منشورات بيروت المساء
في الاشـــتراكية
نص نقدي تحليلي
منتصف نيسان 1993
مدخــل
حمل كتاب “أوراق يسارية ـ نصوص حزبية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان” الصادر عن دار “بيروت المساء” في منتصف شباط من العام (2016)، إشارات وافية الى الكتاب الذي صدر في منتصف شهر نيسان عام 1993 تحت عنوان “في الاشتراكية ـ نص نقدي تحليلي”، وذلك في سياق التوقف أمام ما انتجته المنظمة من وثائق تمهيداً لعقد مؤتمرها العام الثاني عام 2000ـ2001.
وإذ تعيد “بيروت المساء” نشر هذا الكتاب اليوم بنصه الأصلي تأمل أن تسد بذلك ثغرة مهمة في مسار التعرف الى فكر اليسار الذي اليه ننتسب، في منبته اللبناني وإطاره العربي وأنتسابه الأممي.
وفي ما يأتي نص التقديم الأصلي الذي حمله الكتاب عند صدوره في إطار مناقشات اللجنة المركزية للمنظمة لموضوعاتها البرنامجية تحديداً وتجديداً لهويتها الفكرية وخطها السياسي.
تقديــم
مناقشات اللجنة المركزية للموضوعات البرنامجية
بعد أن سارت اللجنة المركزية شوطاً كبيراً في قراءة أبرز الموضوعات البرنامجية للمنظمة خلال العقدين السابقين، أي منذ التأسيس حتى اليوم، انتقلت في أيار من العام الماضي (1992) إلى مرحلة جديدة من النقاش وطور جديد من البحث على طريق انعقاد المؤتمر العام الثاني الذي لا بد من أن يحسم في هويتنا الفكرية وبرنامجنا النضالي، والذي يشكل بمعنى أدق تتويجاً للعملية المتكاملة التي نحن في صددها إنجازاً لإعادة تأسيس المنظمة.
وغني عن القول أن هذه العملية المستمرة، ولو شابها تقطع بين الحين والآخر، إنما تستهدف الوصول إلى إعادة تأسيس منظمة اشتراكية لبنانية عربية تدق أبواب المستقبل وتكون قادرة على احتلال “خانة” مثمرة في الحياة السياسية للبلاد وعلى المساهمة في تشكيل اليسار الذي كنا وما نزال جزءاً منه. ولذلك فإن النقاش الذي شرعنا فيه منذ أيار الماضي شكل انتقالاً من وضعية تجدد التعرف على تراثنا، وهو الأمر الذي تحقق بنسبة كبيرة، إلى وضعية المساهمة الإيجابية في نقد هذا التراث في محاوره الأساسية توصلاً إلى صوغ “مشروعنا” الاشتراكي الجديد.
ولمزيد من التعريف نشير إلى أن هذا النقاش حصل في أجواء من المبادرة الجماعية للجنة المركزية في تقديم مساهمات جادة في هذا المجال، وما سنعرضه في هذا النص هو حصيلة هذا النقاش الذي افتتحه الأمين العام وانخرط فيه جميع أعضاء اللجنة المركزية. ولعل جميع الرفاق يدركون أن هذا الخيار في النقاش يحسم إلى حدٍ كبير في المسؤولية الجماعية عن مشروعنا الحزبي المتجدد الذي لن يكون إلا مشروعاً للجميع سواءً بسواء.
وبكلمة أخرى، تشدد اللجنة المركزية على الأهمية المصيرية للمساهمة الجماعية في صفوف المنظمة، وقد قررت أن النقاش ينضبط فقط ضمن حاجة ومسؤولية وقدرة قيادة حزبية وأعضاء مناضلين. ومن هذا الموقع يبدو أن كل الرفاق قادرون على الانخراط في البحث، ولا داعي لأي تهيب في هذا المضمار لأن المطروح ليس عقد منتدى حوار نظري أو فلسفي بل هو بالضبط مؤتمر لتنظيم راغب في النضال من أجل التغيير، والفارق بين الأمرين بيِّن تماماً. وإلى ذلك كله نضيف أن الحصيلة الأولية التي تبدأ اللجنة المركزية بوضعها بين أيدي الرفاق اليوم لا تحسم النقاش كله لأنها لا تتوخى قول الكلمة الفصل في أدبنا السياسي الجديد مرة واحدة، بل هي تطمح لأن تفتتحه وأن تبرز من خلاله كل التلاوين الفكرية والسياسية إغناءً له وبحيث يشكل ما نتوصل إليه أخيراً محصلة التعدد في الرأي وجامعاً مشتركاً نلتزم به، ونترك على أساسه باب “الاجتهاد” مفتوحاً على قاعدة أننا منظمة يسارية ديمقراطية. وإذ نشدد على هذه المسألة ونعتبرها أساسية ومركزية، فإننا نتطلع إلى سيادة تقليد ديمقراطي راسخ في المنظمة التي لا بد من أن تتوحد في الممارسة فيما سجالها مع نفسها ومع الآخرين مفتوح. ومعلوم في هذا السياق أن صواب الرأي لم يعد مقياسه نص فكري محدد نحاسب على أساسه، لأن طموحنا هو كسر “المحرمات” إغناء لمشروعنا الحزبي المتجدد، لاسيما وأن هدفنا ليس الوصول إلى نظرية كونية جديدة تحل مكان النظرية الكونية السابقة، بل إن هدفنا هو إكساء خيارنا الاشتراكي بمضمون نوعي حي وحيوي في آن.
من هنا، فإن اللجنة المركزية تدعو جميع الرفاق في مختلف الوحدات الحزبية إلى الانخراط في نقاش ما نطرحه باعتباره ليس خاتمة المطاف، وإلى عدم التردد في النقد، فاللجنة المركزية تعوِّل تعويلاً كبيراً على الوجهة النقدية السجالية فعلاً.
من كل ما تقدم، نصل إلى “لب” الموضوع المطروح فنقول أنه إذا كانت موضوعاتنا البرنامجية تتشكل من المحاور الآتية: في الاشتراكية، وفي المسألة القومية العربية، وفي القضية الوطنية اللبنانية، فإن من المنطقي أن نميِّز محور الاشتراكية لأن الاشتراكية هي الأصل في كل موضوعاتنا البرنامجية. وما أنتجته المنظمة خلال سني عمرها هو مجموعة من المفاهيم المترتبة على خيارنا الاشتراكي الذي حكم زاوية نظرنا في المسألتين القومية العربية والوطنية اللبنانية، وبالتالي فمن الطبيعي أن يتسلسل النقاش لينطلق من الاشتراكية ثم يتبع.
أزمة الاشــتراكية
القسم الأول ــ نقد الماركسـية
أولاً: حول بعض النقد الرائج للاشتراكية
المتحققة تحت راية الماركسية
إذا كانت الاشتراكية هي الأصل في خيارنا، فإن الماركسية كانت وما زالت، حتى الشـروع في هذا النقد، الأصل في اشتراكيتنا، والماركسية مأخوذة هنا في صيغة التزام كلي وشامل ولا نقول صيغة تقيد حرفي لأنه كانت لنا اجتهادات فكرية في مجال الماركسية.
وفي هذا المجال، تجدر الإشارة إلى أنه يوجد اليوم نتاج غزير يدور حول نقد الاشتراكية التي عرف التاريخ تحققها تحت راية الماركسية. فهناك من ناحية الطروحات التي تنطلق من وترمي إلى التمييز بين الماركسية كما قدمت نفسها نظرياً وبين نموذج الاشتراكية كما تحققت عملياً، وتنتهي إلى الاقتراع لصالح النظرية ضد النموذج المتحقق. وهناك من ناحية ثانية طروحات في نقد الماركسية على قاعدة التمييز بين الماركسية كمنهج فكري (المادية الجدلية التاريخية) وبين الماركسية كنتائج في تطبيق هذا المنهج الفكري وتنتهي بالتالي إلى الاقتراع لصالح المنهج وضد النتائج في التطبيق. أما نقدنا نحن للاشتراكية التي تحققت تاريخياً تحت راية الماركسية فإنه يحاذر الدوران في فلك هذه الطروحات وينصب على نقد الماركسية منهجاً ونتائج تحليل ونموذج تطبيق في آن.
ثانياً: موقع ومضمون نقدنا للماركسية
لا بد بداية من أن نسجل أننا ننقد الماركسية ككل وقد أخذنا بها سابقاً بشكل كلي وشامل، وانتمينا إلى خيار في النظر إلى الماركسية يعتبر نفسه قيِّماً على تعاليم الماركسية الأولى ويرفض مراجعة هذه التعاليم معتبراً المراجعة صنو “التحريفية” الضالة.
والماركسية التي ننقد هنا هي كل ما تمَّ إنتاجه وما جرت ممارسته منذ ماركس إلى ما أنتج وما عمل تحت راية الماركسية وباسمها. وهذه كل إجمالي هو عبارة عن سلسلة من تتابع حلقات لا يمكن بترها، لأننا أساساً وكما قلنا لسنا مع نقاش يفصل بين النصوص وحركة الممارسة وينتهي إلى مقارنة هذه بتلك ليستنتج أن الحركة العملية كانت مسلسل خروج على النصوص. فالماركسية يترابط فيها إنتاجها الفكري مع زمن تحققها ونتائجه، لأنها اعتبرت أن التاريخ هو الذي يحكم في حركته الواقعية لها أو عليها، ورفضت أن تصنف نفسها في دائرة النظريات التي تكتفي بتفسير العالم أو وصفه، بل وضعت نفسها مسبقاً في عداد النظريات التغييرية. ومن هنا كان القول: “لقد كانت مهمة الفلسفة حتى الآن تفسير العالم، أما الآن فالمطلوب تغييره”. وبالتالي فإننا ننقد الماركسية هنا بمقياس نصوصها ومحاولات التعبير التي جرت باسمها، وهذا يشمل بطبيعة الحال ماركسية الأمميات الثلاث، من غير أن يخفى أن حجر الزاوية في ذلك يتمثل في أفكار وطروحات ماركس وقد نهض على هذا الحجر بنيان كبير.
لذلك يستطيع الرفاق أن يستنتجوا مبكراً أن نقدنا للماركسية يتوخى إلغاء كل المحرمات التي اعتبرت المراجعة والانتقاء والتحريف والخروج على مفاهيم ماركسية معينة من قبيل الخروج عن تعاليم معلّم.
وفيما نمضي في هذا النقد، نرى أنه من الضروري جداً أن نعي جميعاً أن المنظمة التي قادت عند التأسيس في نهاية الستينات حملة ضد طروحات الحركة القومية واعتبرت أن الجواب يكمن في التزام الماركسية، لن تقع في أواسط التسعينات في “فخ” اختزال الرد على أزمة الاشتراكية في صيغة تحلل عدائي مطلق من الماركسية بكل ما أتت به من أفكار، أي أننا إذ نناقش في تحليل أزمة الاشتراكية لسنا في صدد شن حملة ردة معاكسة تعتبر الصواب مقروناً سلفاً بمدى اتساع رقعة التحلل مما أتت به الماركسية.
هذا النهج الذي نعتمد في نقدنا للماركسية هو جديد في منظمتنا. وهنا لا بد من وعي حقيقة أن المنظمة نشأت جزءاً من محاولة صوغ الجواب عن أزمة الاشتراكية المتحققة باسم الماركسية وتحت رايتها من خلال العودة إلى الأصول. فمنذ أن أميط اللثام في منتصف الخمسينات عن أزمة النموذج المتحقق في الاتحاد السوفياتي السابق، مروراً بنشوب الصراع الصيني ـ السوفياتي في الستينات، وصولاً إلى الأزمة الأخيرة التي توالت فصولها في الاتحاد السوفياتي وسائر بلدان “المعسكر الاشتراكي” منذ أواسط الثمانينات، كنا بنيوياً ضمن إطار “التخريجات”، والانتقاءات والتمييزات بين كتابات ماركس، لا بل كنا جزءاً من حركة “التخريج” العالمية بالعودة إلى الماركسية الأصلية، أي جزءاً من محاولة الرد على الأزمة من داخل الماركسية. لذا ينبغي القول أن المنهج الذي نعتمد اليوم في نقدنا للماركسية جديد فعلاً وبعيد تماماً عن التخريج الذي مارسناه عقدين ونيف من الزمن هما عمر المنظمة. ونستطيع أن نعلن أن طرق المراجعة من ضمن الماركسية استنفذت حقاً، مع أن لمثل هذا التيار في النقد كل الحق في أن يعبّر عن نفسه على غير صعيد وحضوره المستمر ليس مستهجناً.
هكذا يبدو لنا أن النقد الذي سنجريه هو أقرب إلى عملية فرز شاملة كل الحقول التي يمكن أن نعينها على أنها حقول البحث في الماركسية بحثاً متكاملاً، وأن هذا النقد في مرحلة النقاش الحالية ضمن المنظمة له هدف تبيان ما لن تكون عليه اشتراكيتنا، ذلك أن “الجديد” لا ينبع آلياً من نقد “القديم”، وإن كان نقد “القديم” شرطاً ضرورياً لولادة “الجديد”.
أ– فهمنا لتناقضات النص الماركسي الأصلي
إذا كنا لا نعتبر أزمة الماركسية مجرد أزمة مشروع في التطبيق، بل نراها على نحو أشمل أزمة كامنة في النظرية أصلاً، فمن البديهي والطبيعي أن ينطلق نقدنا من عرض فهمنا لتناقضات النص الماركسي الأصلي، وكما قدم نفسه على لسان وفي كتابات مؤسسيه الأولين ماركس وأنجلز.
1 ـ كيف قدم ماركس وأنجلس
مذهبهما وأين يكمن تناقضه الأساسي
في كتابات ماركس وأنجلز، سواء منها ما صدر في طور الشباب أو في طور النضوج، لا ترد الشيوعية مطلقاً كهدف مثالي أو كمشروع إنساني، بل هي تطرح على أنها خط الوصول الذي يتجه إليه المسار التاريخي، أي على أنها نتيجة المجرى الواقعي والموضوعي للأشياء. وفي سجال ماركس وأنجلز مع مختلف الاشتراكيات التي اعتبراها وأعلناها طوباوية أو مثالية، نجدهما يؤكدان في كل مناسبة على “أن الطبقة العاملة ليست لديها مثل تريد تحقيقها” بل هي تتبع وتتابع ما يضعه التطور التاريخي على جدول أعمالها من مهمات. وهنا بالضبط يكمن، بالنسبة إلى ماركس وأنجلز، كل الفارق بين الماركسية والاشتراكية الطوباوية أو المثالية. فهذه الأخيرة تعارض الواقع بالمثال والكائن بالواجب الوجود. فيما تعلن الماركسية نفسها، في المقابل “اشتراكية علمية” على قاعدة اكتشافها قوانين الحركة الواقعية. لذا فهي لا تطلب إلى الحركة العمالية أن تناضل من أجل مبادئ العدالة، بل تعتبر نضالها محكوماً بالأهداف التي يحققها عملها كنتائج للقوانين التي تحكم تطور المجتمع. هكذا يصبح هدف التحول نحو الاشتراكية والشيوعية، كما تقترحه الماركسية، لوناً من الإقرار بواقع الأشياء الذي تتجه نحوه القوانين المتحكمة بالمجرى التاريخي الفعلي. ويغيب كلياً ويلغى الخطاب “المعياري” ولا يبقى من أهمية حسب الإعلانات الماركسية، إلا لـ “الوصف” و”الشرح العلمي”. ويؤكد ماركس، تكراراً، أنه ليس في صدد إطلاق أحكام أو اتهامات أخلاقية ضد رأس المال بل هو يجهد على عكس ذلك لتحليله والتقاط أوالياته الموضوعية. كل ذلك لا يترك مجالاً للشك حول الكيفية التي يحكم من خلالها ماركس نفسه على العمل النظري الذي أنجزه. فهذا العمل هو، في رأيه، لون من التحقيق العلمي المحض، أما هدفه فيتمثل في هتك أستار ما يسميه “القوانين الطبيعية” للإنتاج الرأسمالي. فكتاب رأس المال هو، بالنسبة إلى مؤلفه، كتاب علم يشبه تماماً كتب العلوم الطبيعية.
هكذا نستطيع أن نستخلص أن ماركس وأنجلز لم يعتبرا عملهما عملاً علمياً فقط، بل حكماً له على أنه معرفة محض بعيدة عن ومجردة من الأحكام الأخلاقية والقيمية. وهي المقولة التي نجدها تتكرر، بعدهما، لدى كبار الماركسيين وخصوصاً في حقبة الأممية الثانية.
