زاهي البقاعي
يشهد الكيان الاسرائيلي انتخابات عامة مبكرة، من المتوقع أن تُنظم قبيل نهاية تشرين الأول/أكتوبر من العام الجاري، بعد قرار حل الكنيست. دون أن يبدو في الأفق أن تتمخض هذه الانتخابات، وهي الخامسة في غضون السنوات الثلاثة المنصرمة، عن حلول لمعضلة توازن الانقسامات في المشهد السياسي الداخلي، في ظل الاحتمالات المرتفعة، كما يرجح معظم المراقبين، باستمرار حالة “الستاتيكو” بين المعسكرين المتنازعين. وعليه، فالمرجح أن يفشل معسكر نتنياهو – الذي يضم أحزاب الليكود، شاس، “يهدوت هتوراة”، الصهيونية الدينية – بالحصول على أغلبية في الكنيست تتيح له تشكيل حكومة منفرداً. وفي الوقت نفسه، لن تكون الأحزاب التي تتشكل منها الحكومة الحالية أسعد حظاً من منافسيها، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام الأخيرة.
وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت ووزير خارجيته يائير لبيد قد طرحا مشروع قانون لحل الكنيست للتصويت على هيئته العامة، التي وافقت عليه. وقاما في السياق نفسه بتنفيذ اتفاق التناوب على منصب رئيس الحكومة بينهما. وقال بينيت ولبيد في بيان مشترك لهما، إنهما استنفدا كل محاولات استقرار الائتلاف، وقررا تقديم مشروع قانون حل الكنيست أمام الهيئة العامة.
وبموجب الاتفاق الإئتلافي أصبح لبيد رئيساً للوزراء، إلى حين إجراء انتخابات عامة، وتشكيل حكومة جديدة. وبحسب موقع “واللا” الاسرائيلي، سيبقى لبيد وزيراً للخارجية الاسرائيلية خلال فترة الانتخابات، بالتوازي مع توليه رئاسة الوزراء بعد حل الكنيست، بينما سيتولى بينيت منصب نائب رئيس الحكومة.
وبعيداً عن هذه المظاهر، وقبل أن تشرع الماكنات الانتخابية بالدوران من جانب القوى المتنازعة على أصوات الناخبين، تعبر مجريات ما آلت إليه الأمور عن مدى عمق الأزمة السياسية والحزبية التي تعصف بإسرائيل وكيانها، نتيجة صراعات وخلافات عقائدية وتناقضات دينية واجتماعية متأصلة في المجتمع الإسرائيلي، غير أن واقعها أعمق غوراً. علماً أن العامل المفجر لها، لم يكن سوى محاولة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو الهروب من المحاكمة بأربع تهم بالفساد وتلقي رشاوى. وهو ما كان أصلاً في صلب اعلانه في 24 ديسمبر/كانون الأول من العام 2018 عن حل حكومته الرابعة. رغم هذه الحيثيات الا أن موضوع المأزق السياسي الحكومي الاسرائيلي أكثر عمقاً وتجذراً مما يبدو عليه من تصدعات داخلية. اذ على الرغم مما يطفو على السطح من خلافات بين الأحزاب والقوى السياسية وحركية الانتقال من هذا الجانب إلى ذاك في سياق الائتلافات، الا أن أصل المعضلة يكمن في الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني، والذي يتمحور راهناً على مصير القدس والمستوطنات في الضفة الغربية. فعلى الرغم من الاختراقات التي حققها الكيان الاسرائيلي في عمق المنطقة العربية عبر اتفاقات التطبيع، الا أنها لم تستطع التقدم ولو خطوة واحدة في الموضوع المباشر واليومي وهو الموضوع الفلسطيني. ومن المعروف أنه منذ العام 2014 توقفت المفاوضات بين الجانبين، في ظل بقاء الصراع مفتوحاً، والذي دخلت على خطه قوى فلسطينية إضافية في كل من اراضي العام 1948 وقطاع غزة. في المقابل بات اليمين الاسرائيلي بمنوعاته الدينية وغير الدينية ومجموعات المستوطنين في واجهة الصورة، ويمارس ضغوطه المتصاعدة من أجل حسم مسألة ومصير القدس وشرعنة الاستيطان في الاراضي المحتلة عام 1967 وضمها نهائياً لسيادة كيانه .
وبالعودة إلى قرار نتنياهو في 26 كانون الأول / ديسمبر 2018 بالاتجاه نحو انتخابات جديدة، ققد كان دافعه أيضاً الأزمة التي نشبت مع حليفه التاريخي، أفيغدور ليبرمان، الذي كان زعيماً لحزب “يسرائيل بيتينو”، والذي انسحب من الائتلاف الحكومي في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه على أثر خلافات مع نتنياهو.
أما نتنياهو فقصد من وراء خوض المعركة الانتخابية التي جرت في التاسع من إبريل/نيسان 2019، تقويض شرعية الشرطة والنيابة العامة تحت شعار قوامه “لن يكون شيء، لأنني لم أفعل شيئاً”. لكن نتائج هذه الانتخابات، تمخضت عن حالة من التعادل بين معسكر نتنياهو ومعسكر خصومه، واستحالة تشكيل ائتلاف حكومي بعد أن انتقل ليبرمان إلى المعسكر المناهض ووضع “فيتو” على أي حكومة برئاسة نتنياهو.
