سياسة مجتمع

أمام الطرق المسدودة: تحديات وصعوبات الحوار لا تسقطه

زكـي طـه

بيروت 12 أيلول 2023 ـ بيروت الحرية

حفلت الساحة اللبنانية خلال الاسابيع الأخيرة بجملة من التطورات والاحداث الخطيرة. وعدا ملف النزوح السوري إلى لبنان عبر الحدود المفتوحة بين البلدين لكل انواع التهريب، والذي يشكل خطراً غير مسبوق على مستقبل ومصير الاجتماع اللبناني، في ظل هروب المسؤولين من مواجهته، وتعامل قوى السلطة معه من منظور طائفي وفئوي. تستمر المعارك المفتوحة التي يشهدها مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، والتي تستهدف محاصرة حركة فتح وإنهاء نفوذ ودور منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وإخضاع المخيم لسيطرة التنظيمات الاسلامية والمجموعات الاصولية المتطرفة، وجعل الوجود الفلسطيني في لبنان خاضعاً لوصاية جبهة الممانعة تحت راية وحدة الساحات.

كما كانت حاشدة باحتفالات وعراضات الاحزاب والتيارات الطائفية، إحياءً لمناسبات أو محطات من الحرب الاهلية اللبنانية، كانت لها فيها صولات وجولات تستحق التمجيد من وجهة نظرها. لقد بذلت تلك القوى كل ما تستطيع كي تكون احتفالاتها مكتملة النصاب شكلاً ومضموناً، من استعادة رمزيات أدوارها، إلى تحشيد قاعدتها واستعراض قواها أمام جمهورها، وصولاً إلى التذكير ببطولات قواها وانتصاراتها الوهمية، مدخلاً لجلاء وتجديد راهنية خطابها الطائفي والفئوي بأوضح تجلياته، وأكثرها فجاجة في مواجهة الآخر. لم يفتقد قادة تلك الاحزاب والتيارات بلاغة الافصاح عن  جذرية مشاريعهم، ومدى استعدادهم لخوض الصراع بكل الاشكال والوسائل لتكريس نفوذهم والوصول إلى أهدافهم المرتجاة في الهيمنة والسيطرة على الآخر.

لقد شكلت الاحتفالات محطة إضافية في مسارات تزخيم الانقسام الاهلي، باعتباره أحد أهم مرتكزات الأزمات والصراعات اللبنانية المستمرة، التي لم تحكم نتائجها لمصلحة خيارات الاطراف المعنية بتلك الاحتفالات، بقدر ما شكلت إدانة لمغامراتها الانتحارية، خاصة عندما أطاحت بما كان مجيداً فيها، وكان يمكن له أن يساهم في تشييد الوطنية اللبنانية المنشودة والمفقودة في آن. لكنه هُدر وضاع في غياهب مشاريع الهيمنات الطائفية القاتلة وأوهام الاستئثار بالمواقع والمغانم. وهي التي شرّعت كل الابواب لتدخلات الخارج الباحث دوماً عن مصالحه.

ولذلك لم يكن مستغرباً أن تتقاطع الاحتفالات مع إزدحام حركة موفدي وسفراء البلدان المتدخلة بالشأن اللبناني، التي تعكس مستويات وحجم التباينات والاختلافات  فيما بينها، بشأن التعامل مع أزمات لبنان ومشكلاته انطلاقاً من مصالحها أولاً، ومن  واقع علاقاتها المتشابكة في المنطقة ثانياً، إستناداً إلى صلاتها بأطراف الداخل اللبناني وموازين القوى القائمة. الأمر الذي يصعب معه تحديد القواسم المشتركة  بينها أو صياغة تسوية ما بشأن أي من أزمات البلد. هذا ما تؤكده البيانات الصادرة عن تلك الدول ومواقف مسؤوليها وموفديها.

لودريان وهوكشتاين وعبد اللهيان

وفي هذا السياق يعود الموفد الرئاسي الفرنسي، لتكرار مبادرات دولته، لإنهاء الشغور الرئاسي، التي لم يُكتب لها النجاح بفعل انحيازها ورفض الاطراف المسيحية لها، وجراء تجاهلها شركائها في اللجنة الخماسية. يعود لودريان وفرص نجاحه في تنظيم الحوار الذي دعا له حول مواصفات ومهام الرئيس مدخلاً لإنتخابه معدومة سلفاً، استناداً إلى رفض القوات اللبنانية وحلفائها، الذي تحوّل إلى ما يشبه قطيعة مسيحية مع الدور الفرنسي.

