د. زهير هواري
لم يتنبّه معظم المحللين العرب الذين علقوا على لقاء النقب إلى العلاقة التي تربط بين هذا اللقاء، وما جاء في صفقة القرن من مشروع تحويل اسرائيل من دولة أساسية في المنطقة إلى مركز قيادة سياسية عسكرية – اقتصادية لها. وعليه، يمكن القول إن أهمية اللقاء تنبع من دور الوكالة الذي تسلمته اسرائيل من العرّاب الاميركي، بذريعة أمن المنطقة في مواجهة التهديد الايراني ومقاومة “الارهاب”. انطلاق هذا التطور جاء مع تلك الأنباء التي تواترت، وتحدثت عن اقتراب توقيع الاتفاق النووي الايراني – الاميركي في فيينا، وبالتالي العودة إلى نسخة منقحة من هذا الاتفاق الموقع مع ايران في العام 2015، والذي تنصلت منه إدارة الرئيس ترامب عام 2018.
رغم طغيان مشهد الحرب الروسية على أوكرانيا عالمياً، فقد انطلقت مقدمات لقاء النقب، من عنوان أساسي قوامه عزم الولايات المتحدة الاميركية على رفع الحرس الثوري الايراني وأذرعه بالطبع، عن قائمة الارهاب كشرط ايراني لإتمام الصفقة. أي أن الاتفاق النووي بحد ذاته بات أمراً مُسَّلما بحدوثه، وهو ما دفع اسرائيل من جهة، والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي من جهة ثانية، إلى رفع الصوت، وممارسة ضغوط ونوع من المسافة عن السياسة الاميركية، عبرت عن نفسها بأشكال عدة، منها السياسية كمسألة الاصطفاف الذي ارادته اميركا معها في الحصار على روسيا، والتمسك برفض زيادة ضخ النفط والغاز في الاسواق العالمية، المتعطشة للصادرات، في ظل قرار الإدارة الاميركية وقف قبول خضوعها وحلفائها للشروط الروسية، ما قاد إلى ارتفاع أسعارهما على نحو ترك بصماته على المواطنين في اميركا نفسها والدول الغربية والعالم.
ضمن هذه المناخ توقعت هذه المجموعة العربية، أن يؤدي الاتفاق النووي إلى ترك الحبل على غاربه للإدارة الايرانية لمضاعفة التدخلات التي يقودها الحرس الثوري الايراني على امتداد المنطقة. في هذا السياق جاء انعقاد ما سمي بـ “قمة النقب” في الصحراء الفلسطينية المحتلة التي جمعت وزراء خارجية ست دول هي: أميركا وإسرائيل ومصر والإمارات والمغرب والبحرين. بالتأكيد رغم عدم صدور بيان ختامي عنه، فإن حدثاً من هذا النوع يعلن بوضوح قيام تحالف بقيادة دولة العدو الاسرائيلي، وتنخرط فيه الدول العربية المشاركة فيه برعاية اميركية. ولذا لم يكن من قبيل المبالغة وصفه من جانب وزير خارجية الكيان الصهيوني، يئير لبيد، بأنه لقاء “تاريخي”، باعتباره نقلة نوعية في مسيرة التطبيع بين هذه الدول واسرائيل. بالنظر إلى أن كل ما سبقه من خطوات كان بمثابة تمهيد له.
وعليه ، تصبح اسرائيل هي الوحيدة الرابحة من انعقاده. ورمزية أن ينعقد في منطقة النقب تنبع من وجود قبر أحد أكبر مؤسسي الدولة الصهيونية دافيد بن غوريون، وفي منطقة تتعرض على نحو متصاعد لحملة تهويد تهدف إلى الإطاحة بسكانها بعيداً عن أرضهم وديارهم التي نشأوا عليها. والتاريخي حسب تعبير لبيد هو حضور أربعة وزراء عرب دفعة واحدة للاجتماع بدعوة منه. ووضع دوائر الخارجية الاسرائيلية جدول أعماله وأهدافه على أرض فلسطين التاريخية المحتلة، ما يعني تكريساً لاعترافهم بهذا الاحتلال والتعاون معه، بل والتحالف والعمل تحت رايته.
