ثقافة

عودة الباحث فرج الله صالح ديب إلى تراب كفرشوبا عقود من الكدح الثقافي للتمييز بين التاريخ والأساطير

زهير هواري

كنت أقرأ منذ أيام مجلة “الحرية” لكاتب اسمه خلدون الخالد، ثم تعرفت عليه شخصياً عندما مارست خطواتي الصحافية فيها، وازدادت علاقتي به وثوقاً خلال اقامته في حارة حريك، واقامتي في حي ماضي في الضاحية الجنوبية للعاصمة. كانت حارة حريك ممراً إلزامياً لي نحو الحي الذي أقيم به، على الطرف الشرقي للضاحية، حيث خط التماس الملتهب دوماً، وبعد أن بات اعتماد الخطوط الرئيسية للتنقل من المستحيلات.  كان منزله واحة ومحطة ريثما يهدأ القصف، وتوسعت دائرة الصداقة معه لتشمل افراد العائلة بدءاً من الزوجة رحاب إلى الأم والأخوة والأخوات والأبناء : خلدون وبشار ورشا.

ثم ترافقنا في ” بيروت المساء” مع ثلة الرفاق والأصدقاء الذين تشكلوا كفريق عمل صغير، يلتقي ويناقش ويطرح أفكاراً للكتابة، تتحول إلى تكليفات ومواد للنشر. وكان فرج الله صالح ديب بيننا نسيج وحده، كما كل واحد من أفراد المجموعة، ثقافة والتزاماً واصراراً على مصارعة الاستبداد والظلام، والدفع باتجاه التقدم، رغم الصعوبات والعقبات التي تصل حدود الاستحالة.  كان هذا الصديق والرفيق القادم من كفرشوبا مشغولاً ومسكوناً بمسألة الثقافة. والثقافة لديه ليست سوى رحلة بحث عن مصادرها ومنابعها البعيدة، بما هي ما ردده، ويردده الناس منذ العصور السحيقة وإلى اليوم، وتشمل هذه في ما تشمله الأديان والمعتقدات والعادات والتقاليد، وتلك الثقافة المغيبة عن التدوين بما تضمه من تفاصيل اليومي في حياة الجماعات، فرحاً وحزناً وأحاديث مواسم وتزجية وقت، وهو ما زال مستمراً معنا وبيننا إلى هذا الحد أو ذاك. لكن فرج لم يرَ إلى الثقافة يوماً منفصلة عن المجتمع، بل في صميم ديناميته. لم يحدث ذلك مع المجتمعات الحديثة، بل منذ ألوف السنين، ويظل مستمراً دون انقطاعات أو غياب. وبهذا المعنى كان فرج دائم الحضور على صفحات الصحف والمجلات فضلاً عن المؤلفات التي تركها لنا، والتي تغطي جوانب أساسية في حياتنا، وتجيب على الكثير من الأسئلة التي انشغل جيلنا في البحث عن دلالاتها الرمزية وجذورها العيمقة. وهذا كله لم يكن ترفاً أو بحثاً عن طُرَف في حياة شعوبنا على مدى الحقب الطويلة التي مررنا بها. لم يكن البحث للوصول إلى الجذور بمثابة احياء للماضي من أجل تقديسه، بل من أجل تجاوزه، والدخول في ثقافة العصر بإشكالياتها المعقدة. كان فرج الله صالح ديب يعرف أن ما مضى مضى.. ولكنه كان يدرك تماماً أن هذا التاريخ بكل ما زخر به من معتقدات وعادات ما يزال يفعل فعله في حياتنا اليومية، بما فيه حياتنا السياسية، وما تنتجه من صراعات على مستوى المنطقة، ولبنان في صلب معضلات تطورها المجتمعي والسياسي بطبيعة الحال. من يراجع قائمة مؤلفاته يدرك تماماً أن هاجسه كان صناعة المستقبل، بينما كان آخرون يعلكون الماضي، ويعيدون اجتراره على شكل أعاجيب، وخصوصيات طوائفهم وجماعتهم الأهلية المنزهة عن الخطأ، تتوهم قابلية إستعادة رميمها إلى الحياة، بعد كل تلك القرون والتحولات العميقة التي شهدتها مجتمعاتنا والعالم.