ولنحاول الآن صوغ حصيلة أولية تكشف التناقض الأساسي الذي ينطوي عليه، من الزاوية المشار إليها، مذهب ماركس وأنجلز. تقدم الاشتراكية الماركسية نفسها على أنها “وصف”، محايد وغير مبال أخلاقياً، لتعاقب التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية، وتنتدب نفسها لـ “شرح” نشأة كل منها وعلاقتها بالأخرى في صيغة علاقة سببية موضوعية. لكن ما لا تستطيع الاشتراكية الماركسية إخفاءه هو أن التعاقب التاريخي الذي تقترحه يبدو متجهاً، أي موجهاً، نحو نهاية أو غاية. وحسب التحليل الماركسي فإن مجرى التاريخ يتطور عبر المراحل الأساسية الآتية: هو ينطلق من مرحلة بدائية، حيث لا طبقات ولا ملكية خاصة (الشيوعية البدائية)، ويجتاز على امتداد فاصل زمني تاريخي كبير مرحلة “العبودية” و”الاستغلال” بحكم انقسام المجتمع إلى طبقات، لينتهي أخيراً إلى مرحلة الحرية الكاملة والمساواة الكاملة التي هي مرحلة الشيوعية الحديثة تحديداً. ومن ذلك تبدو الصعوبة، التي ترتبك أمامها النظرية وتحتار، بديهية وجلية. فمن ناحية أولى تنظر الماركسية، كتحليل علمي، إلى مجرى التاريخ الواقعي على أنه لون من التطور السببي ـ الموضوعي. ومن ناحية ثانية يبدو هذا التطور السببي مدعواً، ودائماً حسب الماركسية ذاتها، إلى إنتاج غاية وإلى تحقيق “قيمة”: أي إلى توليد المجتمع الشيوعي بصفته مجتمع “الأفراد الأحرار والمتساوين”. وبكلمة أخرى تقول الاشتراكية الماركسية باستخلاص نهاية للمجتمع عبر “تطور ضروري” للأشياء، على رغم أنها نفسها تنظر إلى هذه النهاية في صيغة “قفزة” من “مملكة الضرورة” إلى “الحرية”. وهو ما يصح أن نرتب عليه استنتاجاً مؤداه: أن نقد ماركس للمجتمع وتنبؤه بالشيوعية، كنتيجة ضرورية لتطور محدد وفق قانون السببية، هما في الحقيقة وفي نهاية المطاف مبنيان على حكم ذاتي قيمي يبدو حضوره في النظرية الماركسية جلياً على رغم كل الطروحات المعاكسة. وهنا تظهر تكراراً الصعوبة الأساسية التي تصطدم بها الاشتراكية الماركسية.
ذلك أنه إذا أردنا أن نعالج الوقائع التاريخية والاجتماعية بمعان علمية، فيجب أن نلاحظ أن الحديث عن مجتمع (وخصوصاً عن مجتمع قادم) في صيغة حديث عن مكان يتحقق فيه “التحرر الإنساني” هو حديث مجرد من أي معنى علمي. فمن زاوية علمية تبدو كل المجتمعات على مستوى واحد وتقع على صعيد واحد. وهي كلها عبارة عن وقائع ينبغي فهمها وتحليلها، ويستطيع العلم أن يحقق حول صفاتها وخصائصها الموضوعية المختلفة، وحول الفوارق في بنية كل منها وأدائه الوظيفي. لكن العلم لا يستطيع أن يستخلص اختلافاً أو تمييزاً في القيمة بين هذه المجتمعات، وهو لا يستطيع بالتالي أن يفهم أحدها على أنه مجرد درجة أو طور تحضيري لولادة الآخر. فبالنسبة إلى العلم تتمتع كل أشكال الواقع بالقيمة نفسها. مما يعني استنتاجاً، إن ماركس حين يقول بتوليد “غائية” الشيوعية من التحليل العلمي للتطور التاريخي كمجرى سببي ـ موضوعي، إنما يمارس في الواقع عملية إسقاط للقيمة التي يريد اكتشافها على الواقع سلفاً. وبكلمة أخرى فإن “الاشتراكية العلمية” التي يقول بها ماركس هي علم اجتماع لا يقتصر هدفه على فهم الواقع ووصفه كما هو فعلياً ومن دون تقويمه، بل يتجاوز ذلك نحو الحكم عليه وفق قيمة مفترضة سلفاً ومسقطة على الواقع الاجتماعي بهدف تكييفه وفق متطلباتها. هكذا يبدو لنا أن الماركسية تعرضت، أو هي عرّضت نفسها، للون من “التأليفية التوفيقية المنهجية” يتسم بمفارقات حادة فكرياً. فهي تجاهلت التمييز الأساسي بين النظرية المعيارية ذات المضمون الأخلاقي ـ السياسي وبين النظرية المؤسسة على العلم السببي أي نظرية العلوم الطبيعية. ومن هنا مزجت وخلطت بين “الوقائع” و”القيم” وبين “الأسباب” و”الغايات”.
هذه المحاولة التوفيقية التي قامت بها الماركسية، تجعلنا نذهب إلى استطراد سريع وموجز حول العلاقة بين العلم والإيديولوجيا لنقول أنه لا يمكن إقامة سور فاصل بينهما، ولا بد أن نلحظ تداخلاً دائماً بين الإيديولوجيا والنظرية العلمية متناسباً مع المعطيات والاكتشافات والمعارف العلمية لكل عصر. وهذه مناسبة للقول أن الماركسية التي أعلنت أنها صفت الحساب مع الفلسفة وإنها علم محض حملت، في ضوء كل ما سبقت الإشارة إليه، إعلانات إيديولوجية وظلت مسكونة بمقدار من المثالية صار خطراً عندما اتخذ لنفسه صفة العلم المطلق. يمكننا إذن أن نحدد أصل الأزمة هنا: نظرية فيها من العلم الشيء الكثير وفيها من الإيديولوجيا الشيء الكثير، لكنها تتجاوز واقعها الفعلي لتعلن نفسها علماً خالصاً قال الكلمة الفصل في مسيرة التاريخ، وهو ما شهدنا نتائجه السلبية في صيغة ألوان من الجمود العقائدي استغرقت تجلياته قرناً ونصف القرن من الزمان.
2 ـ في المضمون الهيغلي للديالكتيك الماركسي
كيف أمكن لهذا “التوليف” أن يحدث ليس فقط عند ماركس بل وعند الماركسيين وراءه أيضاً؟ وبأي كيفية تم النظر إلى المجرى الموضوعي للتاريخ المحكوم بالسببية والمجرد بالتالي من كل غائية، على أنه مجرى الانتقال إلى مجتمع لا يبدو فقط أكثر تعقيداً من سوابقه، بل متفوقاً على سوابقه أي أرقى منها في سلم القيم؟ أوليس التاريخ الجدير بأن ينتج هكذا مجتمع، “أرقى” من سوابقه، هو تاريخ يحمل في طياته سلفاً غاية معينة؟
إن أي محاولة لصوغ أجوبة عن هذه الأسئلة لا بد من أن تستند إلى تفحص أثر هيغل على التكوين النظري لماركس، أي لا بد من أن تتوقف أمام الاستعارة الماركسية لمنهج الديالكتيك الهيغلي من ناحية ولمفهوم التاريخ عند هيغل من ناحية ثانية. ولنحاول جلاء هذه المسألة بأقصى مقدار ممكن من التبسيط والوضوح على رغم أن القضية الفلسفية المطروحة هنا هي قضية صعبة بمضمونها الفكري وليس بمصطلحاتها اللغوية فقط، ولنبدأ بإلقاء نظرة على منهج الديالكتيك لدى هيغل وماركس بغية التوصل إلى رؤية مدى التماثل بين الديالكتيك الهيغلي والديالكتيك الماركسي.
ينطلق هيغل من القول أن العنصر المادي لا يتمتع بوجود حقيقي قائم في ذاته، وأن الفكرة هي أساس الوجود ومنها يستقي العنصر المادي كينونته. هذا الوصف للعالم هو ما يسمى، في مجال البحث الفلسفي، المثالية. وهذه مناسبة للقول أن المثالية لم تولد مع هيغل بل هي قديمة قدم الفلسفة اليونانية، وبموجبها يعتبر عالم المثل والأفكار العالم الوحيد الحقيقي وينظر إلى العالم المادي المحسوس على أنه مجرد انعكاس لعالم المثل والأفكار.
وفي هذا المجال يقول هيغل أن العقل، الذي يسميه “العقل المحض” (أي العقل المجرد)، هو الذي ينتج أيضاً المعرفة التي تحيط بدرجات وأزمان تحقق هذا الواقع. أي أننا نجد أنفسنا هنا أمام افتراض وجود حركة ذاتية للعقل المجرد تشكل أساس التوالد الذاتي للكائن المحسوس. هنا نصل إلى لب الموضوع لنسأل: كيف يحدد هيغل حركة العقل ويفهمها؟ ونصوغ الجواب على النحو الآتي: يبدأ العقل حركته من الفكرة التي تبدو موحدة في الأصل والتي يطلق عليها هيغل اسم الإثبات. ثم يولِّد الإثبات نقيضه وهو ما يسميه هيغل النفي. وإذ نصبح أمام تناقض يتواجه فيه الإثبات والنفي، فإن المواجهة تنتهي إلى توليد مفهوم جديد للفكرة مختلف عن الإثبات وعن النفي في آن، أي مفهوم ثالث تتخطى الفكرة الأصلية من خلاله نفسها وتتجاوز الطور السابق الذي كانت فيه. لذا يمكن تلخيص ديالكتيك هيغل بالقول أنه حركة تحول الفكرة من مفهومها الأول (الإثبات) إلى مفهومها الثاني (النفي) فإلى مفهومها الثالث (نفي النفي). وهي حركة تتكرر مع تطور الفكرة وفق الصيغة نفسها على نحو صاعد ومستديم. ومن الواضح ـ تكراراً ـ أن ديالكتيك هذه الحركة يفعل فعله داخل دائرة العقل المحض (المجرد) أساساً. أما ما يجري في دائرة العالم المادي فهو مجرد انعكاس لما يجري في دائرة العقل المحض، وكل درجة من درجات التحول في الواقع. وعلى ذلك يحق لنا القول أن ديالكتيك هيغل مفصل في الأساس على مقاس الفلسفة المثالية. صحيح أن الديالكتيك الهيغلي يتحدث عن حركة، لكنه يتحدث عن حركة لا يرى وجوداً حقيقياً لها إلا في العقل المحض (المجرد)، إضافة إلى أن هذه الحركة تتخذ دائماً صيغة اختزالية مبسطة ذات مقولات ثلاث: الإثبات والنفي ونفي النفي. وينبغي القول أن بحثنا هنا ينصب على الديالكتيك الهيغلي بالذات (من أجل رؤية الديالكتيك الماركسي في مرآته)، لأن الديالكتيك على وجه الإجمال هو موضوع أوسع وأقدم من فلسفة هيغل (ونظرية ماركس): فهو كان مطروحاً منذ الفكر اليوناني القديم وسيظل مطروحاً على كل فكر راهن أو مستقبلي.
ولنعد إلى سياق موضوعنا سائلين: ما وظيفة هذا العرض لمنهج الديالكتيك الهيغلي؟ – وجواباً عن السؤال نقول: أن هذا العرض يشكل منطلقاً لا بديل منه في سبيل التقدم على طريق تقويم المحاولة النظرية التي قام بها ماركس حين نقد الديالكتيك الهيغلي، وبحيث نتمكن من الحسم في المسألة الآتية: هل تجاوز ماركس ديالكتيك هيغل حقاً أم أنه ظل هيغلياً في ديالكتيكه هو أيضاً؟ أي بكلمة أخرى نريد أن نعرف ما مدى تجاوز ماركس في منهجه لمثالية الديالكتيك الهيغلي وما مدى تحرره من صيغته الاختزالية التبسيطية في آن.
يقول ماركس في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه “رأس المال” في هذا الصدد: “لا يتميز منهجي الديالكتيكي عن المنهج الهيغلي مبدئياً فقط بل هو يشكل نقيضه على خط مستقيم. بالنسبة إلى هيغل يشكل مسار العقل، المتحول تحت اسم الفكرة إلى موضوع مستقل، المسار الخالق للواقع، بحيث أن الواقع لا يعود يعبر سوى عن الظاهرة الخارجية للعقل. أما بالنسبة لي فالعكس هو الصحيح، إذ أن المثال ليس شيئاً غير العنصر المادي منقولاً إلى عقل الإنسان ومترجماً فيه. لقد انتقدت الجانب التصوفي من الديالكتيك الهيغلي منذ حوالي ثلاثين عاماً أي في الوقت الذي كان فيه رائجاً (على الموضة). ولقد أعلنت نفسي تلميذاً لهذا المفكر الكبير، وفي الفصل الذي كتبته حول نظرية القيمة ذهبت في غير مكان من النص إلى حد اعتناق طريقته في التعبير عن نفسه. فالطابع التصوفي الذي يتخذه الديالكتيك بين يدي هيغل لا يقلل أبداً من كونه أول من عرض، بمثل هذا الاتساع والوعي، الأشكال العامة للحركة. إن الديالكتيك عند هيغل يقف على رأسه ومن أجل أن نكتشف نواته العقلية وراء غلافه التصوفي لا بد من إيقافه على قدميه”.
وإذا أردنا أن نفكك هذا النص الماركسي إلى عناصره الأولية لا يصعب علينا أن نتبين حقيقة نظرة ماركس إلى الديالكتيك الهيغلي. إنها نظرة تنطلق كما هو واضح من التمييز بين هذا الديالكتيك كمنهج وبين الفلسفة التي تحيط به وتشكل إطاره كحقل تطبيق. هكذا يرى ماركس في المنهج الديالكتيكي الهيغلي نواة عقلية صحيحة تستحق الاقتباس، فيما يرى في المنظومة الفكرية الفلسفية الهيغلية التي تغلف هذا المنهج منظومة مثالية تستحق الرفض. ولكن كيف يمكن الفصل هنا بين المنهج وبين المنظومة الفلسفية التي تغلفه بحيث يصبح متيسراً استخراج النواة العقلية “الثمينة” من الغلاف المثالي الرديء”؟ هنا يأتي مفهوم “القلب” أو الانقلاب الذي يدعو ماركس إلى إحداثه في اتجاه الديالكتيك الهيغلي، معتبراً أنه بمجرد أن يتصحح هذا الاتجاه ويصبح ديالكتيك هيغل واقفاً على قدميه (بدلاً من وقوفه على رأسه) فسنحصل على ديالكتيك مادي صائب بدلاً من الديالكتيك المثالي الخاطئ. هذا التصور الماركسي المبسط لإمكان وكيفية تحويل ديالكتيك هيغل من مثالي إلى مادي يبدو بالنسبة إلينا مخطئاً من أكثر من زاوية. فمن ناحية أولى لا يمكن التسليم مع ماركس بأن العلاقة الفعلية بين الديالكتيك الهيغلي وبين المنظومة الفلسفية الهيغلية هي مجرد علاقة بين نواة (عقلية) وغلاف (تصوفي). بل يبدو لنا منهج الديالكتيك الهيغلي مندمجاً بالإيدلوجية الهيغلية ومتناسباً معها، مما يجعلنا نذهب إلى حد اعتباره هو أيضاً منهجاً مثالياً من أساسه. والحقيقة أن الصيغة الاختزالية التبسيطية التي يتخذها الديالكتيك الهيغلي على الدوام (صيغة الإثبات والنفي ونفي النفي) تؤكد في حد ذاتها طبيعته المثالية. فهذه الصيغة يمكن أن تشكل أساساً لتصور حركة الفكرة في العقل، لكنها قاصرة عن أن تشكل أساساً فعلياً للإلمام بحركة الواقع في العالم. ذلك أن حركة الواقع تتخذ أشكالاً مركبة معقدة لا يمكن أن يحيط بها التبسيط الذي تنطوي عليه ترسيمة: الإثبات والنفي ونفي النفي، بل يشكل التبسيط هنا أقصر الطرق نحو ابتعاد مقولات الفكر عن عناصر الواقع.