ومع أن حزب نتنياهو كان متفوّقاً عددياً على باقي الأحزاب، فضلاً عن حصول معسكر اليمين عموماً على أكثر من 60 مقعداً في تلك الانتخابات من أصل 120، إلا أن قرار ليبرمان فرض على نتنياهو، الذي كان رئيس حكومة تصريف أعمال، حل الكنيست والإعلان مجدداً عن انتخابات جديدة في 17 سبتمبر/أيلول من عام 2019.
وكرّست الانتخابات الثانية خلال العام نفسه النتائج نفسها، مع تراجع معسكر نتنياهو إلى 55 مقعداً، فيما حصل معسكر ما سُمي بالوسط واليسارعلى 44 مقعداً، من دون القائمة المشتركة للأحزاب العربية قبل انشقاقها والتي حصلت في حينه على 13 مقعداً. وكرر ليبرمان الذي زادت قوته إلى 8 مقاعد، الموقف المعارض ذاته لتشكيل حكومة مع نتنياهو.
واضطرت إسرائيل للذهاب لانتخابات ثالثة لعدم قدرتها على الحسم وعدم تمكن نجم السياسة الإسرائيلية الجديد حينها، الجنرال بني غانتس، الذي تحالف مع زعيم حزب “ييش عتيد” يئير لبيد في قائمة مشتركة باسم “كاحول لفان”، من أن يكون بديلاً يجذب أحزاب الحريديم واليمين الأخرى لحكومة يمين جديدة، من دون نتنياهو، بما في ذلك نفتالي بينت الذي كان حزبه “يمينا” قد حاز 7 مقاعد.
واتجهت إسرائيل لانتخابات رابعة، من دون أي أمل بفوز خصوم نتنياهو عليه، أو تمكن الأخير ومعسكره من تأمين أغلبية 61 مقعداً لتشكيل حكومة.
وعلى أثر التجربة الفاشلة لغانتس مع حكومة الوحدة مع نتنياهو، تولّدت قناعة لدى أحزاب الوسط واليمين للمرة الأولى بإمكانية تشكيل ائتلاف حكومي يضم أحزاباً حتى من أقصى اليسار ومن الأحزاب العربية (بعد انشقاق القائمة المشتركة إلى قائمتين واحدة برئاسة أيمن عودة والأخرى برئاسة منصور عباس) والذهاب لشراكة وحكومة هجينة مقابل إبعاد نتنياهو عن الحكم مهما كان الثمن.
وهكذا، تم تشكيل ائتلاف حكومي من 8 أحزاب؛ ثلاثة منها يمينية خالصة، وحزبان يعرفان كحزبي وسط هما “كاحول لفان” بقيادة غانتس، و”ييش عتيد” بقيادة يئير لبيد، وحزبان من اليسار هما “العمل” و”ميرتس” وقائمة عربية هي القائمة الموحدة بقيادة منصور عباس.
توافقت الأحزاب الثمانية على خطوط عريضة، أهمها الحفاظ على الوضع القائم في الضفة الغربية المحتلة، وعدم المبادرة لاطلاق أي تحرك سياسي أو قانوني ضد الفلسطينيين، من جهة، وعدم تنفيذ مخطط ضم الضفة الغربية المحتلة أو أجزاء منها للسيادة الإسرائيلية، كحل وسط بين مركبات اليمين واليسار، من جهة أخرى.
ومع أن حكومة بينت من خلال هذه التركيبة الهجينة نجحت في إبعاد نتنياهو عن رئاسة الحكومة. إلا أنها مارست أقصى التشدد في ملفي الاستيطان، والتقاسم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، بفعل تأثير اليمين الاستيطاني الديني، على النحو الذي يشهده المسجد الأقصى من محاولات استباحة، وحي الشيخ جراح وحي سلوان وغيرهم من أحياء القدس الشرقية.
بعد عمليات حفر مديدة في أساسات حكومة بينيت – ليبيد نجح نتنياهو، الذي خاض حرباً اعلامية ضدها متهماً إياها بالخضوع للاخوان المسلمين واليسار المتطرف، في دفعها للإعلان عن حل نفسها والذهاب لانتخابات مبكرة. وعلل بينيت ولبيد ذلك برغبتهما بضمان تمديد قانون أنظمة الطوارئ الذي ينظم سريان القانون الإسرائيلي على المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية، بعد فشل الائتلاف الحكومي بتمرير هذا التمديد، وخسارة الحكومة لأغلبيتها في البرلمان.
المؤكد أن اسرائيل تعيد تدوير أزمتها البنيوية، تارة عبر الاختراقات التي تحدثها في الجدار العربي، وطوراً عبر انتخابات تعيد انتاج سلطتها العنصرية من الاحجار اليمينية القديمة نفسها.
Leave a Comment