د. بول طبر
يشغلني في الآونة الاخيرة، سؤال عن سبب تمسك المغترب اللبناني (والمغتربة اللبنانية) بعادات وتقاليد ومعتقدات سياسية تعود الى وطنه الام، في الوقت الذي يكون فيه قد استقر في وطن آخر، واختبر فيه منافع نظام سياسي وعادات وتقاليد هي في الاغلب على تناقض مع ما يتمسك به تجاه الوطن الذي غادره. فلا الدولة (على سبيل المثال، في استراليا وغيرها من بلدان ليبرالية وعلمانية) هي دولة تقدم نفسها على انها تمثل الطوائف، ولا الاحزاب تخاطب قواعدها بصفتها تتألف من جماعات أهلية (ابناء مناطق وعائلات وعشائر وطوائف)، وتستمد شرعيتها من اعتبار هذه الجماعات وخدمتها. ورغم ذلك نجده يتمسك بهذه الولاءات الاهلية ويعطيها الاولية في تحديد مسلكه السياسي تجاه كل أمر سياسي يتعلق بوطنه الاصلي؟ فما الذي يفسر هذه الظاهرة؟
هذه الظاهرة هي من الوقائع الاجتماعية التي تؤكد على الاستقلال النسبي لما أطلق عليه ماركس تعبير “البنى الفوقية”، دون أن تسمح له الظروف، وعلى رأسها وفاته عن عمر لم يناهز ال 65 سنة، بالتعمق بدراستها وكشف منطقها الداخلي، إلى جانب تأْثير وتأَثر البنى الفوقية ببعضها البعض – البنى الاجتماعية والبنى الثقافية والسياسية – وبالبنية والعلاقات الاقتصادية.
على أي حال، لقد أنجز ماكس فيبر على هذا الصعيد بعض التقدم في تحليل “البنى الفوقية” إذ أشار إلى أهمية ما أسماه بـ “المكانة الإجتماعية” والنفوذ المستمد من المواقع المتفاوتة للسلطة، وإلى تفاوت الخبرات والاختصاصات لدى الفئات الاجتماعية المتنوعة، ليستنتج من ذلك أن هذه الوقائع الاجتماعية، إلى جانب التفاوت في توزيع ملكية وسائل الانتاج والثروة (ماركس)، تشكل قواعد متمايزة لنشوء علاقات متفاوتة بين الأفراد والجماعات والطبقات. وعليه نسف فيبر مقولة الحتمية التاريخية التي قال بها الماركسيون، وكذلك المبدأ القائل بأن “البنية التحتية” تحدد “البنية الفوقية”، ولو في نهاية المسار الذي تسلكه المجتمعات. وعلى الرغم من أهمية فيبر في تحديده للأسس غير الاقتصادية في توليد علاقات ونظم تراتبية متنوعة، إلا ان تحليلاته بقيت قاصرة عن أمور عديدة، لعل أهمها تفسير علاقة القوى بين مختلف النظم التراتبية (أي بنية تكون قادرة على فرض مصلحة النافذين في البنى الأخرى) وكيف يمكن لهذه العلاقة أن تتبدل لصالح “النافذين” في بنية أخرى.ومن أجل الجواب على ذلك، ينبغي الكشف بصورة أدق وأكثر تفصيلاً، عن الشروط التي تستولد النافذين في كل بنية أو حقل، على حدة، ومنها تشكُّل العنصر الذي تستمد منه النفوذ والصراعات التي تتمحور حول تحديد المعايير المانحة للقيمة والشرعية التي يتمتع بها هذا العنصر (أي الرأسمال بلغة بورديو) دون غيره.
بالطبع، بيار بورديو هو الذي طرح هذه الاسئلة (والعديد غيرها، وعلى رأسها دور الوعي ودور الفرد والممارسة في الواقع الاجتماعي) واسْتفاض في الإجابة عليها، دون أن يعني ذلك أنها كانت إجابات شافية ووافية. بل إضافة إلى ذلك، أجد في إجابات بورديو ما يصلح لأن يكون عناصر تطوير لمفهوم ماركس للبنى الفوقية ومقولة الوعي بشكل عام، وتعميقهما بما يجعلهما أكثر قدرة على الإحاطة بالظواهر الإجتماعية وتفسيرها بدقة أكبر.
وسوف اعتمد على تناول “الوعي المفارق” للمهاجرين اللبنانيين (الجيل الاول والثاني إلى حد ما) للتدليل على ما قلته عن بورديو وما اعتقد أنه يشكل تطويراً وإغناءاً لمفهوم “البنى الفوقية” والممارسة والوعي لدى ماركس.