ومن ناحية ثانية لا نرى في الوسيلة التي يقترحها ماركس لتحويل الديالكتيك الهيغلي من مثالي إلى مادي وسيلة ناجعة حقاً. فهو يتصور أنه حين “يقلب” اتجاه الفلسفة المثالية ليجعلها تقف على قدميها، يستطيع أن يحصل من “انقلابها” هذا على المادية. وأقل ما يقال في هذا التصور أنه غير واقعي. ذلك أن تبديل اتجاه أي “جسم” مع بقاء بنيته كما هي لا يغير من طبيعته شيئاً. وكذلك هي الحال مع الديالكتيك الهيغلي. إن الاكتفاء بتغيير اتجاه هذا الديالكتيك لا يغير طبيعته المثالية أو مضمونه التصوفي. بل لا بد من أن يصل التغيير حد تفكيك بنية الديالكتيك نفسه حتى يصبح ممكناً الحديث عن تبدل فعلي في وظيفته.
وهنا يجدر القول أنه لا يوجد ضمن مؤلفات ماركس أي كتاب يحمل عنواناً مستقلاً “حول الديالكتيك” يمكن الرجوع إليه للإلمام بالفهم الماركسي المختلف عن الفهم الهيغلي لبنية الديالكتيك، بل نحن نقرأ في هذه المؤلفات الإعلان الموجز المتكرر دائماً عن “قلب” الديالكتيك الهيغلي لإيقافه على قدميه (بدلاً من وقوفه على رأسه). وإذ يبدو لنا هذا الإعلان غير كافٍ في حدِّ ذاته للدلالة على استبدال بنية الديالكتيك الهيغلي ببنية أخرى بديلة، يصبح من حقنا القول إن ما فعله ماركس في النهاية هو تطبيق الديالكتيك الهيغلي المثالي نفسه، في صيغته الاختزالية التبسيطية، على العالم الواقعي. أي أننا أمام استعارة ماركسية للديالكتيك الهيغلي ترتاد محاولة تطبيقه كما هو على الحياة بدلاً من تطبيقه على الفكرة (كما كانت حاله مع هيغل). هذا التطبيق الماركسي للديالكتيك الهيغلي المثالي على الحياة والواقع أنتج لدى ماركس لوناً من فلسفة التاريخ يشكل في الحقيقة الوجه الآخر لفلسفة التاريخ التي قال بها هيغل.
يفسر هيغل الحياة المادية والتاريخ الملموس للشعوب بالحركة التي يسلكها ديالكتيك الوعي عند هذه الشعوب (وعي الشعب نفسه يرادف أيديولوجيته). وإذا أردنا الاندفاع وراء الإيجاز المبسط نستطيع القول أننا نجد عند هيغل مفهوماً للمجتمع يقسمه إلى إثنين: مجتمع الحاجات (الاقتصاد)، والمجتمع السياسي أو الدولة، بكل ما يتجسد في الدولة من دين وفلسفة ووعي للذات. أي بكلمة أخرى فإن لكل مجتمع حياتين: حياة مادية من ناحية وحياة روحية من ناحية ثانية. وحين نمعن النظر في هيغل نجده يعتبر الحياة المادية (الاقتصاد) مجرد حيلة من حيل العقل، أي مجرد انعكاس للحياة الروحية مجسدة في الدولة. ففي فلسفة التاريخ عند هيغل يشكل العامل السياسي ـ الإيديولوجي الجوهر فيما يشكل العامل الاقتصادي المظهر. هكذا يصبح تاريخ كل مجتمع محكوماً بالديالكتيك الذي تتطور بموجبه حياته الروحية. ووفق هذا الديالكتيك تتوالد الفكرة من نفسها في أزمنتها المتعاقبة عبر التاريخ (من الإثبات إلى النفي إلى نفي النفي) وصولاً إلى سيادة العقل المطلق متحققاً في الدولة كنهاية لتطور المجتمع أي كمحطة وصول أخيرة لمسيرة تاريخه.
وحين نعود إلى ماركس لا يصعب علينا أن نجد لديه لوناً من فلسفة التاريخ في صيغة هيغل “مقلوباً”. ففيما يشكل السياسي ـ الإيديولوجي جوهر الاقتصادي عند هيغل، يشكل الاقتصادي كل جوهر السياسي ـ الإيديولوجي عند ماركس، ليصبح السياسي ـ الإيديولوجي مجرد مظهر للاقتصادي حيث تكمن “الحقيقة”. ويحل مبدأ الحياة المادية لدى ماركس محل مبدأ الوعي لدى هيغل، بصفته المبدأ الوحيد الذي يمكن أن نعقل من خلاله بصورة شاملة كل التحديدات المتعلقة بشعب عبر التاريخ.
هكذا نجد أنفسنا أمام فلسفة تاريخ ديالكتيكية ماركسية مماثلة من حيث المنهج لفلسفة التاريخ الديالكتيكية الهيغلية مع فارق في موضوع هذه الفلسفة. إذ لا نعود مع ماركس أمام توالد الأزمنة المتعاقبة للفكرة ـ كما هي الحال مع هيغل ـ بل نصبح أمام توالد الأزمنة المتعاقبة للاقتصاد بفضل مبدأ التناقض الداخلي الهيغلي نفسه (مبدأ الإثبات والنفي ونفي النفي). مما يصل بنا، عند ماركس، إلى الاختزال الجذري لديالكتيك التاريخ في ذلك الديالكتيك المولد لأنماط الإنتاج المتعاقبة (حيث كل واحد منها ينبثق من رحم الآخر) أي المولد لتقنيات الإنتاج المختلفة في نهاية المطاف. وهو، هذا الاختزال، ما اصطلح على تسميته منذ نهاية القرن التاسع عشر الاقتصادوية.
3 ـ في التصور الماركسي للدين
لا نرمي طبعاً ضمن هذه الفقرة القصيرة إلى الإلمام بكل موضوع الدين أو الإحاطة بكل الموقف الذي اتخذته الماركسية من الدين. بل نريد الاكتفاء بملاحظة أساسية وحيدة موصولة هي أيضاً بما نعتبره أثراً فعلياً تركته فلسفة هيغل على أفكار ماركس. وفي هذا المجال لا نجد حاجة إلى تفصيل القول أن فلسفة التاريخ عند هيغل هي فلسفة ميتافيزيكية بامتياز. ذلك أن تحقق العقل عند هيغل يوازي “دخول الله إلى العالم” و”تحققه” فيه حسب نظرة الدين (المسيحي في هذه الحال) إلى التاريخ: من الخطيئة الأصلية الأولى إلى الخلاص البشري الأخير. أما فلسفة ماركس فمن المعروف أنها اتخذت الإنسان (بديلاً من الله) موضوعاً لها، وحكمها التطلع نحو قيمة إنسانية مستقبلية مطلقة نظرت إليها في صيغة قفزة للإنسان من “مملكة الضرورة” إلى الحرية في صيغة الشيوعية. وهنا يمكن القول أن الماركسية مارست في الواقع نوعاً من التأليه للإنسان جاعلة منه مادة دين آخر. أي بكلمة أخرى أسبغت الماركسية على الإنسان صفات كاملة وأعطته أبعاداً مطلقة هي في الواقع غريبة عن طبيعته. وإذ أصبح الإنسان إلهاً آخر في نظر الماركسية فإن الإلحاد عندها اكتسب معنى معيناً جعل منه ديناً آخر في نهاية المطاف. فالتشبث الإلحادي بالنفي المطلق للدين تحول هنا إلى نوع من “الإيمان” الشبيه بالإيمان الديني.
لذا وجدنا العلمانية، التي انطلقت مع عصر النهضة والتنوير، أكثر نجاحاً بكثير من الدعوة الإلحادية في إعادة الدين إلى مكانه المحدود وحجمه الطبيعي، ضمن المجتمع المدني، تحت شعار فصل الدين عن الدولة. أي أن اللامبالاة العلمانية بالدين كانت أكثر قدرة على تحرير المجتمع من غيبياته، من الدعوة الإلحادية التي جعلت المقارعة العنيدة للدين مهمة أساسية مطلقة لفلسفة تأليه الإنسان. وهو ما أتى يشهد عليه الفارق الملموس بين الموقع الثانوي الذي أصبح للدين في المجتمعات الغربية العلمانية، وبين الموقع الرئيسي الذي عاد الدين يحتله في ظل “الأنظمة الشيوعية” كرد فعل على التبشير الإلحادي المتخذ صيغة دين آخر.
4 ـ في المفهوم الاقتصادي للمادية التاريخية
كانت الاقتصادوية تعنى دائماً في السجالات الفكرية داخل منظمتنا وفي سجالاتها مع الآخرين، انحرافاً عن ماركسية ماركس الأصلية. لذا تبدو النقلة كبيرة في وعينا وطرحنا الفكريين حين نقرر، هذه المرة، أن المادية التاريخية، كما أتى بها النص الماركسي الأصلي، هي مادية اقتصادوية.
لقد أرسى ماركس المدماك الأول للمادية التاريخية في حقل الاقتصاد منطلقاً من ملاحظة تطور قوى الإنتاج وانعكاسه على العلاقات الاجتماعية وتأثيراته على البنية الفوقية. حجر الزاوية في المادية التاريخية كان إذن في أولوية تطور قوى الإنتاج، أي أن العامل الاقتصادي هو العامل الحاسم في تطور البشرية على قاعدة الانتقال المتوالي من نمط إنتاج قديم إلى نمط إنتاج جديد.
هكذا يبدو تطور قوى الإنتاج الأساس المحرك للتاريخ لدى ماركس، أما وجهة هذه الحركة فتتمثل في تعاقب لأنماط الإنتاج وفق ترسيمه تعلن حتميات تاريخية ولا تكتفي بتسجيل إمكانات أو ضرورات اجتماعية. مما يحق لنا معه أن نعتبر أن المادية التاريخية ـ وفق ماركس ـ قاربت لوناً من فلسفة التاريخ تنظر إليه وفق مخطط مرسوم له بداية ويتجه نحو نهاية ورتبت لوناً من “القدرية” و”الإنتظارية الحتمية” لإنهيار النظام الرأسمالي. ذلك كله يدفعنا إلى طرح سؤال استطرادي حول مكان الحرية في التاريخ: هل للتاريخ اتجاه حتمي أم أن للتاريخ معنى وضمنه بدائل وفي مسيرته مقدار من الحرية البشرية؟ ـ في الجواب عن هذا السؤال نقترح الوجهة القائلة أن للتاريخ معنى، وليس اتجاهاً وحيداً، وإنه تحت هذا المعنى هناك مجموعة بدائل اقتصادية، سياسية، ثقافية، واجتماعية، وحين نريد أن نفهم التاريخ يجب أن يتجه فهمنا إلى وجهة البحث عن العوامل التي أدت إلى انتصار بديل تاريخي معين وتلك التي أدت إلى إضعاف ما عداه. فبذلك لا يعود التاريخ إلها ولا تعود محكمته ذات قوانين حتمية مطلقة لا ترد.
ومن نقطة المكان الذي يجب أن يكون للحرية في التاريخ نطل على قضية الصراع الطبقي لنتساءل: هل صراع الطبقات هو مجرد رافعة وقابلة لتوليد ما يتحقق على صعيد اقتصادي محض؟ أم أن صراع الطبقات، الناشب والمتوالي على قاعدة تضافر مختلف العوامل وفي طليعتها الاقتصادي، هو المجرى الرئيسي لتطور التاريخ؟ وبكلمة أخرى هل التاريخ هو تاريخ تطور قوى الانتاج المختزل اقتصادياً أم هو تاريخ صراع الطبقات المركب اجتماعياً؟ – في الجواب عن هذه الأسئلة نقترع للوجهة القائلة أن صراع الطبقات هو الإطار الأشمل للتطور التاريخي. وإلى ذلك نضيف أن العلاقة تبدو لنا متداخلة تداخلاً شديداً بين مختلف جوانب البنية الاجتماعية، مثلما تبدو لنا طبقات التشكيلة الاجتماعية وفئاتها وكتلها في حال توالد دائم بعيداً عن نبوءة الاستقطاب الحاد الذي سيقسم المجتمع إلى طبقتين. مما يفرض بحثاً دائماً في معنى الطبقة (أي الطبقات) وصيغة تشكلها وعوامل هذا التشكل في كل حقبة من حقبات تطور التشكيلة الاجتماعية. وبهذا المعنى، وبالتواصل مع وعي مكانة الحرية في التاريخ، نصبح أمام تطور تاريخي تلتقي فيه الضرورة بالحرية عند نقطة الصراع الطبقي، هذا الصراع الذي لا يقرر مصير التشكيلة الاجتماعية فقط بل ومسار تطور قوى الإنتاج أيضاً. ورب قائل هنا أن صراع الطبقات يحتل مكاناً أساسياً ضمن النص الماركسي الأصلي، وهذا صحيح تماماً. إلا أن الصحيح أيضاً هو أن الصراع الطبقي لدى ماركس يظل مشدوداً إلى فهم للعلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، تشكل فيه هذه الأخيرة مجرد انعكاس للأولى. وبهذا المعنى تفقد البنية الفوقية صعيد تطورها الخاص، مثلما تفقد العلاقة “الجدلية” المفترضة بينها وبين البنية التحتية “جدليتها” تحت سقف التعاقبية الميكانيكية لأنماط الإنتاج التي تشكل أساس جنوح المادية التاريخية نحو الاقتصادوية.
على أن نقدنا لهذا الجنوح الذي عرفته المادية التاريخية نحو الحتمية القدرية والتاريخانية المتصلبة والاقتصادوية الميكانيكية، لا ينال أبداً من الأهمية التي نراها كبرى لدور العامل الاقتصادي في تقرير مسار تطور التشكيلات الاجتماعية. فالبحث من جانبنا يستهدف أساساً وضع الاقتصاد في مكانه الفعلي من مجمل العملية الاجتماعية. وهو ما يدفعنا إلى القول أن الاقتصاد عامل أساسي في تطور البنية الاجتماعية، لكنه ليس العامل الوحيد المقرر. أنه يفعل من ضمن بنية اجتماعية معقدة تتبادل التأثير بين مختلف مستوياتها وصعدها الثقافية والسياسية والإيديولوجية والاقتصادية ليترتب على ذلك قيام “الكل الاجتماعي” في نهاية المطاف. هذه اللوحة المركبة المتداخلة التي نراها أكثر انطباقاً على كل تشكيلة اجتماعية لا يستقيم الأخذ بها مع اقتصادوية المادية التاريخية: لا في التعاقب النمطي الإنتاجي الذي افترضته، ولا في الاستقطاب الطبقي الحاد الذي توقعته، ولا في طبيعة المجتمع الشيوعي المبسط الذي بشرت به.
5- في الطبيعة المبسطة للمجتمع الشيوعي
إذ تضع الماركسية قيام المجتمع الشيوعي غاية سيفضي إليها التطور التاريخي الموضوعي، فإنها ترسم لهذا المجتمع لوحة يبرز منها خطان أساسيان: زوال الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وانطفاء الدولة. هكذا تبدو النظرية السياسية الماركسية مؤسسة على مقولتين: المقولة الأولى تشير إلى أن الدولة تولد من انقسام المجتمع إلى طبقات، والمقولة الثانية تؤكد أنه ما أن يزول انقسام المجتمع إلى طبقات حتى تتوافر الأسس اللازمة لانطفاء الدولة بل السياسة إجمالاً.
ولا يصعب علينا أن نلاحظ هنا أن النقطة المركزية في “العقيدة الشيوعية” تتمثل على هذا الصعيد في التعارض بين الدولة والحرية. لذا يقول أنجلز “أن الحديث عن الدولة الشعبية الحرة هو مجرد لغو: فالبروليتاريا لا تحتاج للدولة من أجل تعزيز الحرية بل من أجل سحق أعدائها. وعندما يصبح الحديث عن الحرية ممكناً فإن الدولة تكون كفت عن الوجود”.
وإذ تتمحور النظرية الماركسية حول التعارض بين الدولة والحرية، فإنها تقترب في هذا المجال من الفوضوية. ويكمن الفارق بين النظرية الفوضوية لدى ماركس وأنجلز وبين سائر النظريات الفوضوية، في كون الفوضوية غير الماركسية تنشد الإلغاء الفوري لجهاز الدولة عبر ثورة البروليتاريا، فيما تعلن الفوضوية الماركسية أن الهدف المباشر هو تشريك وسائل الإنتاج، هذا التشريك الذي ستكون نتيجته الحتمية زوال الدولة أوتوماتيكياً. وإذا كان استحضار النظرية السياسية الماركسية على هذا النحو يشكل نوعاً من الصدمة لأفكارنا، فإن ذلك لا يقلل البتة من صحته. وما قلناه آنفاً لا يتطابق مع طروحات ماركس وأنجلز فقط بل هو يتفق مع طروحات لينين في كتاب “الدولة والثورة” أيضاً وأساساً. ففي هذا الكتاب نجد لينين يعنى عناية فائقة بجلاء نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف بين الماركسية والفوضوية حول نظرية الدولة، مثلما نجده لا يغفل الإشارة إلى الفجوة القائمة بين الماركسية “اللادولتية” وبين “الدولتية” التي يقول بها قسم كبير من الاشتراكية الديمقراطية الألمانية.
