحايا سياسات إسرائيل العنصرية إلى مقاضاة نظام تل أبيب أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولكن، مع ذلك، يجب الإقرار بأنها كانت من الأصوات القليلة التي لفتت النظر، ولو بخجل، إلى عدد من الأعمال الوحشية التي تقترفها إسرائيل بواسطة جيشها وشرطتها ومستوطنيها بشكل منتظم. كان من المفترض على المنظمة القيام بالمزيد، شأنها في ذلك شأن سائر المنظمات الحقوقية والإنسانية العاملة تحت مظلة “المجتمع الدولي” (وهي عبارة لم نهتدِ بعد إلى تفكيك خفاياها). وكانت المنظمة سابقاً قد احتجّت على تحفظات النائب العام في المحكمة الدولية على مباشرة التحقيق في جرائم القوات الإسرائيلية في حربها القديمة – الجديدة على غزة في العام 2009.
ولا بدّ من أن نشير هنا إلى أنّ المحكمة الدولية سبق أن باشرت أعمالها في 2003 دون أن تكون قد أظهرت حماساً يُذكر من أجل مساءلة سلطات الاحتلال على حملاتها العدوانية المتتالية على المواطنين الفلسطينيين، خصوصاً الحملات العسكرية المنظّمة منها، والتي خلّفت في غضون السنوات الأخيرة آلاف الضحايا وألحقت أضراراً جسيمة بالمؤسسات التربوية والطبية والبنى التحتية الفلسطينية، مما يوضّح المنهج التدميري الإقصائي الإسرائيلي. وخير دليل على عدم امتلاك منظمة العفو الدولية الخبرة والتمرس في توجيه إدانات شديدة اللهجة لإسرائيل، رغم خطورة سياساتها القمعية والإجرامية المستمرة منذ عام 1948، هو أنّ الجهات الرسمية الإسرائيلية لم تخف غضبها عليها ووصفت التقرير بـ”الزلزالي”، لأنه يعكس “تغييراً راديكالياً ويكسر معيارها في معاداة السامية”. هكذا ضمت إسرائيل المنظمة إلى الجهات المشكوك في راديكاليتها، لمجرد أنّها وجّهت توبيخاً إلى كيان لا يكفّ عن ضرب القوانين الدولية والقيم الإنسانية بعرض الحائط.
منذ نشأتها، أبدت المنظمة ولسنوات طويلة عناية فائقة في اختيار المصطلحات وصيغ الاحتجاج “المسموح بها”، حتى تبرهن أنها على مسافة واحدة من جميع الأطراف المعنيّة في “النزاع”، وكأن الحيادية ممكنة، لا سيّما عندما ينفرد طرف واحد بالسلطة والقوة والمال، ويسمح له بالالتفاف على القانون الدولي. وإذا كانت منظمة العفو الدولية، ومعها منظمات دولية أخرى تنشط في مجال حقوق الإنسان، تطلق نداءات تشدد فيها على ضرورة “ضبط النفس”، وإدانة التجاوزات لدى الطرفين على حد سواء، دون التوقف عند الأسباب التي تدفع الجانب الفلسطيني إلى مهاجمة المحتل الإسرائيلي، والدفاع المستميت عن أراضيه وكرامته وعرضه، فما عسانا أن نقول بحق الحكومات والمجتمعات والجمعيات العالمية التي تقف إلى جانب إسرائيل بلا غضاضة، وتدافع باستماتة عنها كلما تجرّأ بعضها على توجيه اللوم إلى “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”!
وبما أن الأرقام والإحصائيات والمعطيات الدقيقة الموضوعيّة تسهم إسهاماً كبيراً في نقل صورة حقيقية عما يجري في فلسطين، فربما يفيدنا التذكير بأن 14 ألف شخص قد قتلوا على أيدي الجنود الإسرائيليين وطائراتهم وصواريخهم ومدرعاتهم منذ الانتفاضة الأولى وحتى يومنا هذا، والقائمة تطول فيما يتعلق بعدد المعتقلين والمفقودين والمشرّدين ومَن خضعوا للتعذيب والملاحقة. حتى بعض القادة الصهاينة، حين يكشفون عن وجوههم الحقيقية، يقرّون بشرعية صراع الفلسطينيين وحقهم في المقاومة، مثل داود بن غوريون نفسه الذي قال في يوم استثنائي قرر فيه عدم تقمص دور الضحية المألوف: “لو كنت مكان الفلسطينيين لما وقّعت على أي معاهدة سلام مع الإسرائيليين، حيث أننا احتللنا أراضيهم، وليس العكس”.