والمؤكد أن الدول العربية الخليجية تستشعر الخطر من مجرد الفصل بين ملف الاتفاق النووي وسواه من الملفات التي تعنيها في السياسة الايرانية، ممثلة بالأسلحة البالستية – والطائرات المسيرة استطراداً – وتدخلات الحرس الثوري المعلنة في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان والتي تصيبها على نحو مباشر، بدليل سيل المسيرات والصواريخ البالستية قبل اللقاء وبعده مباشرة، التي أصابت محطة تخزين النفط في جدة، وأدت إلى احراق خزانين من خزاناتها.
كما بدا واضحاً لهذه الدول العربية أن اميركا ستفرج لايران عن حوالي مائة مليار دولار مجمدة في بنوكها، ما يقدم معيناً مالياً إضافياً تستعمله في المزيد من ضخ الأموال لأذرعها المنتشرة في المنطقة، وبالتالي مزيد من التدخلات واحتدام الصراع. من هنا ظهر الدور الاسرائيلي في حركته السياسية الدولية والاقليمية بهدف جر العرب وثرواتهم نحو حرب استنزاف تغذّيها ثرواتهم، عبر تعظيم الخطر الإيراني الداهم، مقابل استعدادها لقيادة هذا التحالف. وهي حرب يبدو أن الولايات المتحدة قد تخلت عن دورها بقيادتها. وهذا بالضبط ما عبر عنه ليبيد عندما وصف اللقاء بأنه يهدف إلى بناء “هيكل إقليمي جديد من شأنه ردع إيران عن متابعة أجندتها التوسعية في المنطقة والتدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية، والسعي إلى إنتاج أسلحة نووية وامتلاكها”.
وما يجب التأكيد عليه أن اميركا في سياستها هذه خلال عهد بايدن ظهرت أنها على استعداد لتسليم مثل هذه المهمة لاسرائيل، التي انتقلت من ترسيخ الحفاظ على أمنها إلى الانطلاق نحو مواقع أكثر تقدماً، تضعها على قمة تحالف اقليمي تتولى قيادته، وتحشيد القوى في صفوفه، تحت مظلة اميركا الاستراتيجية، ودون أن تخرج الأخيرة بنفسها عن مشروع الاتفاق إلى الحرب ضد ايران التي لوحت بها مراراً في السابق كخيار على الطاولة.
وعناصر الدور الاسرائيلي تكاد تتكامل حلقاته في ضوء ما سبق وصرح به الرئيس التركي رجب طيب اردوغان حول التوافق التركي – الاسرائيلي حول موضوعي الغاز والنفط شرقي البحر المتوسط وأمن المنطقة. ما يعني أن اسرائيل تتقدم خطوات إلى الأمام في تطويق الرفض الفلسطيني، وتكريس زحفها الاستيطاني عبر محاصرة الفلسطينيين وحشرهم في كل من الضفة الغربية وغزة، من خلال حضورها وقيادتها العمق العربي بدءاً من المغرب انتهاءاً بدول الخليج .
على أي حال لم يكن هذا اللقاء حدثاً دون مقدمات راسخة. فبالنسبة لمصر يتأكد تراجع دورها المحوري العربي المعنوي، وبالعلاقة مع المنطقة عموماً ودول الخليج خصوصاً التي تجد نفسها عرضة للخطرالايراني، كما تراجع رصيدها التاريخي كشريك في عملية السلام الأول.
من هنا يجب النظر إلى لقاء النقب بما سبقه، أي القمة الثلاثية التي عقدت في شرم الشيخ، والتي حضرها، بالإضافة إلي الرئيس المصري، ولي عهد الإمارات ورئيس الوزراء الإسرائيلي، واعتبرها كثيرون بمثابة انضمام رسمي مصري إلى التحالف “الإبراهيمي”، مع ما يرافقه من تخلٍ عن مهمة حلقة الوصل، والتسليم بدور متواضع في شراكة متعددة الأطراف، لا تلعب فيها القاهرة سوى دورٍ ثانوي ملحق. مقابل اعلان إسرائيلي عن المساهمة في البحث عن بدائل لمواجهة النقص في توريدات الحبوب إلى مصر بعد الحرب الروسية الاوكرانية.