هكذا نستطيع أن نتلمس حجم وهم المجتمع المتجانس في الطبيعة المبسطة للشيوعية كما أتى بها النص الماركسي الأصلي. فبمجرد أن يتم إرساء الأسس الاقتصادية الضرورية تنطفئ الدولة وتختفي، لأنه حين يتحقق زوال الملكية الخاصة ومعه انقسام المجتمع إلى طبقات، تزول ـ حسب الماركسية ـ كل دوافع الانقسام بين البشر. مما يعني أن ماركس اعتبر إزالة الملكية الخاصة وتشريك وسائل الإنتاج عنصرين كفيلين بتوفير أساس قيام مجتمع متجانس تجانساً مطلقا، ومتضامن بعيداً عن الصراعات والمصالح المتعاكسة. إذ أنه كان يعتقد أن الأساس الوحيد للتمايز والاختلاف في المصالح يكمن في نظام الملكية وبمجرد زوال هذا الأخير فإن المجتمع الجديد سوف يتسم حتماً بسمة المصلحة الموحدة المشتركة بين الجميع. وتأسيساً على ذلك لا بد أن تنطفئ السياسة، إذ أن صيرورة المصلحة الاجتماعية مصلحة واحدة يلغي كل ضرورة للتوسط بين المصالح وللموازنة بين الغايات، أي يلغي وظيفة السياسة نفسها. وفي الظروف الجديدة (للمجتمع الشيوعي) لا يبقى من وجود إلا للمسائل وللبدائل المتمحورة حول “الوسائل” الكفيلة بتأمين الوصول إلى “الغاية الواحدة”. وهو ما يجري التعبير عنه في مصطلح “إدارة الأشياء”، حيث يتم حل المسائل المتعلقة بالبدائل المتمحورة حول “الوسائل” حلاً تقنياً علمياً مرتبطاً بكفاءة الخبراء.
هذه اللوحة المبسطة للمجتمع الشيوعي تغري بالنقد السهل. على أن ما نريد إبرازه من هذا النقد هو ما يتصل بالتناقض النافر بين النظرية الاقتصادية والنظرية السياسية في الماركسية. فالنظرية الاقتصادية الماركسية تدفع إلى تصور مجتمع شيوعي يتم فيه إرشاد وتوجيه مسار الإنتاج وجملة الوظائف الاجتماعية انطلاقاً من مركز قيّم على تنفيذ مخطط توحيدي عملاق، فيما النظرية السياسية الماركسية، كما صاغها ماركس ووسعها أنجلز، تعلن انحيازها إلى مثال أعلى فوضوي بصراحة. ولعل هذا التناقض هو ما دفع البعض إلى اعتبار الماركسية “اشتراكية دولة” ودفع البعض الآخر إلى اعتبارها لوناً من “الفوضوية”.
والحقيقة أن النص الماركسي الأصلي لا يترك أي مجال للشك في وجود هذا التناقض على صعيد رسم الطبيعة المبسطة للمجتمع الشيوعي. يقول أنجلز أنه حين تستولي البروليتاريا على سلطة الدولة تحول وسائل الإنتاج في البداية إلى ملكية للدولة. لكنها تلغي بذلك نفسها كبروليتاريا مثلما تلغي كل الفوارق والتعارضات بين الطبقات لتلغي الدولة كدولة أيضاً وعلى السواء. وهنا نضع الأصبع على التناقض. فالدولة ينبغي أن تلغى في الوقت الذي تكون فيه صلاحياتها أصبحت مطلقة من خلال إشرافها المحكم على كل الاقتصاد. وفي كتابه “الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية” يقول أنجلز: “بمقدار ما تختفي فوضى الإنتاج الاجتماعي بمقدار ما تزول وتختفي السلطة السياسية للدولة”. أي أن أنجلز يتخيل مجتمعاً تتم فيه مركزة الإنتاج ويتحقق توجيهه عبر مخطط شامل كأنه مصنع كبير واحد، ويتخيل في الوقت نفسه إمكان اختفاء سلطة الدولة وإدارتها في هذه الظروف من المركزة والتوجيه بالضبط. وتزداد المفارقة وضوحاً في أذهاننا حين نتذكر أن أنجلز، القائل مع ماركس بزوال الدولة سياسياً في ظل مركزة المجتمع اقتصادياً، يتمتع برؤية واقعية نيرة لدرجة الانضباط الحديدي والتنظيم السلطوي اللذان تفرضهما الصناعة الحديثة.
وإذ نختم هذه الملاحظات لا تفوتنا الإشارة إلى أن سمات “اليوتوبيا” المثالية تبدو واضحة على هذه اللوحة المبسطة التي يرسمها النص الماركسي الأصلي للمجتمع الشيوعي.
6 ـ في حدود التمييز
بين اشتراكية علمية واشتراكية مثالية
ننطلق في طرح مسألة التمييز بين اشتراكية علمية واشتراكية مثالية من الملاحظة الفكرية الآتية: أن تعيين الوسائل اللازمة لتحقيق غاية مفترضة سلفاً هو بالتأكيد مهمة علمية، لأن العلاقة بين الوسائل والغايات هي علاقة بين أسباب ونتائج، ومعرفة هذه العلاقة هي وظيفة مخصوصة للعلم. لكننا لا بد من أن نعين أولاً غاية محددة حتى يصبح بحثنا في إيجاد الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الغاية بحثاً ذا موضوع فعلي، وتعيين الغاية ليس وظيفة علمية. أن هذا التعيين ليس ولا يمكن أن يكون مهمة علم موضوعي، لأن الغاية المبنية على حكم قيمي تتسم ـ في نهاية التحليل ـ بطابع ذاتي.
وعلى هذه الملاحظة الفكرية نود أن نرتب خلاصة مؤداها أن “الاشتراكيات” لا تتمايز فعلياً على صعيد منهج تحديد غاياتها وأهدافها. فهي جميعاً، على هذا الصعيد، “اشتراكيات مثالية” بمعنى من المعاني. إذ هي تنبع من أصل مشترك يقوم على التطلع إلى مجتمع ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان ويزول فيه تحكم الإنسان بالإنسان. وبعد الجولة التي جلناها فهما لتناقضات النص الماركسي الأصلي وإلماما بـ “المثالية الشيوعية” المبسطة أو التبسيطية، أصبحنا أقدر على الجزم بأنه لا وجود، على مسستوى المنهج المستخدم لتحديد الغايات والأهداف، لاشتراكية علمية في مقابل أخرى مثالية. فالاشتراكية التي أعلنت نفسها “علمية” تنطلق ـ كما سبق وأوضحنا ـ في تحديد غاياتها وأهدافها من أحكام قيمية، وهي تسقط هذه الأحكام على الواقع قبل أن تشرع في تحليله، بل لنقل أنها تحلله وفقاً لخلفية قيم معينة.
ولكن، إذا كنا لا نستطيع التمييز ـ على صعيد منهج تعيين الغايات والأهداف ـ بين اشتراكية علمية وأخرى مثالية لأن كل الاشتراكيات تبدو لنا على هذا الصعيد “مثالية”، فإن باستطاعتنا التمييز ـ على صعيد منهج فهم وتحديد الوسائل الكفيلة بتحقيق غايات مفترضة سلفاً ـ بين اشتراكية تتوسل العلم حقاً وبين اشتراكية لا تتجاوز التبشير أبداً.
لقد انطلقت اشتراكيات القرن التاسع عشـر ـ تكراراً ـ من أصل مشترك هو التطلع إلى مجتمع ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان ويزول فيه تحكم الإنسان بالإنسان، ومن هنا كان عليها أن تعالج مسألة تغيير طابع علاقات الإنتاج من ناحية وطبيعة السلطة السياسية من ناحية. وهنا، في هذا المجال بالضبط، تمايزت اشتراكيات القرن التاسع عشر فيما بينها وظهر الفارق واضحاً بين “اشتراكيات” نحت منحى التبشير عبر محاولات بناء “نماذج” فكرية أو عملية للمجتمع الاشتراكي الموعود والتبشير بها لاجتذاب جمهرة العمال والكادحين إليها، وبين الاشتراكية الماركسية التي سعت إلى رسم طريق الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية عبر تحليل الواقع الاجتماعي وتبيان الوسائل الكفيلة بتغييره. لذا يحق لنا القول إن الاشتراكية الماركسية شكلت أضخم محاولة فكرية لاستخدام العلم في سبيل تعيين الوسائل اللازمة لتحقيق غايات معينة. ونحن نشير هنا إلى الآفاق التي ارتادتها الاشتراكية الماركسية كعلم اجتماع (نكرر القول أنه كان منحازاً أخلاقياً وأنه ليس كالعلوم الطبيعية) في مجالات دراسة أواليات الاقتصاد الرأسمالي، وخصائص التشكيلة الاجتماعية الطبقية الرأسمالية، (والتشكيلات الاجتماعية الطبقية عموماً)، وحركة الصراع الطبقي، وكل ذلك على قاعدة التسلح بالمعارف العلمية التي كان العصر أنتجها في كل الميادين. وإذا كان المنهج الذي استخدمته الماركسية والاستخلاص الذي انتهت إليه في المجالات المشار إليها خالطتهما أخطاء فكرية أساسية عرضنا عينات منها في الفقرات السابقة، إلا أن الماركسية تظل تبدو بالنسبة إلينا أقرب إلى توسل العلم في فهم طريق الوصول إلى الاشتراكية من أي اشتراكية أخرى. وهو، هذا التمايز، ما يفسر على أي حال جانباً من الطابع الاستثنائي للدور الضخم الذي لعبته الماركسية في تاريخ الاشتراكية، فكرة وحركة، مما لا نجد له مثيلاً لدى سائر المدارس والمذاهب والتيارات الاشتراكية.
ب ـ موقع الماركسية ضمن الحركة الاشتراكية
نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين:
النص الماركسي الأصلي على محك التاريخ
تختلط ولادة النص الماركسي ـ الأصلي بولادة الأممية الأولى التي كانت التعبير الأكثر تقدماً عن محصلة الحركة الاشتراكية منتصف القرن التاسع عشر. وغني عن القول أننا نتحدث هنا عن حركة اشتراكية شكلت أوروبا (الغربية) مهدها الأول. ومع الأممية الأولى، ودور ماركس (وأنجلز) ضمنها، بدا النص الماركسي الأصلي يخترق بطروحاته أفكار الحركة الاشتراكية ويبني لنفسه مكاناً ضمن أحزابها ومختلف مكوناتها وروافدها. أما الأممية الثانية، التي تعودنا أن نقرأها مستخدمين نظارات الأممية الثالثة، فإنها كانت بحق أممية النص الماركسي الأصلي بامتياز. أي أن ما يجب رد الاعتبار إليه هو الواقع التاريخي الذي يشير إلى الغلبة شبه الكاسحة التي حققتها الماركسية ضمن الحركة الاشتراكية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهو ما اتخذ صيغة سيطرة ماركسية شبه كاملة على الأممية الثانية. مما يعني أننا حين نريد أن ندرس اليوم عوامل فشل الأممية الثانية وانهيارها لا بد من أن نتجاوز الأفق الضيق للحكم الذي تحبسنا ضمنه الأممية الثالثة (اللينينية) في تلخيصها كل مشكلة الأممية الثانية ضمن حلقة البحث في سؤال وحيد: هل ارتكبت الأممية الثانية “الخيانة العظمى” أم لا؟
هذا السؤال، الفرعي، هو ما يجب أن نستبدله بالسؤال الأصلي: ما هي دلالات انهيار الأممية الثانية بصفتها التشكيل التنظيمي الذي حمل المشروع الماركسي ضمن الحركة الاشتراكية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ودق أبواب الحقيقة في أوروبا (الغربية) خلال تلك الحقبة؟ وغني عن القول أن هذا السؤال يجب أن يقودنا إلى إمعان النظر في النتائج التي أفضى إليها وضع النص الماركسي الأصلي على محك التاريخ خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين.
ولعل أول ما يبرز أمامنا هنا هي تلك المفارقة الواسعة، بل المتسعة حثيثاً، بين وقائع التطور الطبقي في أوروبا (الغربية) وبين توقعات المشروع الماركسي. لقد رسمت التوقعات الماركسية منحى للتطور في أوروبا مسوقاً بالحتمية إلى أن يأخذ شكل الاستقطاب الاختزالي الحاد للمجتمع بين طبقتين متناحرين (البورجوازية والبروليتاريا) أولاً، وإلى أن يسلك طريق الصراع الطبقي المتصاعد باستقامة نحو الانفجار الأكيد ثانياً، مما يرتب انتفاء احتمال قيام تسوية طبقية وازنة أو راسخة أو تاريخية ثالثاً وأخيراً. فهل ترانا في حاجة إلى طويل شرح لتبيان الحقيقة القائلة أن تطور المجتمعات الرأسمالية في أوروبا (الغربية)، أي في حقل توقعات النص الماركسي الأصلي، اتخذ اتجاهاً أكثر تعقيداً بكثير من ذلك الذي تنبأ به البيان الشيوعي وأتت الماركسية بمجملها تقطع بحصوله. هذه المفارقة تنال جوهرياً من النص الماركسي الأصلي الذي لم يتردد أصحابه في تقديمه على أنه تحقيق علمي مجرد حول الحتمية التاريخية الزاحفة، في مدى منظور، على الرأسمالية في أوروبا (الغربية) متخذة صيغة انهيار لا مرد له. وبهذا المعنى تصبح أزمة الماركسية أزمة أصلية لا يدل عليها انهيار النموذج السوفياتي (ومشتقاته) فحسب، بل أن مفاعيلها ومضاعفاتها تبدأ مع النص الأول لتتأكد مع التجربة الأخيرة. يشهد على صحة ما نقول اندلاع السجالات النظرية الكبرى، في ظل المفارقة المتسعة بين الوقائع والتوقعات خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين، في صفوف الماركسيين أنفسهم فضلاً عن السجالات بينهم وبين سائر الاشتراكيين. وهو ما يستحق منا وقفة أطول بالنظر إلى أن مقولة “أزمة النص الماركسي الأصلي” هي مقولة جديدة في نظرتنا النقدية للماركسية.
ولعله من المفيد أن ننطلق هنا من ملاحظة أن ما تضمنه البيان الشيوعي، وأشار إليه ماركس، حول الطبقة – الحزب، أي حول صيرورة البروليتاريا بمجملها حزباً يدق أبواب الاستيلاء على السلطة، لم يتحقق في أي مكان على هذا النحو المبسط. بل شهدنا في كل مكان قيام نقابات عمالية من ناحية وأحزاب اشتراكية من ناحية ثانية، مما طرح باكراً مسألة العلاقة بين النضال الاقتصادي (الإصلاحي) والنضال السياسي (الجذري) على بساط البحث النظري والواقع العملي في آن. وتجدر الإشارة هنا إلى منوعات العلاقة هو ما شهدته بريطانيا حيث تأسس حزب العمال من اتحاد النقابات أساساً، وكان هناك نموذج ثانٍ للعلاقة هو ما شهدته ألمانيا حيث نشأ تقابل بين الحزب والنقابة، وكان هناك نموذج ثالث للعلاقة هو ما شهدته فرنسا من انفصال فعلي بين الحزب والنقابة. وعلى أي حال، ومهما يكن من أمر هذه المنوعات، ينبغي القول أنه منذ أن بدأت الحركة الاشتراكية تتقدم ويتأكد نفوذها، أخذت تواجه تحدي ومسؤولية اتخاذ خيارات ملموسة على صعيد الواقع، مما بدأ يؤشر إلى انفصام متزايد بين “المثالي” و”الراهن الممكن”. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يشكل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني مسرح السجالات الأكثر أهمية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ذلك أنه كان الأقوى بين أقرانه والأكثر اقتراباً من عالم الإنجاز. ومن دون انزلاق إلى أي استعادة مستفيضة لهذه السجالات. نشير إلى أنها طاولت كل العناوين الأساسية: مدى صحة التنبؤ بانهيار وشيك للرأسمالية، مسار الصراع الطبقي، صيغة الحزب ودور النقابات، ديكتاتورية البروليتاريا، وزن “كومونة باريس” كمرجع لرسم لوحة ديكتاتورية البروليتاريا، قضية الديمقراطية، وكل ما يقع تحت عناوين: الماركسية والفلسفة والاقتصاد والسياسة.