وإن سمحتم لنا أن نسجّل هنا المزيد من التساؤلات بخصوص تقارير العفو الدولية وبيانات منظمات أخرى، تتطرق بين الفينة والأخرى للمأساة الفلسطينية، يحق لنا أن نتساءل لماذا يتأخر تقرير يتضّمن وقائع ملموسة يعرفها أي واحد سبق أن تابع سياسات إسرائيل الهمجيّة ضد الفلسطينيين خمس سنوات؟ ألم تبيّن لنا يوميات الفلسطينيّين كيف تعمد الآليّة العسكرية الإسرائيلية إلى تطبيق نظام سياسيّ متشدّد في نطاق الفصل العنصري، وهو نظام لا يسلم منه حتى مئات الآلاف من الذين يحملون “الجنسية الإسرائيلية”، ولكنّهم مواطنون من الدرجة الثانية تُفرض عليهم القوانين التمييزية الاستثنائية لمجرد أنهم لا ينتمون إلى العرق المختار السامي؟ وماذا عن الأوضاع المعيشية المتردية لأهالي الضفة الغربية، وخصوصاً في غزة، بعد تحويلها إلى أكبر سجن مفتوح على وجه الأرض؟ يرزح الفلسطينيون في الأراضي المحتلة تحت معدّلات فقر تزيد عن الخمسين في المئة، ولا يكاد يبلغ دخل الفرد ثلاثة آلاف وخمسمئة دولار، مقابل 47 ألف دولارٍ للإسرائيليين اليهود. وفي هذا السياق، علينا ألا ننسى معاناة سبعة ملايين فلسطيني موزّعين على مخيمات الشتات، ويشكلون عشرة بالمئة من إجمالي اللاجئين في العالم.
كان الأولى بهذه المنظمة وغيرها أن تحسن اختيار المصطلحات والتعابير المستعملة في بياناتها، فالتشبث بعبارات مثل “القضية الفلسطينية” وما يشبهها يعكس تعاطفاً غير مقصود على الأرجح مع أطروحات الدولة المحتلّة. مَن يدري! وكيف يمكن أن نطلق صيغة “القضية” على جريمة نكراء تُرتكب بحق شعب أعزل طُرد من أرضه ودُمرت بيوت شعبه وسُرقت ممتلكاته وثرواته وتاريخه، وحُرم حتى من حقه المشروع في الدفاع عن نفسه؟ لقول الحق، إن الغرب يتحمّل قسطاً كبيراً من المسؤولية، وليس من السهل تصويب الأخطاء التاريخية إن كانت المنظّمات الإنسانية الغربية تقع مجدداً في مصيدة “الحيادية الإيجابية”. ألم يكن البريطانيون بزعامة ملكتهم المحنكة إليزابيث مَن فتح الباب على مصراعيه أمام اليهود لكي يصولوا ويجولوا في الأراضي الفلسطينية؟ مَن خوّلهم؟ مَن خوّل الفرنسيين في شمالي إفريقيا والإسبان قبلهم في القارة الأميركية، والبرتغاليين، والهولنديين، والبلجيكيين؟ مَن خوّلهم الاستفراد بقرارات جسيمة تخصُّ مصير سكّان فلسطين الأصليين؟ إن التلاعب بالمعاني ليس سوى وسيلة أخرى لتأمين عملية تشويه الحقائق والتملّص، في الوقت نفسه، من مسؤولياتنا.
غير أن لعبة الاحتيال مع الأسماء والمواصفات لم تتوقف عند حدود “القضية”، بل توسعت لتشمل مظاهر اصطلاحية تعبّر تعبيراً صادقاً عن خبث المشروع الصهيوني وبلادة المجتمع الغربي والدولي فيما يتعلق بالخزعبلات الإنشائية الإسرائيلية، فكيف انطلى علينا هراء “قوات الدفاع” الذي تتفوه به وسائل الإعلام الغربية، ومعها سائر المفردات التي تم استحداثها خصيصاً لتحاشي تسمية الأشياء بمسمياتها؟ علينا أن نتساءل لماذا سمحنا لأنفسنا بالانصياع لقواعد التضليل المفروضة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل وجمعيات وأفراد لا يُحصون، يعكفون ليلاً ونهاراً على حفظ ماء وجه المشروع الصهيوني؟ نعم، نجحت آلية التطبيل الإسرائيلية في تمرير لغة ثالثة صارت تتحكم في الخطاب اليومي الخاص “بالصراع العربي الإسرائيلي”. ولكن للأسف، هل ثمة دولٌ عربية ما تزال تصارع إسرائيل؟!