وبالعودة الى السؤال عن سبب او أسباب استمرار المهاجر في التصرف على مستوى القيم والمعتقدات والسلوك السياسي، كما لو أنه لا يزال إلى حد كبير في وطنه الأم، لبنان، نبدأ بالقول أن هذه القيم والمعتقدات والسلوك تنتمي إلى حقول (هنا استعمل عمداً تعبير “الحقل” بدل “البنية” لأن الأول يشتمل على على البنية بما هي غير منفصلة عن ممارسة الفاعلين فيها وضمنها) لها منطقها الخاص وبالتالي فعاليتها في تركيبة وعمل الواقع الاجتماع. ويتشكل كل حقل من جراء توزيع متفاوت إما لرؤوس أموال يمكن تصنيفها بأنها اجتماعية أو ثقافية أو رمزية. وتشترك جميع هذه الرساميل بأنها مصدر لسلطة اجتماعية (مكانة اجتماعية تصل في الحقل السياسي لدرجة تتحول فيها إلى تفويض من يمتلكها ليحكم ويدير ويشرع عبر الدولة باسم الذين يفوضونه) أو ثقافية ( أصحاب الشهادات العليا والكفاءات والخبرات) أو اقتصادية (مالكي الثروة ومصادرها) أو رمزية ( القدرة على إضفاء الرعية على الرساميل وتوزيعها المتفاوت)،وعليه يتشكل كل حقل من الحقول اعلاه من شبكة – علاقات متفاوتة من السلطة المستمدة من مختلف الرساميل المذكورة أعلاه. ويجري الصراع في كل حقل حول مسألتين:
إما بدافع انتزاع حصة اكبر من الرأسمال المعني، بالتالي رفع درجة نفوذ المطالب بتلك الحصة، وتوسيع دائرة نفوذه (ها) ، وإما من أجل تعديل أو تحويل كامل للمعايير المعتمدة في تعيين صفات الرأسمال المطلوب (الرأسمال السياسي الطائفي مثال واضح على هذين الوجهين للصراع، فهو أولاً، صراع على توزيع النفوذ المستمد من السلطة السياسية الطائفية التي يطمح الفاعل السياسي الطائفي لامتلاكها، وهو ثانياً، صراع على معايير السلطة المطلوبة لتبديلها من معايير طائفية إلى معايير علمانية ومواطنية).
ضمن هذا الإطار في توصيف وتصنيف المشهد الإجتماعي وعلاقاته، يتطرق بورديو إلى موضوع الفاعل الإجتماعي بصفتيْه الفردية والجمعية، مستخدماً مفهوم الهابيتوس. وتكمن أهمية هذا المفهوم في أنه يغوص في العلاقة المتبادلة بين الذات والموضوع (أو بين الوعي والبنية) ليصل إلى تجاوز هذه الثنائية بالكامل. وفي السياق نفسه، يقوم بورديو أيضاً عبر استخدامه لهذا المفهوم بدحض النزعة الذاتية-العقلانية في تفسير الظواهر الإجتماعية وتطورها (مقولة الفاعل العقلاني)، وذلك عن طريق كشف طبيعة الهابيتوس بأنه أساساً بنية تحمل القدرة على أن تكون فاعلة ومفعول بها في الوقت ذاته. وبصفتها كذلك، فإنها تتشكل لدى الأفراد والجماعات من نظام من الإستعدادات والإنحيازات والتطلعات ما دون مستوى الوعي لديهم، أي مستوى من الممارسة المقبولة بصورة تلقائية وغير المشكوك بها، دون أن يعني ذلك أن جميع ما يقوم به الفاعل الإجتماعي ينتمي إلى هذا النوع من الفعل فقط. فإلى جانب هذا النوع من الممارسة الإجتماعية، يوجد دائماً ممارسات واعية ومخطط لها أيضاً.
ويتم استبطان العناصر المكوِّنة للهابيتوس عن طريق التنشئة الإجتماعية، أكانت في العائلة أو المدرسة أو الإحتكاك بالمحيط الإجتماعي بصورة عامة. ومع تبدل المحيط الذي ينشأ فيه الفرد عبر الهجرة والإستقرار في بلد آخر، يحدث ذلك صدمة لهابيتوس المهاجر تختلف حدتها مع درجة اختلاف البلد الذي يستقبله بالقياس الى البلد الذي نشأ فيه. وانشغل الباحثون في قياس وتوصيف أثر الهجرة على هابيتوس المهاجر بالقول مثلاً، أن الإنتقال إلى بلد آخر قد يجعل المهاجر يعاني من امتلاك “هابيتوس معذّب” أو “هابيتوس هجين” أو أنه مع مرور الزمن، سوف يتحلل الهابيتوس الذي يأتي مع المهاجر ويحل مكانه نظام من الإستعدادات والإنحيازات والتطلعات تتناسب مع محيط وعادات وتطلعات المجتمع الجديد، لا سيما في حالة المهاجر من الجيل الثاني والثالث وما بعد.