وبرزت إلى المقدمة قضايا العلاقة بين العمل النقابي والحركة التعاونية والتنظيم السياسي، والعلاقة بين الإصلاح والثورة كبديلين، ومستتبعات النجاحات الانتخابية الاشتراكية (على صعيد الموقف من الحكومات خصوصاً)، ومسألة التحالفات وطبيعة الحزب: هل يكون حزباً للبروليتاريا أم لـ “الشعب” كله؟ والحقيقة أن اندلاع السجالات حول هذه المواضيع، وسواها، كان مؤشراً إلى الفجوة الناشئة ثم المتسعة بين الاعتقاد الذي ظل مسيطراً بضرورة التغيير الإجمالي والجذري للمجتمع وبين الإمكانات المتزايدة لتحقيق تحولات ملموسة داخل المجتمع الرأسمالي. فحين يحقق حزب يمثل “القوى العاملة” نمواً ونفوذاً كبيرين وازنين في مجتمع معين، لا يعود بمقدوره أن يكتفي بإدانة الاستغلال الرأسمالي وإعلان ضرورة (أو حتمية) قيام مجتمع جديد، بل يصبح مأخوذاً على نحو متزايد بمنطق النضال داخل المجتمع الرأسمالي: من أجل زيادة الأجور (رفع القوة الشرائية)، وتنظيم العمل، وتخفيض ساعات العمل، والضمانات الاجتماعية، والتعليم، والحريات… وتعيش أغلبية الأحزاب هذا الواقع في صيغة انفصام بين النظرية والممارسة، ويحاول بعضها الخلاص من هذا الانفصام إما بالاقتراع لصالح غلبة النضالات المباشرة واما بتغليب وجهة الدعوة الى قلب النظام الرأسمالي، فيما يحاول البعض الآخر درء الانفصام من خلال المزاوجة بين الممارسة اليومية المتجهة نحو الإنجازات المباشرة وبين الخطاب الثوري الداعي إلى الإنجاز الجذري الأخير، مما يجعل الإصلاحات على جدول أعمال اليوم ويحيل الثورة إلى مهمة يتكفل بها مستقبل غير منظور. أما النجاح في تحقيق التمفصل اللازم بين النضالات المباشرة وبين آفاق التغيير الجذري فإنه يبقى عزيز المنال.
هكذا واجه النص الماركسي الأصلي المفعم بنبوءة الاستقطاب الطبقي الاختزالي الحاد والمسكون بتصور للصراع الطبقي يراه صاعداً باستقامة نحو الانفجار الحتمي ضمن الأفق المنظور، واجه هذا النص منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر لوحة طبقية مختلفة مختلطة تطرح السؤال الرئيسي الآتي: كيف يمكن التوصل إلى تصور تحول إجمالي للمجتمع مغروس الجذور في نضالات الحاضر، وكيف يمكن فتح المطالب والنجاحات المباشرة على أفق قيام مجتمع جديد؟
لقد ظهر بوضوح مقدار الوهم الذي كان ينطوي عليه الافتراض القائل بوجود اتجاه حتمي أحادي نحو الإفقار المطلق ونحو صيرورة البروليتاريا أغلبية كاسحة على قاعدة احتدام واتساع البؤس العمالي خلال القرن التاسع عشر. فحين تحولت الطبقة العاملة إلى قوة وازنة أصبح في قدرة الحركة العمالية أن تنتزع مكاسب ملموسة وأن تجبر أرباب عملها على تقديم تنازلات فعلية. هكذا نجحت الحركة العمالية البريطانية في انتزاع إنجازات مهمة من الرأسمالية البريطانية: من الإقرار بشرعية النقابات وحقها في تنظيم الإضرابات، إلى رفع القوة الشرائية لأجور العمال وتحسين ظروف معيشتهم، إلى فرض تشريعات تتعلق بضمانات المرض والبطالة والشيخوخة.
وعلى رغم خصوصيات كل بلد، من بلدان القارة الأوروبية (الغربية)، فإن اتجاه الحركة العامة كان متماثلاً مع بريطانيا سواء في سائر البلدان الرأسمالية القديمة (هولندا، بلجيكا، فرنسا) أو في البلدان الرأسمالية “الجديدة” آنذاك (ألمانيا، الولايات المتحدة). هكذا بدأت ترتسم، على غير وعي واضح من أحد، تسوية فعلية داخل الرأسماليات الأكثر تقدماً بين الطبقة المسيطرة والطبقات الوسطى والطبقة العاملة. وبمقدار ما كانت الطبقة العاملة تتقوى وتتنظم كانت تحقق بالنضال إنجازات تخفف المظاهر الأقسى للاستغلال الذي تتعرض له وتصنع شروط حياة أكثر إنسانية بل وأكثر “رخاء” في بعض الأحيان. وهنا يقفز سؤال: إلى أي مدى كان تحول الرأسمالية إمبريالية شرطاً ضرورياً لجني أرباح إضافية هي التي مكنت الطبقة المسيطرة من تقديم تنازلات ملموسة للطبقة العاملة؟ وبكلمة أخرى إلى أي مدى كانت التسويات القومية الناشئة في البلدان الرأسمالية الأساسية، نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، مرهونة بالسيطرة الإمبريالية وبما تنتجه من أرباح؟ إذا لم يكن الجواب عن هذا السؤال ممكناً في صيغة أرقام، إلا أنه يبقى ممكناً وضرورياً في صيغة إقرار بوجود رابط فعلي بين ظرف تحول الرأسمالية إمبريالية وبين إمكان قيام التسويات الطبقية داخل الأطر القومية. على أن مثل هذا الجواب لا يقفل الموضوع بل هو يفتحه على مصراعي البحث، أي على رصد التحولات البنيوية الفعلية التي بدأت تصيب الرأسماليات المتقدمة ومجتمعاتها مع نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن. فحين تنجح طبقة عاملة في انتزاع تقديمات وتنازلات من بورجوازيتها تصبح أكثر اقتراباً من منطق رأسماليتها القومية وأكثر مصلحة في “إزدهارها”. وإذا كان هذا “الإزدهار” يبدو مرتبطاً بالتوسع الإمبريالي وبالاستغلال والتراكم على الصعيد العالمي، أفلا يدفع ذلك الطبقة العاملة إلى الوقوع أسيرة وضع متناقض مؤداه: أن نضال الطبقة العاملة من أجل تخفيف استغلالها يمكن أن يجد “حلاً” داخل النظام الرأسمالي نفسه، عبر نمو الاستغلال على الصعيد العالمي؟
من الواضح أننا نضع الأصبع هنا على جوهر المقولة الأممية. فالبروليتاريا التي يفترض أن يؤدي تحررها إلى تحرر كل المضطهدين وفق المنطق الأممي، قد تجد مصلحة غير مباشرة في اتساع نشاطات “رأسماليتها” على المستوى العالمي. هل ينطبق ذلك على فئة رقيقة من الطبقة العاملة اصطلح على تسميتها “الارستقراطية العمالية” أم هو يمس مجمل الطبقة العاملة، بل “عالم العمل” كله، وفق أشكال ووتائر متباينة؟ يمكن لهذا السؤال أن يكون منطلق سجال لا ينتهي، إلا أنه أياً تكن نتائج هذا السجال فهي تهز بالتأكيد بساطة أو تبسيط التصور الأممي الأصلي. لقد صاغ ماركس وأنجلز هذا التصور بالإعلان الشهير “ليس للعمال وطن”. وكانت ترجمة هذا الإعلان تعني أن العمال المجردين من كل ملكية، والذين يزداد عددهم باضطراد كلما اتسعت صفوف البروليتاريا، ويسحقهم الإفقار المتنامي، أن هؤلاء يشكلون الطبقة التي ستحرر، عندما تتحرر هي من الاستغلال والقمع، كل المضطهدين من جميع أشكال الاضطهاد. وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن تشكل المسألة القومية عائقاً في وجه الحركة الاجتماعية. لكن حركة التطور الرأسمالي ذاتها بدأت تضع المفهوم الماركسي للأممية وللقومية موضع امتحان عسير. فمع صيرورة الرأسمالية أمبريالية برز واقعان: أولهما يتعلق بوضع الطبقة العاملة التي أصبحت أقسام منها طرفاً في تسوية طبقية قومية مع “رأسماليتها” والثاني يتعلق بوضع الرأسمالية حيث اشتدت المواجهات ـ تحت وطأة الصراع والتنافس ـ بين الرأسماليات القومية أي بين الأمم والدول. هكذا لم يعد بمقدور أحد أن يتنبأ بإمكان إفلات الطبقات العاملة من شباك الصراع القومي إذا ما اشتعلت نيران الحرب في أوروبا.
وقبل أن تنهار الأممية الثانية تحت وطأة اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، شهدت القارة الأوروبية خلال عقد ونصف العقد من الزمن سعياً حثيثاً من جانب هذه الأممية، حركة وأحزاباً، إلى فصل الطبقات العاملة عن بورجوازيتها على صعيد الصراعات القومية المحتدمة للنجاة بها من نذر اندلاع الحرب. لكن هذا السعي أفضى إلى طريق مسدود وسارت الأمور في الاتجاه الذي لخصته كلمة كاوتسكي القاسية حين قال: “إن الأممية لم توجد لأزمان الحرب”. هكذا اختلطت الطبقات العاملة بالفلاحين والطبقات الوسطى لتقتتل بالتالي فيما بينها على امتداد كل أوروبا. ولا نرمي من وراء هذا العرض طبعاً إلى تبرير انزلاق الطبقات العاملة إلى الحرب تحت رايات بورجوازياتها القومية، أو إلى تبرئة الأممية الثانية من تهمة التنكر للمبادئ والمصالح الأممية. بل إن ما نريد قوله بالضبط هو أن المفهوم الماركسي الأصلي للأممية (وللقومية بالتالي) لم يكن واقعياً تماماً، وإن انسياق الطبقات العاملة الأوروبية في مجرى الحرب لم يكن وليد مجرد “خيانة” ارتكبتها الأممية الثانية، بل كانت له قاعدته الموضوعية المتصلة بنشوء تسويات طبقية داخل الأطر القومية أمكن من خلالها حشد العمال خلف “حكوماتهم” البورجوازية.
والحقيقة أن أثر التبدل البنيوي الذي بدأ يصيب المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، بديلاً من الاستقطاب الطبقي الاختزالي الحاد والصراع الطبقي الصاعد باستقامة نحو الانفجار، كان يتعدى حدود “تأجيل موعد” الثورة الاشتراكية ليطرح جملة أسئلة حول آفاق هذه الثورة أصلاً. فمنذ أن اتضح أن التطور الاجتماعي لا يسير في اتجاه الإفقار المطلق وتوسيع صفوف البروليتاريا “إلى ما لا نهاية”، ومنذ أن بدأت بلدان القارة الأوروبية (الغربية) تشهد ولادة طبقات عاملة منظمة وقادرة على إرساء ميزان قوى بينها وبين بورجوازيتها يسمح لها بانتزاع تنازلات ملموسة من الرأسمالية وبالحصول على شروط عمل أقل قساوة وظروف حياة أكثر يسراً، منذ ذلك الحين بدأ يطرأ تعقيد كبير على فكرة التغيير الجذري للمجتمع (نحو الاشتراكية)، ولم يعد الاستمرار في التزام ترسيمة “البيان الشيوعي” المبسطة يصلح أساساً للممارسة العملية. لقد نشأ وضع جديد في البلدان الرأسمالية المتقدمة أصبح مطلوباً معه تجديد تحليل الحركة الفعلية للطبقة العاملة بما هي حركة صراع ضد النظام الرأسمالي من ناحية، وحركة إنجاز ضمن النظام الرأسمالي من ناحية ثانية، وحركة اندماج بهذا النظام الرأسمالي من ناحية ثالثة.
من ذلك كله نستطيع أن نستخلص الحقيقة الآتية: لقد دخل النص الماركسي الأصلي باكراً طور أزمة عسيرة حين وضعته وقائع التطور الاقتصادي الاجتماعي السياسي في أوروبا (الغربية) على محك التاريخ خلال العقدين الأولين من القرن العشرين. وواجهت أحزاب الأممية الثانية (التي نكرر القول أنها كانت أممية النص الماركسي الأصلي بامتياز) الواقع الجديد لحركة الطبقة العاملة بألوان من التخريجات الفكرية والبرنامجية والعملية بالغة التباين وشديدة الارتباك. فكانت هناك وجهة أولى هي وجهة التصلب الثوري المقترن بالتقليل من أهمية الإنجازات المباشرة الممكنة، وكانت هناك وجهة ثانية هي وجهة الانصراف من دون تحفظ أو حدود إلى النضال اليومي المترافق مع تجاهل أفق التغيير الإجمالي وإسقاطه من الحساب، وكانت هناك وجهة ثالثة هي وجهة المزاوجة بين الممارسة الإصلاحية والجملة الثورية.
وعلى هذه الأرضية من الصخب الفكري في صفوف الماركسيين الذين كانت تجمعهم الأممية الثانية ثم أخذت الصراعات تفرقهم بين “ثوريين” و”إصلاحيين”، و”أصوليين” و”تحريفيين”، ودعاة صراع طبقي ومنادين بتسوية طبقية، على هذه الأرضية ظهرت اللينينية تياراً جديداً ومجدداً في تاريخ الماركسية.
ثالثاً: موقع ومضمون نقدنا للينينية
في تعيين العلاقة بين اللينينية والماركسية تبرز نظرتان: نظرة نصوصية ترى الانقطاع بين ماركس ولينين حين تقارن أعمال كل منهما بالآخر لتستخلص التباينات على صعيدي حقل البحث ونتائج التحليل في آن، ونظرة تاريخية ترى التواصل عميقاً بين المفكرين والقائدين الكبيرين اللذين لعبا أهم الأدوار في تاريخ الحركة الاشتراكية.
من جهتنا إذ نقترع للنظرة الثانية (التاريخية) نرى العلاقة بين اللينينية والماركسية حاسمة إلى درجة تغرينا بقراءة الماركسية في ضوء اللينينية بدلاً مما هو رائج ومألوف و”مدرسي” من قراءة للينينية في ضوء الماركسية.
في إلمامنا السابق بجوهر المذهب الماركسي الأصلي قلنا أننا نجد أنفسنا أمام ماركس العالم المنخرط في تحليل اتجاهات الرأسمالية الحديثة من ناحية، وماركس الوارث فلسفة التاريخ والديالكتيك عن هيغل من ناحية ثانية. وإذا كان اللقاء بين العلمي والفلسفي يبدو للبعض في هذه الحال مدمراً من الناحية النظرية، فإن البعض الآخر ينظر إليه على أنه أساس لتوليد مزيد انفجاري ـ من خلال دمج فكرة العلم بفكرة الخلاص البشري ـ يمكن أن تكون له نتائج اجتماعية تغييرية مهمة.
وعلى أي حال فإن نتيجة هذا “التطعيم” للعلم بالفلسفة وللفلسفة بالعلم يشكل الخاصة الأكثر فرادة للماركسية: تلك هي خاصة نزوعها الأساسي نحو “التحقق” بما هي “برنامج مطلق” يسعى إلى تغيير نظام الأشياء في العالم. هكذا يبدو زمن التحقق بالنسبة إلى الماركسية بالغ الأهمية من زاويتين: ضرورة وضعها على محك الاختبار “بصفتها علماً” من ناحية، وضرورة دفعها أو اندفاعها لإنجاز ما وعدت به على صعيد تغيير العالم وعدم الاكتفاء بتفسيره من ناحية ثانية.