وكتب فرج باسماء مستعارة عديدة في الصحف والمجلات اللبنانية منذ العام ١٩٦٥، ومن اسمائه التي استعملها في زمن كان يُمنع على موظفي القطاع العام اطلاق كلمة أو موقف، من دون إذن رؤسائه التي تنتهي بموافقة ممهورة بإمضاء سعادة الوزير: فرج الله دياب، خلدون الخالد، خلدون بشار الخالد، صالح الشوباني، جرجي حنا، أيوب الأيوبي، فاء دال. ونشر في صحف كثيرة من بينها: الحرية، المحرر، السفير، ملحق الأنوار، الصياد، ملحق النهار، بيروت المساء منذ صدورها كمجلة لمنظمة العمل الشيوعي في العام  ١٩٨٢ وحتى توقفها عن الصدور في العام ١٩٩٢ وكذلك في مجلات: دراسات عربية، الفكر العربي وغيرها.

وفرج الله صالح ديب من مواليد بلدة كفرشوبا (قضاء حاصبيا – جنوب لبنان) في العام 1943، نال بكالوريوس اجتماع عام 1968 من جامعة بيروت العربية، ودبلوم الدراسات العربية والإسلامية عام 1976، وماجستير في علم اجتماع التنمية عام 1979. لكن موسوعيته وهمومه تجاوزت شهاداته الأكاديمية بطبيعة الحال.  وشغل إلى جانب الكتابة منصب رئيس قسم خطوط التوتر العالي في شركة كهرباء لبنان حتى أيار 2007. ومن هنا كانت تعددية الأسماء التي كتب بها.

ولفرج الله نحو أربعة عشر كتاباً، .منها:

  • اليمن هي الأصل. الجذور العربية للأسماء، ط 2 – 2008 .
  • اليمن هي الأصل ج 2، معجم معاني وأصول أسماء المدن والقرى الفلسطينية.
  • التوراة العربية وأورشليم اليمنية، دار نوفل، بيروت.
  • كذبة السامية وحقيقة الفينيقية. دار نوفل، بيروت.
  • لبنان الثورات الفلاحية القرن التاسع عشر
  • المسيحية والمسيحيون العرب وأصول الموارنة. دار نوفل بيروت ط 2.
  • القرية وسوسيولوجيا الانتقال إلى السوق – دار الحداثة، بيروت 1981
  • المرأة العربية والإنتاج. نموذج المرأة الفلسطينية، بالاشتراك مع الشهيدة الراحلة نبيلة سلباق برير – دار الحداثة، بيروت
  • مزوقات من كلام العرب في اللغة الفرنسية، دار نوفل.
  • الماركسية والتراث العربي الإسلامي، مناقشة لأعمال حسين مروة والطيب تيزيني، بالاشتراك مع آخرين.
  • حول أطروحات كمال الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب – دار الحداثة، بيروت
  • المقاطعات اللبنانية في ظل حكم الأمير بشير الشهابي الثاني ونظام القائمقاميتين
  • الثقافة الشعبية من بيروت إلى المحيط، دار نوفل، 2008
  • من البداية إلى التهجير، محطات تاريخية في نضال الشعب الأرمني، منشورات الحلقة الأدبية الأرمنية 1993، بيروت.
  • لسان العروس، أسماء العشائر والمدن والقرى اليمنية ومعانيها، دار شرق — غرب — دبي، 2009.
  • اليمن وأنبياء التوراة – رياض الريس، بيروت 2012

عمل فرج الله صالح ديب طوال حياته على محاور عدة ذات صلة جميعاً بالثقافة الغائرة في تراب المنطقة وثقافة شعوبها. ويمكن تقسيم مؤلفاته إلى فرعين أساسيين أولهما يتمثل في العمق الحضاري للمنطقة وشعوبها، ممثلاً بحضارة اليمن، وحركية قبائلها وما تركته من بصمات على تاريخ المنطقة، بما فيه أسفار التوراة، وتحركات قبائلها نحو الشمال بدءاً من الفينيقيين، وصولاً إلى هجرة قبائلها بعيد انهيار سد مأرب، وصولاً إلى الاندماج في مشروع الفتوحات العربية – الاسلامية  في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ما طبع المنطقة بأسرها بطابعها، وإن كان هذا المعطى قد تم التنكر والقفز عن وقائعه تحت تأثير الاسرائيليات التي تسربت إلى المرويات العربية التي سادت خلال قرون متلاحقة بفعل التراث اليهودي – العبري من جهة، والاسلامي العربي من جهة ثانية، الذي وصم التاريخ بطابعه الاسلامي – الحجازي الشمالي، كونه من قاد هذا التحول العميق في أعقاب الفتوحات. الفرع الثاني من عمله الفكري يتمثل في تأمين شروط التنمية المطلوبة، والتي يجب أن تسبقها عملية مطاردة السائد من نظريات ومقولات حول الشعوب وخصوصياتها بدءاً من اللبنانوية التي تزعم انفصالا عن تاريخ المنطقة واجتماعها، وصولاُ إلى موقع ودور المرأة المهمَّش في عملية النهوض، التي لا بد وأن تقتحمها، وتساهم في كسر حواجز الإعاقة التي تحول دون قيامها بدورها في تطوربلادنا.