إذاً نقطة الإنطلاق في بحثنا عن الهابيتوس المفارق لدى المهاجرين هو الإقرار بأن جزءاً من الواقع الإجتماعي والسياسي في البلد الأم يتم انتقاله إلى البلد المقصود مع مغادرة المواطن لهذا البلد. ويتمثل هذا الجزء في ما أطلق عليه بورديو تعبير الهابيتوس. فما الذي يمنع تحول هذا الهابيتوس رغم وجوده في محيط مختلف إلى حد كبير عن المحيط الذي استولده في الأساس؟
أولاً، لأن الهابيتوس بحد ذاته هو بنية أو نظام يستغرق فترة زمنية لتشكّله، وبالتالي يكون من حيث المبدأ بحاجة لفترة زمنية لتفكيكه بالكامل أو تحويله جزئياً. أما الإبقاء على بعض المكونات كما كانت في الأساس، فذلك يعود إلى الإستمرار بالإحتكاك والتفاعل مع المحيط والظروف الإجتماعية التي تتطلب الحفاظ على تلك المكونات وعلى إعادة إنتاجها.
في البداية، يشكل الحنين إلى الماضي والمكان والأشخاص الذي يغادرهم المهاجر جزءاً من هذا المحيط والظروف الإجتماعية المشار إليهما. والحنين المقصود في هذا السياق هو حنين يسقط كل ما هو سلبي فيما يتم التوق إليه ويجمده عند اللحظة التي تم فيها مغادرته. وينتقل هذا الحنين إلى أولاد المهاجرين عبر العديد من تلاوة القصص والتعليقات الجميلة أو المجمَّلة عن الوطن، وغيرها من الممارسات كالصور عن البلد الأم ومسقط الرأس والتي تكون عادة منتشرة في منزل المهاجر، أو زراعة ما كان يتم زرعه أو استهلاكه في البلد الأصلي في حديقة المنزل عند توافرها، كما هي الحال في أستراليا.
ويتم الإحتفاظ بالعادات والقيم والتقاليد (وجميعها من مكونات الهابيتوس المشار إليه) عبر الإبقاء على علاقة تفاعل مع البلد الأصلي، كالأصحاب والأقارب والأهل والتجمعات الأهلية كجمعية القرية والمؤسسات الدينية، ومع الزعماء والأحزاب السياسية (وهنا لا بد من الإشارة إلى تطوير تكنولوجيا التواصل ونسفها لحاجز الزمان والمكان). وتتجسد هذه العلاقة التفاعلية عبر زيارة البلد الأصلي وتقديم الدعم المادي للأهل ومختلف الجمعيات المشار إليها، وأحياناً تقديم الدعم المادي للقيام بمشاريع إنمائية تخص بلدية المكان الذي يتحدر منه المهاجر أو المؤسسة المذهبية التي ينتمي إليها. ومنذ إجراء الإنتخابات النيابية عام 2009، يمكن الإشارة إلى الدور المتزايد للتفاعل السياسي بين لبنان والمغتربين في تعزيز الجانب السياسي من ممارسة المهاجرين السياسية التقليدية والتي تصب في تجديد وتعزيز ولاءاتهم السياسية الطائفية.
أكتفي عند هذا الحد من تناول هابيتوس المهاجر، مؤجلاً الكلام على الجوانب الأخرى منه والتي تطال الظروف الخاصة بالبلد الذي يستقر فيه (مثلاً العنصرية تجاه المهاجرين واعتماد سياسة التعددية الثقافية في أستراليا) والتي قد تكرِّس بعض الجوانب من هابيتوس المهاجر الأصلي (كالتمسك بالهوية الإثنية-الدينية) وقد تبدل جوانب أخرى. إضافة، لا ينبغي تجاهل كل ما ذكر أعلاه ومضاعفاته على بناء مؤسسات وجمعيات الجالية في بلاد الإغتراب، الأمر الذي يؤدي إلى رفد جوانب عديدة من الهابيتوس الأصلي بمزيد من عناصر الإستمرار والتجدد.
Leave a Comment