وهنا، على هذا المستوى بالضبط، يبدو لنا عمل ماركس كأنه يمد يده تاريخياً إلى لينين ليجد عنده استكماله الطبيعي. ولا نبالغ في هذا المجال إذ نقول أن لينين كان الأكثر فهماً للحقيقة القائلة أن زمن التحقق يرتدي بالنسبة إلى الماركسية طابعاً أساسياً وأهمية استثنائية. وحين قاد لينين الثورة فإنه كان ماركسياً أميناً لجوهر الماركسية كنزوع تاريخي، وبصرف النظر عما بدله أو عدله أو خرج عليه من نصوصها المكتوبة. وبذلك لم يكن ظهور لينين حدثاً كبيراً في تاريخ العالم الحديث فحسب، بل إنه كان المفكر والقائد الذي نقل الماركسية إلى صعيد الواقع والممارسة العملية، أي الذي أنجز نزوعها الأساسي أو بكلمة أخرى “حققها”. ومن خلال دوره هذا مارس لينين تأثيراً كبيراً على عمل ماركس نفسه، فأكسب هذا العمل وزناً وجاذبية وحضوراً لم يتمتع بها أي مفكر اشتراكي آخر. وبإيجاز نقول أن اللينينية هي الماركسية في زمن التحقق، وهي بهذا المعنى ماركسية القرن العشرين من دون أي شك أو إبهام. فلم يعد ممكناً منذ عشرينات هذا القرن تصور “ماركسية ما قبل اللينينية” تصوراً فعلياً ينطوي على أي معنى ملموس أو راهن. هذا الواقع يقطع بصحته حشد كبير من الأدلة، من بينها الانطفاء التدريجي لماركسية كاوتسكي، وسائر الاشتراكيين الديمقراطيين الغربيين، بعد ثورة أكتوبر (1917) الروسية، وهو المسار الذي أعاد إنتاج “الإشتراكية الديمقراطية” المتحدرة من الأممية الثانية خلال بضعة عقود وفق صيغة في البرنامج والممارسة العملية قطعت كل وشائج الصلة تباعاً مع النص الماركسي الأصلي.
ومن هذا التقديم لموقع اللينينية التاريخي ننتقل إلى صوغ موضوعاتنا النقدية حولها بأقصى ما يمكن من الوضوح والإيجاز.
أ ـ اللينينية بين إيديولوجيا الكونية
وواقع الخصوصية الروسية
بالاستناد إلى الماركسية، وبوحي منها، توالى النص اللينيني صدوراً منذ منتصف التسعينات من القرن التاسع عشر وحتى عشية ثورة أكتوبر. ولا نقصد هنا استعادة كل القضايا التي تطرق إليها هذا النص الغزير وهو يستكشف الطريق نحو الثورة الروسية عام 1917، بل نرى من المناسب والضروري التوقف أمام نقطة محورية تنتظم كل أقسامه. ونطرح هذه النقطة في صيغة سؤال: هل كانت اللينينية في ما أنتجته قبل قيام ثورة أكتوبر، أي منذ كتاب “ما العمل” (1895) حتى كتاب “الدولة والثورة” (عام 1917)، نظرية كونية في تطبيق الماركسية أم كانت نتاجاً فكرياً روسياً عالج الخصوصية الروسية بالاستناد إلى الماركسية؟
لا تترك قراءة النص اللينيني، الصادر خلال الحقبة المشار إليها، مجالاً للشك في أن صاحبه كان يعيه ويقدمه على أنه “نظرية كونية لثورة كونية”، وينبري على هذا الأساس للسجال الحاد مع سائر الاشتراكيين، بل والماركسيين، في مختلف أنحاء أوروبا تزكية لبعض آرائهم وتخطئة وتصويباً لمعظمها. وهو السجال الذي كان يتصاعد مع تنامي ثقل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي ضمن الأممية الثانية ليبلغ ذروة حدته وليتخذ صيغة النبذ “والتخوين” خلال سنوات التمهيد المباشر لثورة أكتوبر، أي بين 1914 و1917.
وفي المقابل لا يترك إمعان النظر في مضامين النص اللينيني، وفي الوقائع الأوروبية (والعالمية) المتتابعة حدوثاً وبروزاً خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين، مجالاً للشك في أن هذا النص كان ـ وعلى خلاف ما تصوره صاحبه وقدمه ـ نصاً فكرياً روسياً تنعكس في مرآته الخصوصية الروسية على رغم أنها خصوصية مقروءة بنظارات الماركسية.
هذا الحكم الفكري الذي يصنف “كونية” اللينينية في باب الأيديولوجيا، ويرى فرادتها وحيويتها ووجهتها الخلاقة كامنة في استجابتها إلى واقع الخصوصية الروسية، هذا الحكم الفكري يشمل أهم الميادين التي تطرق إليها النص اللينيني الأصلي (أي نص ما قبل اندلاع ثورة أكتوبر 1917).
ــ ففي ميدان تحليل المجتمع تمحور النص اللينيني حول درس أسباب تأخر الرأسمالية في روسيا والعوامل التي تعيق تطورها وتحجزه، بل والتي تجعل من التخلف الرأسمالي الروسي حلقة مفرغة لا يمكن إيقاف دورانها إلا بكسرها ثورياً. ومن الواضح أن قضية “التخلف الرأسمالي” لم تكن “قضية الساعة” آنذاك في سائر البلدان التي كانت تعيش “أعلى مراحل الرأسمالية” على حد تعبير لينين نفسه في كتابه المعنون “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”. ورب سائل هنا: ألا يكفي صدور هذا الكتاب بقلم لينين للدلالة على “كونية” النظرية اللينينية في ميدان تحليل المجتمع الرأسمالي؟ ونجيب عن هذا السؤال بالنفي لأن صحة الوصف الاقتصادي للإمبريالية كما تضمنه الكتاب المشار إليه (وهو وصف لم ينفرد لينين باشتقاقه بل استقى معظم مادته من مؤلفين آخرين) لم تقترن بصوغ الاستنتاج الاجتماعي الصحيح المترتب على صيرورة الرأسمالية إمبريالية. إذ لا نجد أنفسنا مع لينين أمام معالجة للتحولات البنيوية العميقة التي بدأت تطرأ على الرأسمالية في بلدانها المتقدمة منذ تسعينات القرن الماضي والتي قدر لها أن تستمر وتتمادى حتى التسعينات من هذا القرن. بل ينتهي كتاب “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” إلى استنتاج اجتماعي جزئي يدور حول “خيانة” فئة رقيقة من الطبقة العاملة هي “الأريستقراطية العمالية” لمبادئ الاشتراكية والأممية بعدما تمكنت الرأسمالية من “شرائها” بفضل الأرباح الإضافية التي بدأت تجنيها من جراء توسعها الإمبريالي. ونحن نطلق على هذا الاستنتاج الاجتماعي اللينيني صفة “الجزئي” ولا نقول “الخاطئ” لأن الأمر لم يكن يتعلق بمدى صحة أو عدم صحة انحراف “أريستقراطية عمالية” عن مبادئ الاشتراكية والأممية (فالانحراف هنا صحيح)، بل كان الأمر ـ وظل طوال القرن العشرين وما زال ـ يتعلق بعدم كفاية الحديث عن “خيانة الأريستقراطية العمالية” للإلمام بمجمل التحولات البنيوية، المتعددة المصادر والروافد والأسباب، التي شهدتها المجتمعات الرأسمالية المتقدمة وباتت تفرض تجديداً في تحليل تطورها الطبقي لم يستشرفه النص الماركسي الأصلي وأتى النص اللينيني قاصراً عن الإحاطة به، مما شكل طعناً في مدى “كونيته”.
ــ وفي ميدان مفهوم الحزب كان النص اللينيني لصيقاً جداً بالواقع الروسي. فهو خرج عن ترسيمه النص الماركسي الأصلي الذي كان يتحدث عن الطبقة ـ الحزب في معرض التنبوء بصيرورة البروليتاليا أغلبية كاسحة في المجتمع الرأسمالي، وبضرورة انتظامها في حزب لا يهادن ولا يخالط ولا يحالف طبقياً حتى يحفظ قدرته على صنع الثورة الاشتراكية المتجهة باستقامة نحو الشيوعية. وبخروجه عن ترسيمة النص الماركسي الأصلي استوحى النص اللينيني ظروف روسيا حيث النضال الاقتصادي مقموع والنضال السياسي ممنوع، لينتهي إلى رسم ملامح حزب قادر، باقتصاره على أقلية طليعية وباعتماده مبدأ الاحتراف الثوري وبالتزامه جادة السرية وبخضوعه إلى انضباط حديدي وفق مركزية ديمقراطية صارمة، على مواجهة الاستبداد السياسي القيصري وضعف تكوين الطبقة العاملة الروسية في آن. وإذا كان هذا الاشتقاق اللينيني لمفهوم الحزب بدا في حينه، بل هو يمكن أن يبدو في كل حين، متناسباً مع ظرف مجتمع يجتاز طور انتقال طبقي عسير ويخضع لديكتاتورية سياسية مطلقة، إلا أن هذه الملاءمة بين مفهوم الحزب اللينيني وظرف روسيا لم تكن لتكسب المفهوم عينه صفة كونية على الإطلاق. بل إن هذا المفهوم ظهر عاجزاً عن الرد على المعطيات الناشئة في سائر بلدان القارة الأوروبية (الغربية تحديداً) حيث النقابات العمالية بدأت تضم ملايين العمال في صفوفها وتقود نضالات اقتصادية كبرى، وحيث الأحزاب الاشتراكية أخذت تستقطب مئات آلاف المنتسبين إليها وملايين أصوات المقترعين لها في الانتخابات. هذا الواقع الأوروبي، المختلف أساساً وتماماً عن الواقع الروسي، لم يكن ممكناً إدخاله أبداً في القالب الحديدي المخصوص للمفهوم اللينيني للحزب. وحين اندلعت السجالات حول هذه المسألة بالذات لم يكن في جعبة النص اللينيني من سلاح لإثبات صحة نموذج الحزب الروسي كونياً ولرفض سائر نماذج الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، سوى الإمعان في نقد “الديمقراطية البورجوازية” توصلاً إلى الحديث عن زيف الديمقراطية السياسية (بأحزابها ونقاباتها ومجالسها النيابية وحرياتها) بصفتها حيلة بورجوازية لإجهاض نضال الطبقة العاملة، لا مكسباً عزيزاً وثميناً انتزعته الطبقة العاملة وسائر الطبقات الشعبية من البورجوازية وضدها عبر عقود بل عبر قرون من النضالات الدامية.
ــ وفي ميدان صوغ برنامج الثورة لا يترك النص اللينيني، المتوالي صدوراً منذ كتاب “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية” عام 1905 حتى “موضوعات نيسان” 1917، مجالاً للشك في أن ما يعالجه حقاً هو قضية “الثورة البورجوازية” المفتقدة والمحجوزة في روسيا المتخلفة وليس قضية “الثورة البروليتارية” في أوروبا المتقدمة. لكن النص اللينيني الخلاق في قراءة واقع عجز البورجوازية الروسية عن مواكبة، فضلاً عن قيادة، ثورة ضد الاستبداد القيصري والإقطاع وكبار ملاك الأراضي تطلق التطور الرأسمالي الروسي من عقاله، هذا النص كان متجاوزاً واقعه الفعلي في تصوره أن ما يصوغه ليس إلا مقدمة كونية لبرنامج “ثورة بروليتارية” عالمية. لقد تسلسل الطرح اللينيني من الحديث عن “ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية الثورية” بعد “فشل” عام 1905 في روسيا، إلى الحديث عن “ديكتاتورية البروليتاريا” التي ستنجز مهمات الثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية معاً عشية “نجاح” عام 1917 في روسيا أيضاً، توصلاً إلى إطلاق نظرية “الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية”، حيث تحددت روسيا في مقولات لينين على أنها هذه الحلقة الأضعف التي يرشحها “ضعفها” لتكون المهد الأول للثورة البروليتارية العالمية، وطليعة مباشرة لسلسلة ثورات بروليتالية ستنشب في بلدان القارة الأوروبية (الغربية) لتوجه ضربات قاصمة للنظام الرأسمالي العالمي وتفتتح عصر انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية.
وحين نستعيد الآن النتائج الفعلية التي أسفرت عنها عملية وضع النص اللينيني الأصلي حول “نبوءة الثورة” على محك التاريخ العملي يبرز أمامنا واقعان مترادفان: واقع النجاح الروسي الذي حققه لينين قائداً لثورة أكتوبر من ناحية، وواقع الفشل الكوني الذي أصاب ثورة أكتوبر وأعاق تحولها طليعة لسلسلة ثورات بروليتارية متواصلة في بلدان الرأسمالية المتقدمة من ناحية ثانية. بل نستطيع القول أن التاريخ كان قاسياً في حكمه على النبوءة اللينينية التي قالت بصيرورة الثورة الروسية طليعة لسلسلة ثورات بروليتارية ستعم المراكز الرأسمالية المتقدمة، إذ صارت هذه الثورة في الواقع طليعة لسلسلة ثورات يمكن أن يستمر السجال حول طبيعتها إلى ما لا نهاية، لكنها ليست بالتأكيد ثورات بروليتارية، ثم أنها قامت في الأطراف المتخلفة من النظام الرأسمالي العالمي لا في مراكزه المتقدمة.
وإذ نكتفي بهذا المقدار من الملاحظات توضيحاً للمفارقة التي حكمت النص اللينيني الأصلي بين تصوره الأيديولوجي الكوني وواقع خصوصيته الروسية، نرى من الضروري التقدم نحو استكمال نقد اللينينية في ضوء ما توالى من وقائع روسية بين نجاح ثورة أكتوبر عام 1917 ووفاة لينين عام 1924. ونرى من المفيد أن يتخذ نقدنا هنا صيغة نقد ينطلق من تقويم عمل لينين، وليس نص لينين، بعدما أصبح القائد البلشفي قيماً على ثورة نجحت في استلام السلطة وراحت تدق أبواب إنجاز برنامجها الأصلي. أي بكلمة أخرى نريد أن نجازف في إجراء قراءة غير لينينية لثورة أكتوبر ولإنجازاتها، قراءة ترمي إلى نقد عمل لينين ونصه الفكري المتوالي صدوراً، في معمعان أكتوبر وبعده، في آن.
ب ـ قراءة غير لينينية لثورة أكتوبر وإنجازاتها الأولى
من المعروف أن انتفاضة أكتوبر قامت في سياق مسار ثوري تعددي كان بدأ في شباط 1917، بسقوط القيصرية وتشكيل حكومة مؤقتة.
وكان الرافد الأول لهذا المسار يتمثل في الحركة الثورية الفلاحية البالغة الاتساع التي راحت تتجه نحو تقويض “النظام القائم” في الأرياف تقويضاً عميقاً، وأدت الثورة الفلاحية تدريجاً إلى اقتسام أراضي كبار الملاكين وبدء توزيعها على الفلاحين. ولا بد من القول أن الحركة الثورية الفلاحية، كرافد أول للمسار الثوري التعددي، بدأت قبل أكتوبر واستمرت بعده.
أما الرافد الثاني لهذا المسار فهو ذاك الذي كانت تغذيه تطلعات التحرر الاجتماعي التي كانت تحملها أقسام من الطبقة العاملة والأنتلجنسيا الروسيتين. وهي تطلعات أخذت تتجسد على نحو ملموس في نمو نشاط السوفيات، وفي اتساع لجان المصانع وازدياد دورها، كما أخذت تتجلى أيضاً في حركة المطالبة بالحريات الديمقراطية وبإقامة نظام تمثيلي ودولة قانون. وقد اقترنت هذه الحركة بالنضال من أجل تشكيل جمعية تأسيسية تحسم في أمر قيام البديل الديمقراطي من القيصرية.
وأما الرافد الثالث لهذا المسار فهو ما كان الاجتهاد الماركسي الروسي يطلق عليه اسم “الثورة الديمقراطية المعادية للإمبريالية” تارة و”الثورة الاشتراكية” تارةً أخرى. وبصرف النظر عن التسميات فإن هذا الرافد الثالث كان يجسد انتفاضة قسم من الشعب والأنتلجنسيا الروسيين يرفض استمرار بلاده أداة في يد التكتلات الإمبريالية المتصارعة على صيغة اقتسام جديد للعالم، كما يرفض بقاء روسيا في موقع التابع على المسرح الاقتصادي والسياسي الدولي. وكان قادة هذا الرافد الثالث يعلنون استعدادهم لحكم البلاد عبر السوفياتات، ويولون أهمية خاصة لقضية تحويل وسائل الإنتاج ملكية عامة للدولة من أجل تسريع تنمية قوى الإنتاج.
