اقتصاد

إلغاء الوكالات الحصرية لا يلغي أليات الإحتكار النظامي والميليشياوي!

محمد قدوح

يتجدد النقاش هذه المرة حول الوكالات الحصرية في سياق البحث في الاصلاحات الاقتصادية والمالية، وذلك انطلاقاً من أنها تتعارض مع آليات السوق في الاقتصاد الحر كونها تحد أو تمنع المنافسة في السوق، وبالتالي تحول دون تحديد الأسعار وفقاً لآلية العرض والطلب.

بدأ النقاش للمرة الأولى حول هذا الموضوع، في سياق التحضير لإقرار المرسوم الاشتراعي رقم 34 تاريخ 4 آب 1967، المتعلق بتنظيم التمثيل التجاري في لبنان. ونص على تأمين حماية التاجر اللبناني كونه الفريق الاضعف في العقد الذي يربطه بصاحب العلامة التجارية أو صاحب السلطة الاجنبية. وقد ذهب النص بعيداً في هذا  الاتجاه، إذ ساوى بين الوكيل التجاري الذي يمثل شركة اجنبية، وبين التاجر الذي يشتري بضاعته من الخارج بإسمه ولحسابه، شرط إعطائه صفة الممثل أو الموزع الحصري. ويكفي أن يسجل عقد التمثيل في السجل التجاري، وفي صفحة الشركة الموكلة لدى وزارة الاقتصاد لقاء دفع رسم سنوي، ليتذرع بالحصرية المعطاة له تجاه الجميع. وبذلك تتعدى الحصرية نطاق عقد التمثيل، حيث يمنع أي شخص ثالث من إستيراد أو بيع المواد المشمولة بالعقد.

وبصرف النظر عن تفاصيل الحماية التي وفرها المرسوم الاشتراعي المذكور لصاحب الوكالة تجاه الشركات الاجنبية الموكلة، فإن السوق اللبناني بمجمله بات مشمولاً بمفاعيل الحصرية، سواء بشكله المباشر أو غير المباشر من خلال سيطرة مجموعة من الشركات على الإتجار بغالبية المواد والسلع، بما في ذلك المواد الغذائية ومواد التنظيف المُستثناة من الحصرية.

وقد تجدد النقاش حول الحصرية مرة ثانية في سياق المفاوضات التي كانت قائمة بين لبنان ومنظمة التجارة العالمية بهدف انضمامه إليها. وبنتيجة هذا النقاش جرى إعداد مشروع قانون في العام 2002، الغاية منه إلغاء الوكالات الحصرية التي تتعارض مع آليات السوق في الاقتصاد الحر. كما نص هذا المشروع على إعطاء أصحاب الوكالات مبلغاً يعادل 5% من قيمة البضائع المستوردة التي تشملها الحصرية لمدة 5 سنوات.

بالرغم من ذلك استمر النقاش حول هذا المشروع حتى العام 2004، حيث جرى تعديل مشروع القانون، ليتضمن إلغاء رسم الـ 5% لأصحاب الوكالات، مقابل استمرار سريان مفعول الوكالات لمدة 4 سنوات من تاريخ إقرار القانون في المجلس النيابي ونشره  في الجريدة الرسمية. إلاّ أن رئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحود رد هذا القانون لسببين: الأول منهما عدم ضمان جودة المواد والسلع المشمولة بالحصرية. والثاني كون إلغاء الحصرية يمثل إعتداءً على حقوق طوائف معينة!.

وقد تجدد النقاش مرة ثالثة ولنفس الاسباب في العام 2019، في سياق البحث في الاصلاحات الاقتصادية والمالية المطلوبة من صندوق النقد الدولي، حيث تقدم وزير الاقتصاد انذاك منصور بطيش بمشروع قانون بعد تطوير إقتراح القانون الذي كان قد تقدم به النائب على بزي باسم كتلة التنمية والتحرير في العام 2007، والذي نص على مبدأ حرية الاستيراد حتى لو كان المنتج له وكيل حصري، لكن هذا الاقتراح لم يترجم مشروع قانون بسبب استقالة الحكومة. وجاء بعده وزير الإقتصاد راؤول نعمة الذي قام بدوره بتعديل اقتراح سلفه في العام 2020، حيث اشترط النص بان يكون شحن المواد والسلع من بلد المنشأ إلى المرافئ اللبنانية وتقديم الخدمات والكفالات التي تقدمها الشركة المعنية من الدولة المصدرة. مما يعني ان النص القانوني المقترح لا يسمح بالاستيراد من الاسواق الموازية، وهو أمر من شأنه ان يؤدي عملياً الى الحد من المنافسة. بالطبع لم يحسم هذا النقاش لغاية تاريخه، ولا يزال عالقاً ضمن النقاشات الدائرة بشأن الاصلاحات الاقتصادية والمالية المطلوبة للحصول على الهبات والقروض من صندوق النقد الدولي.