والأسوأ من هذا كله، لا سيما ونحن غارقون في هذا العالم الافتراضي المبني على خيال استدلالي أقرب إلى الهلوسة منه إلى الواقع الملموس، أن نسكت على مَن يجرّنا إلى عقلية “الطرفين المتنافسين”. وإن كانت هناك ممارسات لدولة إسرائيل أشبه ما تكون بأساليب العصابات الإجرامية “المؤسساتية” إلا أن هنالك فارقاّ كبيراً بين إسرائيل والمافيا التقليدية. إذ إن الأخيرة تقتل وتسرق وتفرض الإتاوة دون أن تدّعي البراءة أو تتحجج بمظالم ألحقت بها. إنها تجني وكفى. في المقابل، أثبتت إسرائيل مراراً براعتها في التباكي على الأطلال التي خلّفتها هي نفسها بعد تهجيرها لأصحاب الديار وتحويلهم إلى متشرّدين، ونخشى أن تكون المنظمات والجمعيات والمؤسسات الدولية الداعية إلى إيجاد حلّ عادل “للقضية” مشاركة في هذا الخداع اللغوي نفسه.
مَن يعلم، ربما طرأ تغيير على العفو الدولية وغيرها من المنظمات العالمية في وقت نشهد فيه انحسار “القضية” الفلسطينية، والتي غدت اليوم أقل حضوراً على جميع الأصعدة قياساً إلى ما كان الأمر عليه في عقود مضت. هل أصبح الحديث المكشوف عن الأبارتهايد الإسرائيلي عملا أكثر سهولة بحيث قلّ الاهتمام بشؤون الفلسطينيين إلى درجة أنَّ لا أحد تقريباً يلتفت إلى ما يحدث هناك؟ نخشى ذلك، لا سيّما إذا أدى الالتفاف على حقوق الفلسطينيين وتجريدهم من الشخصية القانونية والشعبية الكاملة إلى تقارير وإحصائيّات تتحدث عن القضية، ولكن لا تتطرّق إلى قضايا الفلسطينيين الشرعية وهمومهم. نعلم جيداً أنّ ما يمارس على الفلسطينيين المغلوب على أمرهم من تهجير وتهميش وتحقير يشكّل مثالاً صريحاً على الفصل العنصري. فقط قولوا لنا أيها السادة الأفاضل المنتسبون إلى مثل هذه المنظمات الحيادية المهتمّة بحقوق الإنسان: كيف ومتى يسعنا التصدي لسياسات القمع والإقصاء والتصفية الإسرائيلية؟ وما هي فائدة السلام الذي لا يحقق العدالة للمظلومين؟
* إغناثيو غوتيريث دي تيران: باحث وأكاديمي إسباني، من مواليد مدريد (1967)، يُترجم عن العربية وإليها. تتوجّه اشتغالاتُه صوب حقول عدّة أبرزها الأدب والاقتصاد، كما يحرص في ترجماته على تنويع العصور والأماكن العربية التي ينقلها إلى قرّاء الإسبانية. ترجم من نصوص التراث العربي “نزهة الألباب”، ومن الأدب السياسي الحديث “القوقعة” (بالاشتراك مع نعومي دياز) لمصطفى خليفة، وأعمال أدبية لإدوارد الخرّاط.
** أغسطين فيوسو سانتيستيبان: باحث وأكاديمي إسباني (1958)، يعمل أستاذاً للفلسفة وعلوم التربية في “جامعة مدريد الوطنية”، سبق له أن ترأّس قسم تاريخ التعليم المُقارَن في الجامعة نفسها، بالإضافة إلى كونه أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات الغربية مثل “ستانفورد” و”ريدينغ”، يُعدّ من أهم المناصرين لقضايا التعليم والبرامج الدراسية في فلسطين، كما نشر في هذا السياق، الكثير من الأوراق البَحثيّة والمقالات العِلميّة الرصينة.
*نشرت المقالة في ملحق فلسطين الصادر عن جريدة “العربي الجديد” بتاريخ 4 أيار | 2022
Leave a Comment