وعلى المستوى السياسي اتسم المسار الثوري الذي افتتحته الأحداث في شباط 1917، بتوالد وتكاثر السوفياتات المشكلة من العمال والفلاحين والجنود أو من ممثلين عنهم. أما السلطة السياسية الفعلية فكانت منقسمة بين شباط وأكتوبر 1917 إلى “إثنتين” الأولى سلطة الحكومة المؤقتة والثانية سلطة السوفياتات. لكن السلطتين كانتا من الضعف بحيث لم تستطع أي منهما فرض سيطرتها على عموم روسيا. لقد كانت ثورة شباط مؤشراً إلى بداية سلسلة من التحولات المعقدة التي ترافقت مع لون من التعبئة الشعبية الضخمة والاستقواء النسبي لسلطة السوفياتات والازدياد الملموس في تأثير البلاشفة على قسم من الجماهير، هؤلاء البلاشفة الذين كانوا يعبرون عن تطلعات “الشعب” إلى السلم السريع وعن بعض مطالبه المباشرة من مثل مطلب تمليك الأرض للفلاحين.
هكذا يبدو لنا وصف لينين للأزمة الثورية التي اندلعت واتسعت منذ شباط 1917، وهو الوصف الذي يتحدث عن تداخل ثورتين إحداهما “ثورة ديمقراطية برجوازية” والثانية “ثورة بروليتارية”، يبدو لنا هذا الوصف غير مطابق للواقع، فالوصف اللينيني يعكس هنا تصوراً خاطئاً لواقع أعقد بكثير مما حملته صيغة “الثورتين المتداخلتين”. بل يمكن القول أن هذا الوصف اللينيني أدى وظيفة التعمية على ما كان جديداً حقاً وجذرياً فعلاً في المسار الثوري التعددي الذي كان في أوج انطلاقه منذ شباط 1917، والذي نجهل الآن أي مستقبل كان سيفضي إليه لو لم يتدخل البلاشفة بقوة – بل بالقوة – ليقطعوه وليقطعوا الطريق على توجهاته من خلال استيلائهم على السلطة. فلقد شكل استيلاء البلاشفة على السلطة بداية النهاية للمسار الثوري التعددي الذي انطلق في عموم روسيا خلال شهر شباط من عام 1917.
ومن دون إطالة نقول، تحديداً لأبرز التحولات التي توالت بعد استيلاء البلاشفة على السلطة، أن السوفياتات تحولت إلى أدوات مصادقة على قرارات الحكومة والحزب البلشفي ووسائل تنفيذ لها، مثلما تراجع تدريجياً وحثيثاً تدخل الجماهير في مختلف ميادين التحول الجاري على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإيديولوجية. وبدأ الحزب البلشفي (الذي أصبح حزباً أوحد) يحل محل الجماهير في كل الميادين مدعياً أنه وحده يجسد الشعب ويصنع التاريخ، وراح يقدم نفسه على أنه صانع الثورة وضمان بقائها حية ومستمرة، ثم أخذ يخطو حثيثاً على طريق مصادرة كل الآراء والأفكار المخالفة لخطابه السياسي والإيديولوجي، أو المختلفة معه.
لقد أتاح أكتوبر لفريق من القادة، استفاد من تعاطف قسم من الجماهير المدينية معه، الفرصة للإمساك بزمام حركة منظمة وأدوات سلطة جديدة من أجل محاولة “إرشاد” البلاد إلى طريق محدد انطلقت بموجبه “ثورة من أعلى” يلعب الحزب البلشفي الدور الحاسم فيها. وأدى منع سائر الأحزاب، كالحزب الاشتراكي الثوري والحزب المنشفي، وإلحاق النقابات بالحزب البلشفي إضافة إلى الانغلاق “المركزي” المتزايد لهذا الحزب، أدى ذلك كله إلى الإلغاء المتمادي لإمكانات التعبير المنظم من جانب العمال والفلاحين والمثقفين. هكذا ظهر واضحاً أن السلطة التي أقامها البلاشفة في أكتوبر 1917، وأعلنت نفسها “ديكتاتورية للبروليتاريا”، إنما كانت في الواقع ديكتاتورية باسم البروليتاريا تمارس تسلطها على الطبقة العاملة ذاتها في نهاية المطاف. والحقيقة أن لينين قارب مراراً الاعتراف بهذا الواقع. ففي عام 1919، أعلن أن ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا السوفياتية هي “حكومة للشغيلة” وليست “حكومة الشغيلة”، مضيفاً أن السلطة القائمة ليست سلطة بروليتارية فعلية. وعلى رغم أن لينين لم يرتب على أقواله هذه الخلاصة اللازمة، فإن ذلك لا يمنعنا ـ في قراءتنا الاسترجاعية الراهنة لثورة أكتوبر وما تلاها مباشرة من أحداث ووقائع ـ من أن نصوغ حكماً مؤداه أن “ديكتاتورية البروليتاريا” المحكي عنها آنذاك كانت أقرب إلى الوهم، وأنها كانت عبارة عن شكل مقلوب للعلاقات الطبقية الفعلية حيث تجري ممارسة الديكتاتورية على البروليتاريا. وهنا يجدر بنا أن نتوقف لنقول أن هذا التصور المعكوس للعلاقات الواقعية لعب دوراً ذا أبعاد كبيرة وخطيرة في تاريخ الحركة الاشتراكية خلال الشطر الأكبر من القرن العشرين. فلقد تأسست عليه أسطورة روسيا السوفياتية بصفتها بلد “ديكتاتورية البروليتاريا” و”ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى”، كما توالدت منه مشتقات أيديولوجية جعلت الحزب البلشفي يعي نفسه وينظر إلى دوره على أنه طليعة البروليتاريا أياً تكن طبيعة العلاقات الواقعية بينه وبينها. أي أن الحزب البلشفي منح نفسه “شرعية بروليتارية” بدت وكأنها “منبثقة من ذاته” مما بدأ يغنيه عن تقديم أي كشف حساب عن عمله أمام الطبقة العاملة. وعلى قاعدة هذه “الشرعية البروليتارية” التي قررها الحزب البلشفي لنفسه، أمكن لهذا الحزب أن يتجه تدريجياً نحو تجويف “الشرعية السوفياتية”، أي الشرعية القائمة على دور فعلي وفاعل لمجالس السوفياتات، من مضمونها العملي، والإبقاء عليه شكلاً يتم استحضاره عندما تدعو الحاجة أو ينطوي الاستحضار على فائدة. وما نشير إليه في هذا الصدد هو واقع تاريخي أكيد ينبئنا بأن الحزب البلشفي بدأ بتقليص دور السوفياتات فعلياً في الوقت نفسه الذي كان يعلن فيه قيام السلطة السوفياتية رمزاً.
هذه القراءة غير اللينينية لثورة أكتوبر وإنجازاتها الأولى لا تكتمل إلا بصوغ حكم واضح حول طبيعة هذه الثورة يميز تماماً بين خطاب الحزب البلشفي عنها بصفتها “ثورة اشتراكية” وبين واقعها الفعلي بعيداً عن الأغلفة الإيديولوجية. وهو هذا الحكم ما نغامر بإطلاقه هنا في صيغة خلاصة فكرية مؤداها: أن انتفاضة أكتوبر حملت إلى السلطة جناحاً راديكالياً من الأنتلجنسيا الروسية يحظى بدعم قسم من الطبقة العاملة الروسية ويدعي النطق باسم البروليتاريا، وتحت علم الثورة الاشتراكية قاد هذا الجناح الراديكالي “ثورة رأسمالية” ضخمة يتعين علينا أن ندرس خصائصها ونلم بخصوصياتها في مختلف مراحل تطورها. وإذ نستخدم مفهوم “الثورة الرأسمالية” هنا إنما نفعل من قبيل الاعتقاد بعدم صواب استخدام مفهوم “الثورة البورجوازية” في هذا المجال، فمفهوم “الثورة الرأسمالية” يجعلنا أقدر على رؤية وتمييز المسار الذي افتتحه أكتوبر ليس من خلال تفحص القوى الاجتماعية التي لعبت ضمنه دوراً قيادياً، بل من خلال ملاحظة العلاقات الاجتماعية التي أدى هذا المسار إلى إرسائها وتسهيل تفتحها، بصرف النظر عن اللفظية الصاخبة حول الثورة الاشتراكية التي لازمته في مختلف محطاته.
واستكمالاً للحكم الفكري المشار إليه حول ثورة أكتوبر نقول: أن “الثورة الرأسمالية” التي أطلقها أكتوبر في روسيا ظلت حتى العام 1929 تفرد مكاناً رحباً للثورة الفلاحية، وإن غالبية القادة البلاشفة ظلوا يفضلون، حتى العام 1929 أيضاً، أن تتم إزالة إشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية (وخصوصاً الإنتاج السلعي الصغير) بصورة تدريجية وسلمية. وفي هذا السياق أتت سياسة “النيب”، أي السياسة الاقتصادية الجديدة، المعلنة في صيغة متكاملة من جانب لينين عام 1921، لتشكل خطوة حاسمة على طريق استعادة التعاون بين البلاشفة والفلاحين بعد انهياره خلال الحرب الأهلية وتحت وطأة تدابير ما سمي “شيوعية الحرب”. وفي هذا الصدد قال لينين في حينه بوضوح “إما أن يتفاهم معنا الفلاحون وسنقدم لهم في هذه الحال تنازلات اقتصادية، وإما أن يتعذر التفاهم بيننا وعندها لا بديل من الصراع”. على أن “النيب” كان يعني، بالنسبة إلى لينين، أيضاً انعطافاً نحو الرأسمالية. وهو انعطاف كان يبدو له في صيغة اتجاه لا مفر منه نحو بناء رأسمالية دولة. لذا نجده يكتب في نيسان 1921: “تكمن كل المسألة النظرية والعملية في إيجاد الوسائل الصحيحة الكفيلة بتوجيه النمو الحتمي للرأسمالية (إلى درجة معينة ولوقت معين) نحو سلوك طريق رأسمالية الدولة، مثلما تكمن في إرساء الشروط الضرورية والضامنة بتحويل رأسمالية الدولة إلى الاشتراكية”. ثم نعود لنجده يكتب في تشرين الأول 1921: “لقد أدركنا تماماً خلال ربيع 1921 أنه لا بد من التخلي عن البناء الاشتراكي المباشر ولا بد من الاتجاه، في عدد من الدوائر الاقتصادية، نحور رأسمالية الدولة”.
هل يدفعنا هذا الاستدراك اللينيني الذي اتخذ، بين عام 1921 وعام 1924 (تاريخ وفاة لينين)، صيغة إعلان سياسة اقتصادية جديدة (“النيب”) واعتراف بأن ما ينبغي بناؤه في روسيا (إلى حين) هو نمط من رأسمالية الدولة، هل يدفعنا هذا الاستدراك اللينيني إلى الاعتقاد بأن قائد ثورة أكتوبر انتهى أخيراً وفي مجرى الممارسة إلى التمييز بين الإيديولوجيا التي رافقت الثورة وأسبغت عليها صفة “الثورة الاشتراكية”، وبين واقع هذه الثورة الذي كان ينبئ بطبيعة مختلفة لها؟ – نجيب عن هذا السؤال سلباً انطلاقاً من ملاحظات ثلاث: الملاحظة الأولى أن السياسة الاقتصادية الجديدة (“النيب”) ورأسمالية الدولة تظهران على لسان لينين في صيغة تراجع اقتصادي تكتيكي مؤقت ضمن سياق ثورة تبدو طبيعتها الأصلية له منذ ولادتها وفي حاضرها ومستقبلها طبيعة اشتراكية أساساً. والملاحظة الثانية أن مفهوم الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الاشتراكية يبدو لدى لينين هنا مفهوماً اقتصادوياً بامتياز، إذ هو يكاد يختزل شروط هذا الانتقال في لون من الرأسمالية الاحتكارية يشكل قيامها عنصر التحضير الحاسم لولادة الاشتراكية، وفي نوع من التركز وحجم من التمركز الرأسماليين يكفي بروزهما على أرض الواقع لإرساء أسس قيام الاشتراكية. والملاحظة الثالثة أننا حين نضع هذا المفهوم اللينيني، عن رأسمالية الدولة المؤقتة وعن تحولها المرتقب (في المدى المنظور بالطبع) إلى اشتراكية، على محك وقائع وحقائق التطور اللاحق الذي شهدته روسيا في ظل الستالينية، حين نفعل ذلك يظهر لنا قصور هذا المفهوم اللينيني عن تشخيص طبيعة ثورة أكتوبر بما كانت تنطوي عليه حقاً من احتمالات وبما فتحته فعلاً من آفاق على نحو بالغ الوضوح. فلقد شهدت روسيا في ظل الستالينية، كما سنرى، اندفاعاً هائلاً نحو تشييد البناء الأكمل لرأسمالية الدولة التي تصورها لينين خطوة تكتيكية انتقالية على طريق بناء الاشتراكية، ومع ذلك فإن رأسمالية الدولة الأكمل هذه لم تشكل، كما سينبئنا التاريخ، أساساً لانبثاق اشتراكية.
ونلخص ما سبقت الإشارة إليه حتى الآن، في معرض قراءة ثورة أكتوبر وانجازاتها الأولى، بالقول أن أكتوبر لم يكن فاتحة ثورة اشتراكية بل هو أطلق في روسيا “ثورة رأسمالية” بقيادة خليط من الطبقات والقوى الاجتماعية على رأسه جناح راديكالي من الأنتلجنسيا الروسية، وأن هذه “الثورة الرأسمالية” ظلت حتى العام 1929، متصالحة ومترافقة مع ثورة فلاحية متفتحة في الأرياف الروسية.
ثم أتت الستالينية بعد عام 1929، لتشكل “ثورة أخرى” من أعلى في تاريخ المسار الثوري الروسي الحديث الذي افتتحه حدث أكتوبر 1917. ومن السهل علينا القول أن هذه “الثورة الأخرى” التي قادها ستالين لم تكن انتقالاً من رأسمالية الدولة (اللينينية) إلى الاشتراكية، بل كانت ـ في ضوء العلاقات الاجتماعية التي أرستها ونوع السلطة السياسية التي بنتها ـ اندفاعه هائلة، باسم الاشتراكية، على طريق تحقيق أضخم عملية تراكم رأسمالي شهدها التاريخ وفي أقصر فترة زمنية من نوعها على الإطلاق. ولكن إلى أين يمكن أن يصل بنا هذا القول السهل؟ هل نريد أن نقرر بالاستناد إليه أن جل ما شهدته روسيا في ظل لينين، ثم في ظل ستالين من بعده، هو لون من “الثورة الرأسمالية” لا يعدو كونه أحد البدائل المتعددة التي سلكها قيام الرأسمالية في التاريخ؟ نسارع إلى الجواب عن هذا السؤال في صيغة تأكيد على أنه سيكون من التبسيط الخاطئ بمكان أن نعتبر ما قام في روسيا بعد أكتوبر 1917، خلال العشرينات وعلى امتداد الثلاثينات تحت قيادة لينين ثم ستالين من بعده، مجرد “ثورة رأسمالية” لا تختلف عن مثيلاتها التي قامت في التاريخ إلا بمقدار ما اختلفت طرق الانتقال، البريطاني والأميركي والألماني والفرنسي والياباني، إلى الرأسمالية فيما بينها. ذلك أن قدرتنا على الجزم بأن ما شهدته روسيا، خلال العشرينات والثلاثينات ورسخ حتى الثمانينات من هذا القرن، لم يكن ثورة اشتراكية شيء، وقولنا أن هذا الذي شهدته روسيا كان مجرد “ثورة رأسمالية” لا تختلف جوهرياً عن مثيلاتها التي قامت في التاريخ شيء آخر تماماً. أي أننا في الوقت الذي نستطيع فيه أن نقطع بالطبيعة غير الاشتراكية لما نتج عن ثورة أكتوبر 1917، لا بد من أن ندقق وبحذر فكري شديد في خصائص وخصوصيات هذه الثورة من زاويتي نمط الإنتاج والمجتمع الطبقي اللذين تولدا عنها وخصوصاً في حقبتها الثانية التي توالت فصولاً بقيادة ستالين بعد عام 1929. ومن الواضح أن غرض التدقيق هنا يتجاوز محاولة التوفق في اختيار الاسم الذي ينبغي إطلاقه على ما تم بناؤه في روسيا واقعاً باسم الاشتراكية إدعاء: هل هو “رأسمالية” فقط، أم هو “رأسمالية دولة”، أم هو “رأسمالية حزب”، أم هو “جماعية دولة”، أم هو “دولتية”؟ صحيح أن التوفق في اختيار الاسم هنا مهم ولكن الأهم منه بما لا يقاس هو التوفق في جلاء المضمون.