يمكن تسجيل الملاحظات التالية حول هذا النقاش:

1 ـ إن النقاش حول الوكلات الحصرية لم تفرضه رغبات المتضررين منها، مواطنين أم تجار، وإنما بسبب ضغوطات أو تلبية لشروط جاءت من جهات خارجية.

2 ـ إن إقتراحات القوانين التي جرى إعدادها، تضمنت محاولات للإلتفاف على الشروط الخارجيه، حيث يكون الإلغاء لهذه الوكالات صورياً. وآخر نسخة عن هذه المحاولات مشروع وزير الاقتصاد السابق راؤول نعمة.

3 ـ إن النقاش حول الوكالات الحصرية، لم يشمل المضاعفات السلبية للوكالات الحصرية (الإحتكار وإرتفاع الأسعار) على السوق اللبناني، ولا سيما الأدوية والمستلزمات الطبية، لأن هذا النقاش كان ولا يزال محصوراً بين قوى المنظومة الحاكمة ـ الشريكة لأصحاب الوكالات.

4 ـ الربط التعسفي بين حقوق أصحاب الوكالات الحصرية وحقوق الطوائف التي ينتمون إليها، والذي ترجمه موقف الرئيس اميل لحود، حين أعتبر إلغاء هذه الوكالات بمثابة إعتداء على حقوق طوائف معينة!.

بالطبع يمكن القول إن مثل هذا النقاش غير المفتوح على المشاركة الواسعة، يجب أن ينطلق مما بات عليه الاقتصاد اللبناني ولا سيما التجارة الخارجية ومدى فعالية الوكالات الحصرية في ظل تشريع الحدود البرية والبحرية والجوية للتهريب على خطي الداخل والخارج. فعدم ضبط المعابر والمرافيء قاد مع ما قاد إليه إلى دخول آخرين على خط التجارة بالمواد التي تملك وكالات حصرية، بما فيه تزوير الماركات والأصناف غير المطابقة للمواصفات المطلوبة. ومعظم هؤلاء مرتبطون بقوى الأمر الواقع الميليشياوية المهيمنة ولهم عملاء في الأجهزة المولجة بضبط حركة البضائع على الحدود. وعليه بات أمامنا صنفان من المحتكرين، صنف يتمتع بالتغطية القانونية عبر القوانين النافذة.  وآخر ينفذه من يتمتعون بتغطية القوى الميليشياوية الطائفية التي تملك الهيمنة على المعابر خصوصاً. وكلاهما متفقان على استنزاف المواطن من خلال فرض أسعار استباقية على السلع، انطلاقاً مما هو عليه وضع النقد الوطني من تراجع. علماً أن الأخيرين لا يدفعون الرسوم المتوجبة عليهم للدولة ويجنونها لحسابهم الخاص. ومعه تصبح الأسعار المفروضة على المواطن بالسعر الأعلى للدولار وشبه متماثلة بين الفريقين، ويذهب هامش الربح الإضافي إلى جيوب التجار والاحتكارات القديمة والمستحدثة.

خلاصة القول إن مسألة إلغاء الوكالات الحصرية، أمر دونه صعوبات تتجاوز مسألة حقوق أصحابها، وأضرارها على المواطن اللبناني، والتي تشهد حالياً أكثر فصولها مأساوية، والتي أدت إلى حرمان اللبنانيين من الدواء والاستشفاء والغذاء وغيرها من حاجات أساسية، إذ إن ربطها بحقوق الطوائف يجعل مسألة إلغائها مربوط بتسوية طائفية جديدة، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية ، يظل إلغاء الوكالات الحصرية، مطلب أساسي للبنانيين الذين يدفعون ثمن الاحتكار وارتفاع الاسعار، ورغم ذلك فهم غائبون عن النقاش حول مصيرها، ومعهم تغيب النقابات والجمعيات والقوى الديمقراطية التي تقول إنها تعمل من أجل التغيير.

لذلك لن يستقيم النقاش، ما لم تضطلع النقابات وقوى التغيير بهذه المهمة. ومن دون ذلك فإن إلغاء الوكالات الحصرية إن حصل، سيكون لصالح أصحاب ” الوكالات الميليشياوية الحصرية ” ومن دون مضمون تغييري فعلي لصالح المواطنين.

Leave a Comment