أما وزير الخارجية الأميركي، فهدفه من القمة كان واضحا هو الآخر، ويتمثل في حشد مزيد من الدعم لسياسات بلاده في مواجهة روسيا في حربها الأوكرانية، وتهدئة مخاوف إسرائيل بشأن الاتفاق النووي الوشيك مع إيران. أما تذكيره نظراءه العرب المطبّعين بأن “اتفاقيات السلام الإقليمية ليست بديلاً عن السلام مع الفلسطينيين”، فهو ربما من باب إيهام سواهم من العرب لا سيما الفلسطينيين والاردن ولبنان، أن اميركا ما تزال تمسك بملف التفاوض مع اسرائيل، وتبحث عن ايجاد حلول لمسألة هذا الصراع المزمن.
سبق ورافق ذلك اجتماعات متلاحقة شملت عواصم عربية مُطَبِّعة لمسؤولين رفيعي المستوى، هدفها الأساسي الإسراع في تعميق العلاقات التجارية والاستثمارية بين دول المنطقة ودولة الاحتلال، ودمج الاقتصاد الإسرائيلي في الاقتصادات العربية، والتمهيد لتوغل أكبر لشركات واستثمارات دولة الاحتلال داخل الأسواق والمجتمعات العربية. وقد أسفرت اللقاءات عن قرار من إمارة أبو ظبي باستثمار 10 مليارات دولار في الشركات الإسرائيلية في اطار مفاوضات التجارة الحرة بينهما. علماً أنّ حجم التبادل التجاري بين الإمارات وإسرائيل شهد قفزة في الآونة الأخيرة حيث بلغ 1.2 مليار دولار خلال 14 شهراً، بعد إعلان تطبيع العلاقات بين البلدين في عام 2020.
ومن المعلوم أن رئيس دولة الاحتلال إسحاق هرتسوغ، ورئيس وزرائها نفتالي بينت زارا أبوظبي، وأشادا بالقفزة التي تشهدها العلاقات باطراد . ويجري العمل حالياً على ابرام اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بينهما.
بدوره المغرب اطلق أول خط جوي مباشر من الدار البيضاء إلى تل أبيب، كذلك شهدت العلاقات الاقتصادية طفرة، ووقِّعَ البلدان شراكة استراتيجية في مجال صناعة الطيران، واتفاقاً للتعاون الاقتصادي يطمح إلى رفع التبادل التجاري إلى نصف مليار دولار سنوياً. كذلك وقّعا في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني اتفاق تعاون أمني غير مسبوق، يتيح للمغرب خصوصاً الحصول بسهولة على معدات إسرائيلية عالية التكنولوجيا.
المستبعدان عن هذه الحركة السياسية هما الفلسطينيون والملك الأردني عبد الله الثاني الذي هرع إلى رام الله للقاء الرئيس محمود عباس، وكلاهما استشعرا الخطر الذي حمله اجتماع هذا العدد من الوزراء العرب في النقب. فالفلسطينيون لم يترك لديهم أي وهم إشارة وزيرالخارجية الاميركي بلينكن إن “اتفاقيات السلام الإقليمية ليست بديلاً عن السلام مع الفلسطينيين” باعتبار أن السياسات والعقل الاميركي في وادٍ آخر. وقد وصلت الرسالة الاميركية ومفادها أن لا مبرر لظهور مخاوف إسرائيلية أو خليجية بشأن الاتفاق النووي الوشيك مع إيران، طالما أن اسرائيل ستتولى قيادة هذا التحالف تحت عين الرضا والرعاية الاميركية، التي لن ترغم اسرائيل على قبول ما لم يسبق لها القبول به، على صعيد حل الدولتين، والتوصل إلى حل دائم للصراع على قاعدة حقوق الفلسطينيين الوطنية المشروعة. ما يعني أن الفلسطنيين أمام مستوى غير مسبوق من الخطر على مصيرهم وقضيتهم. أما الاردن فما زال متمسكاً بموقفه من أن أي حل على مستوى إقليمي، يجب أن يكون الفلسطينيون طرفاً فيه، أو على الأقل أن تؤخذ قضيتهم في نظر الاعتبار، فضلاً عن تخوفه المشروع من أن يأتي “الحل” من وعلى حسابه هو دون سواه.
باختصار، نحن أمام حلف “عربي ” جديد بقيادة اسرائيلية وإدارة اميركية تفتح المنطقة وكياناتها على مزيد من التلاعب والعواصف بذرائع شتى، ناهيك عن النهب المنظم لمقدراتها النفطية وغيرها.
Leave a Comment