الفرع الأول مرجعه الأساس الدور الذي لعبته الصهيونية الحديثة في تاريخ المنطقة، والذي أعاق عملية انطلاقتها في مضمار الحداثة. فالاحتلال الصهيوني لفلسطين بدعم كامل من المعسكر الرأسمالي ليس حدثاً تفصيلياً في تاريخنا المعاصر. من هنا كانت مطاردته للاسطورة اليهودية ودعاويها أن جذورها هي على وفي أرض فلسطين دون سواها، وما توصل إليه ينسجم مع ما توصل إليه علم الآثار من نسف لاسطورة “ارض الميعاد”، وقاعدته اسقاط جغرافية التوراة على أرض فلسطين. ومثل هذا التوجه لم ينطلق من التيار القومي العربي بقدر ما بات حقيقة تاريخية لدى الكثير من المؤرخين وقسم رئيسي من الرأي العام العالمي. فبعد تحقيق مجلة “تايم ” الامريكية 18-12-1995 بعنوان “هل التوراة واقع ام خيال” جاءت مجلة “لونوفيل اوبزرفاتور” الفرنسية عدد 18 ــ 24-7-2002 لتنشر تحقيقا على امتداد عشر صفحات بعنوان “الطوفان.. إبراهيم.. موسى.. الخروج.. التوراة الحقيقية والاسطورة. الاكتشافات الجديدة لعلم الاثار” كتبه فيكتور سيجلمان.. جان لوك لوتييه.. صوفيا لوران.”اضافة الى نحو سبعة كتب نشرت في فرنسا وحدها منذ العام  1998 حول المضمون نفسه وملخصه: ان علم الاثار في فسطين لم يؤكد ما جاء في اسفار التوراة، وبالتالي فان “ارض الميعاد” الكنعانية… ليست في فلسطين، وعليه فالاسطورة الصهيونية عن ارض الاجداد باطلة. إذ لم يعثر الأثريون ، بمن فيهم الاسرائيليون، على ما يثبت وجود الهيكل أو غيره من حضارة وكيان عبراني في أرض فلسطين. وهو ما أضاف إليه كمال صليبي عندما حدد جغرافية التوراة في الشمال الغربي للجزيرة العربية، لكن فرج الله أعاد الأصول اليهودية التوراتية إلى ما هو أبعد، إلى اليمن جنوباً، انطلاقاً من جغرافيا الأماكن وأسماء القبائل وغيرهما، اذ تبين له أن مصدرها اليمن دون سواها، وقد نزحت شمالاً عبر الهجرات المتلاحقة، وخلالها تموضعت في الجزيرة العربية قبل متابعة رحلاتها وترحالها، لكن لم تنشيء جذوراً فعلية حقيقية لها على أرض فلسطين أو مصر أو التيه في سيناء. وكان كتاب فرج الله حول أطروحات د. كمال الصليبي “التوراة جاءت من جزيرة العرب” والذي أثار كثيراً من اللغط وردود الفعل السلبية. وما قام به الصليبي وعمّقه فرج الله  بمثابة انجاز علمي  كبير للغاية، حيث قرأ الصليبي التوراة من خلال أسفارها الخمسة قراءة فيلولوجية مرتبطة بالمكان واللغة. وما كان سائداً في الجزيرة العربية، وما توفر له من خرائط، بالإضافة الى المرو يات المتداولة التي تحولت الى مدونات بعد منتصف القرن الثاني للهجرة. أما فرج الله فقد كشف عن جغرافية التوراة على أرض اليمن بما فيه اور شاليم وغيرها من أماكن ومدن لا علاقة لها ببلدانية فلسطين من قريب أو بعيد، خلافاً لما ذهب إليه علماء التوراة من إلصاق تلك الجغرافية بأرض فلسطين مع ظهور المشروع الاستيطاني الصهيوني على ارض فلسطين . بالطبع لم يقتصر الأمر على المدن وجغرافية الأماكن، بل يمتد ليشمل أنبياء التوراة الذين كان مسرح وجودهم اليمن دون سواها.

