*فوزي ذبيان
أمضيتُ مع أنطون تشيخوف أسبوعاً كاملاً في غرفة واحدة، ولعله من غير الجائز الإنكباب على نص عن تشيخوف بعد مجالسته لأسبوع واحد فقط، ذلك أن استنطاق هذا الكاتب الروسي بحاجة لمجالسته أسابيع وأسابيع وربما سنوات. بيد أن للكلمات مساربها ومآربها وغايات في نفس يعقوبها، أي كاتبها بالتمام والكمال. فالتصدي لتشيخوف عبر الكلمات تراه يقوم على التردد والإنسياب وربما أيضاً على الإنقطاع… فلنتمتع بسرب الكلمات إذن عندما يقرر هذا السرب الرفرفة والطيران، ولو على غفلة منا.
حثّني تشيخوف على كتابة هذه المادة، ورتّب أثناء ذلك الأسبوع كل أسباب الكلمات. قد لا يليق بالمرء أن يكون ثرثاراً بالإجمال، لكن الأمر مع صاحب “السيدة صاحبة الكلب” مختلف، ذلك أن ثرثرته أقرب إلى الماء المنساب فوق أرض عطشى، ذلك الماء الرقراق الذي لا يكفّ عن الجريان بخفة بين أعشاب قليلة الإرتفاع عن الأرض.
لست أدري إذا ما كان تشيخوف قد صارح الناس يوماً بالأسباب التي دفعته إلى الكتابة، إلى هذا الفيض الهائل من الكلمات، لكن تاريخ الأدب يخبرنا أنه أسرّ لصديقه مكسيم غوركي بسرّ مفاده أن كلماته هرمة! أصلاً، هل تهرم الكلمات؟ أنا لا أدري، غير أن ذلك الإقتباس الذي يطالعنا به الكاتب الروسي الأصل والفرنسي الجنسية، هنري تروَيّا، في كتابه عن حياة تشيخوف، يشي بأن البدايات الأولى لتشيخوف تستدعي حكماً أن تكون الكلمات هرمة، تستدعي استنطاق شيخوخة الكلمات…”بدأ أبي في تعليمي، أو بتعبير أبسط، بدأ يضربني قبل أن أبلغ الخامسة من عمري… كان أول ما يخطر في ذهني حين أستيقظ في الصباح هو، هل سوف أُضرب اليوم؟”. لا غرو أن المرء يستطيع أن يشطح كثيراً إذا ما أراد أن يبسط تلك العلاقة المركبة والتي تقوم بين الطفولة وعتق الكلمات وليس هذا موضوعنا الآن… حبذا!
ثمة إجماع بين الذين تصدّوا لأدب “أنطوشكا” – كما كانت تدعوه أمه تدللاً – على إيلاء البعد السياسي والإجتماعي لروسيا القرن التاسع عشر أهمية قصوى في بلورة هذا الأدب، إلا أن سؤال راهنية هذا الأدب لا يني يشرئب، ولعل صاحب الرائعة الروائية “الموجة التاسعة”، إيليا ايرينبورغ، من أبرز من ناقشوا هذه الراهنية في كتاب له عن أنطون تشيخوف. إننا هنا بصدد راهنية تقوم على دلالة تتجاوز، من حيث القراءة والتأويل، محض الواقع الاجتماعي والتاريخي الذي عايشه هذا الكاتب المتوفى بمرض السل في العام 1904 عن 44 عاماً فقط لا غير.
ولعل من المفارقات أن تشيخوف لم يتوقع أن تستمر قراءة أعماله لما يتجاوز السبع سنوات ونصف السنة، وهو ما نقله عنه حرفياً صديقه، إيفان بانين، الكاتب الروسي الذي نال جائزة نوبل للآداب في العام 1933… فإذا بنا إزاء أدب من أبرز خصائصه أنه يتّسم بكل ضروب الإرتحال والهجرة واللاتعيّن على مستويي الوقت والمكان… “تكمن قيمة إبداع تشيخوف – والكلام لليو تولستوي – في أنه ليس مفهوماً وقريباً جداً من كل روسي فحسب، بل أيضاً من سائر البشر في أرجاء المعمورة”. وربما يكون توماس مان، قد أكمل ما قاله تولستوي، عندما وصف إحدى قصص تشيخوف بالقول: “قصة خارقة لم يشهد الأدب العالمي لها مثيلاً”.
بعكس الحال مع دوستويفسكي، لا يمكن للمرء أن يسرّ لتشيخوف بأسراره. فإذا كان أدب الأول وارف الظلال والعتمة والدهاليز، فإن أدب الثاني يرهق البصر من شدّة السطوع. لا مواربة في أعمال تشيخوف ولا امتثال للسر، والسرّ الذي تقوم عليه مجمل أعمال تشيخوف هو أن عالم البشر لا تكتنفه الأسرار. فالسطح هو السر الأعمق، وما تلك الصفات التي نسعى لمواراتها كبشر إلا وقائع تتاخم في الجلاء والوضوح صفاتنا البيولوجية. فكل نقائص البشر ورذائلهم وسعيهم الدؤوب للإستحواذ وكسلهم، كلها حتميات لا جدوى من التنكّر لها، وتكمن أصالتها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من تكوين البشر في كل زمان ومكان.