أما الموفد الأميركي، فأهداف زيارته مختلفة، بالنظر لطبيعة السياسة الاميركية في المنطفة وزاوية تعاطيها مع الوضع اللبناني وأزماته. وهي التي تلتزم شكلاً مقولة عدم التدخل في الشأن الرئاسي، في موازاة التشديد على أولوية تنفيذ الاصلاحات المطلوبة على أكثر من صعيد إداري واقتصادي ومالي وقضائي. وهي الاصلاحات التي لم تفتأ تكررها ومعها بيانات اللجنة الخماسية، وتقارير الهيئات الاقتصادية والمالية الدولية والاممية. ولذلك فإن الزيارة وما تخللها من جولات سياحية ولقاءات مع المسؤولين اللبنانيين، أكتسبت أهميتها، لأنها أتت في أعقاب حملة المطالبة بـ “تثبيت” الحدود البرية مع فلسطين المحتلة، خاصة من قبل حزب الله، والتي كانت غايتها تبرير وجود المقاومة وسلاحها ودورها وحرصها على تكريس مسؤوليتها عن حماية لبنان وثرواته والدفاع عنها. وهي الحملة التي استغلها الموفد الاميركي لانتزاع موافقة المسؤولين اللبنانيين للسير بهذا الملف، والبناء على نجاحه السابق عندما أنجز اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع “دولة اسرائيل”. والذي كرس خضوع لبنان للنفوذ الاميركي باعتبارها الضامن الوحيد لتنفيذ الاتفاق. علماً أن الزيارة تزامنت مع احتدام السجال في مجلس الامن حول طبيعة ومضمون قرار التمديد لقوات الطوارىء الدولية في الجنوب. والذي أُقر وفق الشروط الاميركية التي تستهدف تصعيد محاصرة دور حزب الله في الجنوب، بالتزامن مع  حملة التحشيدات العسكرية في الخليج ونشر المزيد من القوات في العراق وسوريا، وفي ظل تزايد الضغوط الاميركية على النظام الايراني رغم استمرار المفاوضات معه في سلطنة عمان.

في المقابل، تزامنت زيارة وزير الخارجية الايراني مع ما سبق، وغايتها تكريس نفوذ بلاده  في الساحة اللبنانية، وشد أزر حزب الله ودعم الدور الذي يضطلع به على كل المستويات، وتأكيد ثقته بالثنائي الشيعي. وهي الزيار التي حاول خلالها الإيحاء للبنانيين بأنها منسقة مع القيادة السعودية، بما فيها ما أدلى به من مواقف حول حرص البلدين على دعم لبنان، وعدم التدخل بالأزمة الرئاسية. وقد فاته أن الموقف السعودي لا يحتمل الالتباس سواء  لجهة رفضه دعم لبنان في ظل أي رئيس موالٍ للحزب، أو من خلال ما ورد في بيان اللجنة الخماسية حول المطالب الاصلاحية.

أمام الطرق المسدودة.. ماذا بعد؟

وفي سياق حركة الموفدين ومسلسل التصعيد السياسي، كانت مبادرة رئيس المجلس النيابي ودعوته للحوار لمدة أسبوع حول الشأن الرئاسي، يلي ذلك جلسات “متتالية” لإنتخاب رئيس للجمهورية. وعدا رئاسته للسلطة التشريعية، تسلّح رئيس حركة أمل في محاولته للخروج من المأزق المستدام، بالملف المالي الذي بات في عهدته بشكل أو بآخر، باعتباره يشكل عامل ضغط على واقع الدولة والقوى السياسية في آن. واستفاد من المناخ السلبي الذي أحاط بمبادرة الموفد الفرنسي كي يحمّل الآخرين مسؤولية رفضهم للحوار. ولذلك أطلق دعوته التي لم تزل تداعياتها  تتوالى قبولاً مشروطاً من البعض، ورفضاً لها من قبل الكتل النيابية للاطراف المسيحية وبعض حلفائها، الذين يطالبون الالتزام بنصوص الدستور وانعقاد جلسة  مفتوحة تنتهي بإنتخاب الرئيس.

لقد فات دعاة الحوار المشروط والرافضين له، أن موازين القوى الراهنة والاصطفافات الطائفية والحزبية القائمة قد وضعتهم جميعاً أمام طريق مسدود وفي مأزق صعب، فاندفعوا لإستسهال الهروب المتمادي من موجباته عبر إعلاء رايات التصعيد والتهديد وتبادل تهم التعطيل والتخوين. وهو المأزق الذي تحول استعصاءً طائفياً مدمراً بكل المقاييس، وواقعاً يستحيل الخروج منه، إلا من خلال الحوار والتسويات، أو بكسر الآخر وإخضاعه عبر محاصرته وهزيمته. أما الحلول فلا مكان لها في حساباتهم. هذا ما تشهد عليه التجارب السابقة على امتداد تاريخ  الكيان، والتي أنتهت إلى تسويات قررها الخارج وخضعت لها أطراف الداخل، التي ترتهن له أو تراهن عليه.

صحيح أن دعوات الحوار تنطوي على مضمرات والتباسات والغام، لا يمكن الاستهانة بها أو التعامل معها بخفة. وعدا آلية انتظامه وقضاياه ومواقف سائر الاطراف منها، هناك جدية الالتزام بنتائجه، ومصير الجلسات الانتخابية إذا فشلت الدورة الاولى في انتخاب رئيس للجمهورية. والصحيح أيضاً أن التجارب الحوارية السابقة بين قوى السلطة لم تكن مشجعة على الاطلاق، من بعبدا إلى السرايا وصولاً إلى مجلس النواب. وهي التي قادت إلى الوضع الراهن.

لكن السؤال الصعب والأهم برسم القوى المتصارعة على السلطة: ما هو بديلكم عن الحوار؟ هل هو استمرار الفراغ وما يستتبعه من مخاطر عودة الحرب الأهلية؟ أو الامعان في الهروب من المسؤولية الوطنية ومواجهة الحقائق القاهرة والتعامل معها بجدية. أم الاستقواء بالخارج والرهان عليه كي يقرر صيغة حكم البلد وإدارة شؤونه من قبلكم، لأن بديلاً معارضاً لكم لم يتشكل حتى الآن؟

هل بإمكانكم تقديم التنازلات والقبول بتسوية رئاسية مدخلاً لانقاذ البلد واللبنانيين وبقاء الكيان؟ أم أن خياركم تسريع الانفجار الذي لا يُبقي ولا يذر؟

Leave a Comment