اذن الجديد في البحث الخاص بفرج الله هو عملية فحص التوراة في اللغة والتاريخ والثقافة الشعبية التي عملت على اغناء الأسفار التوراتية بما زادته على النص الأصلي نصوصاً اضافية. التي كشفت لنا نوعاً من المجاورة العميقة، والمحاورة مع السائد من الثقافة آنذاك. يعيد فرج السبب في هذا الاختلاط إلى  تأخر عصر التدوين حتى قيام الدولة العباسية، وارتباط ما يدون بغايات سياسية تداخلت فيها عناصر متعددة، من بينها نصرة الإسلام، وبروز نوع من أنواع القدسية حول الوقائع والأسماء، من هنا كان تركيز المؤرخين المسلمين على  أخبار صاحب الدعوة ومعاركه، وطبقات المؤسسين من رجالات المرحلة الأولى، وقد ترافق ذلك كله مع وضع القواعد للغة العربية، بعد أن كثُر اللحن خصوصاً بين الموالي. وهو ما واكبه أهمال اللهجات العربية الأخرى التي عرفتها الجزيرة العربية بما فيها لغات ولهجات اليمن، وقد قاد ذلك إلى سيادة لغة القرآن الكريم التي باتت لغة خاصة بالنخبة الحاكمة ورجال الدولة ودواوينها، خصوصاً منذ عصر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. لذا لم يلتفت المؤرخون إلى الموروث الأخر الشعبي والمعارض. وهو ما يشمل الفكر والثقافة التي حملتها القبائل اليمانية من منابتها الأصلية، وطبعت سلوكياتها وصراعاتها خلال العصرين الأموي والعباسي. وتضيء هذه الملاحظة أصلاً على الموقف الضدي من الثقافة الشعبية بتنوعها وتعددية مصادرها، التي هي أكثر تمثيلًا للحياة والعلاقات الاجتماعية والثقافية. وقد أكد الباحث فرج من أن ما وصلنا من الثقافة الشعبية هو النزر اليسير. بعد أن غلب على عصر التدوين  الاتجاه الموالي للسلطات. وعليه، فمئات الألوف من المرويات محاها فناء الأجيال، واندثار المخطوطات، والكتب التي التهمتها نيران  الحروب والصراعات المحتدمة بين قبائل الشمال والجنوب ( قيسي ويمني)….. من هنا فإننا نعاني من تدرجات في الغموض بمعرفة التاريخ قبل الإسلام، الذي يختصر في المصادر بمصطلح الجاهلية، بينما نعرف من علم الآثار أن تلك المنطقة لم تكن صحراء قاحلة، وأن حضارات ودول وشعوب نشأت وتفاعلت على أرضها ومع محيطها. لا يتعلق الأمر بالعمران وحده، بل يمتد إلى عبادات ومعتقدات الشعوب والأوثان والآلهة، وحتى إلى العقائد الدينية من اليهودية إلى المسيحية والاسلام.

ليس المجال مجال قراءة أو مراجعة سريعة لبعض ما أرساه  فرج الله صالح ديب من توجهات في النظر إلى ثقافة هذه البلاد وحركية شعوبها وقبائلها ومصادرها الفعلية المتوفر منها والمفقود، بل لقول كلمة  في صديق خسرناه، وبخسارته فقدت الثقافة العربية ركناً اضافيا من تلك الاركان التي حاولت بدأب وجهد حقيقي التمييز بين الحقيقة والأسطورة ، بين الوقائع والمرويات الشعبية.

أيها الصديق والرفيق العزيز،  لم يكن غريباً أن تعود لتدفن في تراب كفرشوبا التي أحببت، وأمضيت عمرك بعيداً عنها وقريباً منها، كونها التعبير عن انتمائك إلى الانسان وقضيته وطموحاته في طول البلاد العربية وعرضها. وكفرشوبا هي الأقرب إلى فلسطين التي نافحت عنها طوال حياتك، وعن حقوق شعبها بالحرية والاستقلال وكنس الاحتلال عن أرضها. من مرقدك على مرتفع بلدتك تطل على فلسطين وتخبر أهلها أنك ما تزال وتظل معهم.

وداعاً أيها الصديق الذي أمضى حياته منهكاً باحثاً عن حقيقة التاريخ وحقائق التقدم المطلوب والبعيد المنال.

Leave a Comment