أما حول إضفاء الطابع البيولوجي من باب المجاز على مجمل طبائعنا كبشر فتراني استمدّيته من المهنة الأصلية لتشيخوف، إذ لا يجب أن يتوه عن البال أن تشيخوف كان طبيباً وهي مهنة ظلّ يمارسها حتى سنيّه الأخيرة، وليس تشريحه للطبائع البشرية كما بثّه في مجمل أعماله إلا انعكاساً لتشريح الجسد تحت الضوء، تحت الكثير من الضوء. في رسالة إلى صديقه الناقد المسرحي ألكسي سوفورين، يقول تشيخوف: “ليس هناك ما هو أكثر مللاً ولا شاعرية… من الصراع العادي في سبيل البقاء…”، ومجمل معالجات تشيخوف لمشاعر الناس و”مكبوتاتهم” وسلوكياتهم هي بوجه من الوجوه إضاءات على هذا الصراع من أجل البقاء.
لم تزيّن البهجة عالم هذا الكاتب، منذ بداياته حتى وفاته بمرض السل، ومع هذا، وعلى الرغم من قتامة المشهد، تراه في مناسبات عديدة يشيد بالمستقبل الزاهي للبشر أقله – كما يقول – بعد ثلاثمئة عام، وكأني بكلام تشيخوف هذا مادة أولية لما سيقوله كافكا في التالي من السنين: هناك أمل ولكن ليس لنا.
جرّبتُ أن أكون محايداً أثناء جلسة الأسبوع تلك مع تشيخوف، فلا أبادره بما قد يزعج خاطره أو يعكّر صفاء ملامحه التي بالعمق تنطوي على تجهّم مكبوت. ساءلتُ نفسي كيف تأتّى لصاحب هذه الملامح، التي تشي بالخجل الشديد وبالرغبة العارمة في الإنزواء، أن ينال من الشهرة ما قد نال، وهو البعيد عن فضفضة السعي للإعتراف به ككاتب بين زمرة الكتّاب؟! نزع نظّارته من فوق أنفه الشهير، ومن دون أن ينبس بحرف، أحالني إلى قصة كتبها في العام 1883 بعنوان “فرحة”، يتناول فيها الشروط البخسة للشهرة والتي على الرغم من شهرته قد تجنبها طوال العمر. تكلم من دون أن يحكي، عن رجل يدعى كولداروف طار صوابه من الفرح بسبب الشهرة التي نالها بعدما تناولت الصحف خبر نقله إلى المستشفى جراء رفسة حصان في الشارع العام. بادلتُ تشيخوف ابتسامته تلك وأعدتُ على نفسي سرّاً، عبارة له تقول وقد تحول كل العالم أمام ناظريه إلى ما يشبه “عنبر رقم 6”: “إن المكان الحقيقي للكاتب في هذا العالم يقع بين أول كلمة من نصّ يخطّه وآخر كلمة في هذا النص”.
مات تشيخوف في 15 تموز 1904، وكم كانت دهشة القلائل الذين كانوا ينتظرون وصول جثمانه، بانطلاق الموسيقى العسكرية المصاحبة لوصول الجثمان مع كم كبير من المشيعين، ليتبين بعد لحظات أن تلك الموسيقى انطلقت إحتفاءً بوصول جثمان في القطار نفسه، يعود لأحد الجنرالات ممن سقطوا في واحدة من حروب ذلك العصر. أما تشيخوف، فكان مجثى داخل عربة كُتب على بابها الحديدي “مخصص لنقل القواقع البحرية”، وهو ما جعل غوركي يستشيط غضباً ويرى في هذا الأمر انعكاساً مباشراً لبؤس بلاده وبؤس العالم على حد سواء…
بعد موت تشيخوف، عثرتْ زوجته أولغا على مجموعة من الشذرات التي كان قد دوّنها في أحد دفاتره السرية، ومما جاء في ذلك الدفتر: “العالم معلّق على نابِ وحش”.
لعل نقل جثة تشيخوف بعربة مخصصة لنقل القواقع، يعكس رغبة هذا الكاتب بالتواري والإنزواء، وربما هو يعكس أكثر تلك الحقيقة التي بثّها تشيخوف في جملة أعماله: القوقعة هي السمة الأبرز للإنسان في هذا العالم بصرف النظر عن شكل هذه القوقعة أو تلك… فالقوقعة أيضاً قد تكون ضرباً من الضوضاء!
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الأربعاء 2024/02/28
Leave a Comment