وعند هذه النقطة بالضبط يصبح بحثنا مفتوحاً على الستالينية. وهو ما نرى فائدة من التمهيد له بالقول أنه فيما يرى البعض انقطاعاً بين الستالينية واللينينية بالنظر إلى الفقر التبسيطي الشديد الذي يتصف به النص الستاليني في مقابل الغنى الحيوي الذي يتسم به النص اللينيني، نرى من جهتنا التواصل عميقاً بين الإثنين. فالمقدمات اللينينية على صعيدي انفراد الحزب البلشفي بالسلطة والشروع في بناء رأسمالية دولة بقيادته، كان لا بد من أن تثمر تلك النتائج الستالينية التي حولت الانفراد البلشفي صيغة حكم مطلق ودفعت رأسمالية الدولة إلى أعلى درجاتها.
رابعاً: نقد الستالينية والنظام السوفياتي:
نمط إنتاج جديد ومجتمع طبقي جديد
عرف الاتحاد السوفياتي خلال الثلاثينات من هذا القرن وبقيادة السلطة الستالينية، تحولات اقتصادية واجتماعية جذرية يمكن تلخيص نتائجها على النحو الآتي: تصفية طبقة الفلاحين الذين صودرت أراضيهم وجرى نزع ملكيتهم لكل وسائل الإنتاج وتمّ تحويلهم إلى عاملين في الكولخوزات والسوفخورات (المزارع التعاونية ومزارع الدولة)، نزع ملكية الحرفيين والتخلص من التجارة الصغيرة والصناعة الصغيرة لصالح قطاع الدولة، تدمير ما كان تبقى من استقلالية للتنظيمات النقابية العمالية وتحويل هذه التنظيمات إلى مجرد ملاحق لإدارات المؤسسات، إخضاع الأجراء إلى استبداد معملي بالغ القساوة، سن “تشريع للعمل” يقارب في بعض وجوهه قانون العقوبات، ممارسة قمع الجماهير على نطاق واسع مما أتاح تحويل معسكرات العمل الإجباري إلى رافد أساسي للصناعة السوفياتية، ثم المركزة الدولتية لرأس المال مع السعي إلى إخضاع تراكمه ومجمل النمو الاقتصادي لمقتضيات خطة الدولة.
وغني عن القول أن هذا المسار من التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها الاتحاد السوفياتي خلال الثلاثينات لم يمس أبداً العلاقات الاجتماعية الرأسمالية بل صب في مجرى تقويتها. وهكذا تحولت العلاقة الأجرية باضطراد إلى علاقة استغلال أساسية وعامة. وقد أتاح المسار المشار إليه الفرصة لتحقيق نمو سريع في عدد من الصناعات، مما ساهم في تبديل موقع الاتحاد السوفياتي ضمن العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية. لكن النمو ترافق مع بروز مظاهر اختلال اقتصادي داخلي وتفاوت واضح بين القطاعات الإنتاجية. ومنذ ذلك الحين دخلت الزراعة السوفياتية طور ضعف بنيوي (لم تخرج منه أبداً) على رغم أن الدولة كانت تستحوذ منها على فائض إنتاج مرتفع نسبياً. وفي ظل المسار عينه ازدادت انتاجية العمل، لكن الزيادة لم تكن هنا متناسبة أبداً مع تصعيد وتائر العمل ومع اتساع التراكم المادي، وهي ظاهرات بدأ يرافقها تدهور واضح في نوعية الإنتاج.
وبالعودة إلى تفحص طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي السوفياتي الذي نما خلال الثلاثينات، نستطيع القول أننا كنا مع هذا النظام أمام رأسمالية أزالت، أكثر من أي رأسمالية أخرى في التاريخ، أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية، وأخضعت الشغيلة ـ بدرجة استثنائية ـ إلى مقتضيات التراكم. هذه الخصائص التي اتسمت بها “الرأسمالية السوفياتية” مضافاً إليها الدور المهيمن للدولة والحزب، جعلت منها رأسمالية من نمط جديد. ومن الواضح أن بذور هذه “الرأسمالية ذات النمط الجديد” تعود إلى ثورة أكتوبر وإلى مفهومها عن “الاشتراكية” التي تشكل رأسمالية الدولة مدخلها المباشر كما سبق ورأينا خلال تفحصنا النص اللينيني. وبهذا المعنى فحين نقر بطابع ثوري للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي توالت في الاتحاد السوفياتي خلال الثلاثينات، إنما نشدد على كون هذه التحولات أتت تكمل العمل الرأسمالي الذي بدأته ثورة أكتوبر، والذي ظل ملجوماً طوال عقد من السنين بسبب تعايشه الاضطراري مع ثورة فلاحية.
لكن هل يكفي استخدام مصطلح “رأسمالية من نمط جديد” للإحاطة فعلاً بطبيعة العلاقات الاجتماعية الأساسية التي بدأ النظام الاقتصادي والاجتماعي السوفياتي يتمحور حولها منذ الثلاثينات؟ – نعتقد، جواباً عن هذا السؤال، أن المصطلح المشار إليه يحتاج إلى نوع من التدقيق لتجاوز عدم كفايته على صعيد التحديد النظري. وربما يكون استخدام مصطلح “جماعية الدولة” أو “الدولتية” أقرب إلى الصواب والدقة فكرياً في معرض تعيين الطبيعة الفعلية للنظام السوفياتي الذي عرفه القرن العشرون كنمط إنتاج جديد وكمجتمع طبقي جديد. على أن ما يهمنا ـ تكراراً ـ هو المضمون الذي نعطيه للمصطلح وليس المصطلح كصياغة لفظية. وفي هذا الاتجاه نشير إلى أن “جماعية الدولة” أو “الدولتية” تشبه في بعض وجوهها الرأسمالية كما عرفها التاريخ (فهي تتيح مثل الرأسمالية وتيرة عالية من النمو) لكنها تختلف عنها في وجوه أخرى (إذ أن وسائلها الأساسية المستعملة هي وسائل دولتية). ولنحاول إيضاح الأمر بشيء من التفصيل.
يتشابه نمط الإنتاج السوفياتي (الدولتي) مع نمط الإنتاج الرأسمالي لجهة انبثاقه خلال طور نمو شديد لقوى الإنتاج في شكل تصنيع وتقدم تقني وعلمي على وجه الخصوص. لذا فهو يتطلب الاستحواذ على فائض عمل كبير، انطلاقاً من الإنتاج الزراعي ثم الصناعي، يتيح تراكم العمل الميت في التجهيز والبنية التحتية (وسائل المواصلات، المناجم، الصناعات، التجهيزات الاجتماعية…) مثلما يتيح تحسين نوعية العمل الحي (التعليم، الصحة،…) وذلك كله يفرض المحافظة على مجتمع طبقي من ناحية، وتأمين الإخضاع المستديم للطبقات المنتجة من جانب طبقة مسيطرة تنظم وتدير جهد التراكم من ناحية ثانية.
لكن النمطين يختلفان على صعيد جوهري. ففيما تأسس نمط الإنتاج الرأسمالي أصلاً وبصورة رئيسية على قاعدة السيطرة والاستغلال اللامركزيين على رغم أنه كان للدولة دائماً دور ما في قيام الرأسمالية وتطورها، فإن نمط الإنتاج السوفياتي (الدولتي) قام أساساً على تنظيم مركزي للروافع الاقتصادية الثلاثة: التصنيع والتراكم وتنمية قوى الإنتاج من ناحية، وخلق طبقة عاملة ـ بروليتاليا صناعية من جموع الفلاحين أساساً من ناحية ثانية، والاستحواذ على فائض العمل الضروري للتراكم من الفلاحين والمنتجين الصغار ثم من الطبقة العاملة من ناحية ثالثة. وتضطلع الدولة بالدور الحاسم في هذه الميادين الثلاثة مجتمعة.
وأما المجتمع السوفياتي فكان منذ الثلاثينات مجتمعاً طبقياً يختلف أيضاً عن المجتمع الرأسمالي في كونه يخضع خضوعاً مطلقاً للدولة التي تشكل، مع جهازها العصبي المتمثل في الحزب، قاعدة ومكان إنتاج الطبقة الحاكمة. فالدولة السوفياتية كانت، منذ أن جدد ستالين إرساء دعائمها في الثلاثينات، دولة ذات حضور كلي ساحق لا مبرر للتردد في اعتبارها سياسياً دولة توتاليتارية بامتياز. فهي لم تكن تضمن العلاقات الخارجية للاتحاد السوفياتي والدفاع عنه فحسب بل كانت تنظم مجمل الحياة الاجتماعية من دون أي استثناء لأي وجه من وجوهها: فهي تملك، وتنتج، وتراكم، وتوزع، وتقتطع، وتوجه، وتكافئ، وتعاقب، وتعلم، وتطبب، وتضخ الإعلام، وتثقف… وهي التي تقول الحقيقة وتصنع إنسان الغد وتتولى تحويل العلاقات الاجتماعية بل وإنتاج المجتمع في كليته ومن أساسه.
هذا الحضور الكلي للدولة في النظام السوفياتي لم يكن ليتحقق إلا على قاعدة دور مطلق يمارسه الحزب في صيغة حكم من وراء أجهزة الدولة، غير مسؤول أمام أي هيئة من هيئات المجتمع تمثيلية كانت أم اشتراعية أم تنفيذية أم قضائية. لذا من الطبيعي أن نجد الطبقة المسيطرة في قمة النظام السوفياتي تنتج نفسها بنفسها من خلال هيمنتها المطلقة المزدوجة على جهاز الدولة وجهاز الحزب في آن. وهي تتصرف هنا، مثل أي طبقة مسيطرة أخرى، وفق مقتضيات الدفاع عن مصالحها: عن سلطتها أولاً وعن امتيازاتها المادية والمعنوية وموقعها الخاص في المجتمع ثانياً.
وإذا كنا نناقش اليوم طبيعة النظام السوفياتي (الذي أرسى دعائمه ستالين) بعدما انهار في موطنه الأصلي وفي سائر مشتقاته، فإن ذلك لا يعفينا من المسؤولية الفكرية عن الاستكشاف الاسترجاعي لأسباب استمراره قوياً وفاعلاً طوال عقود. وفي هذا المجال لا بد من القول أن كل صنوف القمع والاضطهاد والإرهاب التي شهدها المجتمع السوفياتي لا تكفي وحدها أبداً تفسيراً لعوامل رسوخ النظام السوفياتي ردحاً طويلاً من الزمن، خلال عهد ستالين وبعده. بل ينبغي أن ندخل في الحساب هنا الوزن التعبوي الساحق الذي كان للأيديولوجيا (الماركسية اللينينية) في حشد صفوف “الشعب” خلف مقولة “بناء الاشتراكية” المتناسلة من نفسها خطباً متمادية في تبشيرها بالغد “المشرق” على غير انقطاع. أي أن الأيديولوجيا أنتجت هنا منظومة من الأفكار والطقوس والقيم ساهمت كثيراً في صنع “لحمة” المجتمع السوفياتي ولزمن طويل. لكن ما يجب أن نضيفه هنا هو أنه كانت للنظام السوفياتي إنجازاته وتقديماته الفعلية التي سمحت للأيديولوجيا بأن تبدو ذات علاقة ما بالواقع، وبأن تتمتع بمقدار من القوة الإقناعية وبشيء من الصدقية. ونحن نشير هنا إلى إنجازات وتقديمات من نوع: العمالة الكاملة وانتقاء البطالة، وتوفير الحد الأدنى من الأجر الوافي بمتطلبات العيش الضرورية، وضمانات التطبيب والتعليم والشيخوخة، وتحقيق نوع من التحسن في ظروف العمل، وتوسيع مساحة الاستهلاك السلعي لتشمل فئات اجتماعية أعرض… إضافة إلى ما كان يبدو “أكبر” على صعيد الإنجاز: من التطور الاقتصادي الضخم خلال الثلاثينات، إلى المساهمة التاريخية الكبرى للجيش الأحمر في الانتصار على النازية، إلى النجاح في إعادة إعمار الاتحاد السوفياتي (بعدما دمرته الحرب العالمية الثانية) في سرعة قياسية، إلى تكوين قوة عسكرية عملاقة وارتياد الفضاء، إلى إثبات وجود “معسكر اشتراكي” قادر على الوقوف في وجه المعسكر الرأسمالي. فالنظام السوفياتي لم يكن، شأنه في ذلك شأن سائر الأنظمة الطبقية، مجرد نظام سيطرة طبقية محض بل كان نظام تسوية طبقية أيضاً. ولم يكن تطلب التسوية الطبقية هنا غريباً في بابه. بل أن الأصل الثوري التاريخي لقيام الاتحاد السوفياتي، والادعاء المديد لمقولة “بناء الاشتراكية”، والأيديولوجية الرسمية للنظام، كلها كانت عوامل تفرض على الطبقة الحاكمة عقد تسوية مع الطبقات المحكومة شرط أن لا تتعاكس هذه التسوية مع منطق استمرار النظام محتفظاً ببنيته التي تشكل علة وجوده الأصلية.
على أن ما يتوجب علينا الآن، وقد أصبح الاتحاد السوفياتي المنهار في ذمة التاريخ، هو أن نقول كلمة موجزة، تتوخى الصواب الفكري إلى الحد الممكن، في عناصر أزمة النظام السوفياتي وفي العوامل التي أدت إلى تفاقم هذه الأزمة، وفي الأسباب التي جعلت “بروستريكا” غورباتشوف تشكل سياق انهيار النظام بدلاً من أن تكون خشبة إنقاذه.
خامساً: أزمة النظام السوفياتي:
من إعلان اللاستالينية إلى البروستريكا فالانهيار
لا نرى مبرراً أو إمكاناً، في مجالنا الضيق الراهن، للعودة إلى رصد عناصر أزمة النظام السوفياتي كما بدأت تختمر وتتجمع وهو في طور صعوده، تحت سلطة ستالين، خلال الثلاثينات والأربعينات ومطلع الخمسينات. لذا نكتفي بمتابعة مسار هذه الأزمة منذ الإعلان الأول عن قيامها على لسان خروتشوف منتصف الخمسينات، حتى الإعلان الأخير عن احتدامها على لسان غورباتشوف منتصف الثمانينات.
اتخذ الإعلان الأول عن أزمة النظام السوفياتي على لسان خروتشوف صيغة دعوة إلى “اللاستالينية” خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي المنعقد عام 1956، فيما اتخذ الإعلان الأخير عن احتدام هذه الأزمة على لسان غورباتشوف صيغة الدعوة إلى “البروستريكا” (أي إعادة البناء) بعد العام 1985. وخلال العقود الثلاثة التي تفصل بين الدعوتين شهد الاتحاد السوفياتي، في أوضاعه الداخلية وفي سياساته الخارجية والدفاعية، تطورات حاشدة مست في بعض جوانبها مجمل “المعسكر الاشتراكي” أيضاً. وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال مهم هو: إلى أي مدى أدت التطورات المشار إليها إلى إحداث تغيير في النظام التوتاليتاري السوفياتي الذي كانت دعائمه أرسيت خلال الثلاثينات؟ – وإذ نعترف أن الجواب عن هذا السؤال ليس سهلاً ولا يمكن أن يكون مبسطاً لأن التطورات التي نتحدث عنها كانت كثيرة وشملت غير ميدان، لكن في استطاعتنا القول من دون تجاوز على الواقع التاريخي أن مجمل النظام الستاليني ظل قائماً ـ بسماته الأساسية الأصلية ـ حتى الثمانينات. صحيح أن بعض هذه السمات أصابه التحوير تحت ضغط تناقضات عدة وبفعل تدخل قوى اجتماعية شتى. لكن التحوير هنا لم يؤد إلى ولادة بنى اقتصادية، اجتماعية، وسياسية جديدة فعلاً، بل يمكن الجزم بأنه أتاح للنظام القديم أن يعيد تركيز نفسه من خلال تغيير بعض مظاهره الثانوية. هكذا فشلت كل المحاولات الرامية إلى مواجهة الأزمة في تقديم حلول ملائمة للتناقضات التي كانت تزداد احتداماً ضمن النظام وتجعله أقل قدرة على تلبية طموحات الطبقة القيمة عليه فضلاً عن مصالح الشغيلة وعموم الشعب السوفياتي أيضاً وأساساً. إن غياب الرد المناسب من جانب النظام على الأزمة التي كان يجتازها، والمتفاقمة حثيثاً وتباعاً، بدأ يدخل الاتحاد السوفياتي طور شلل متزايد شمل الحياة الاقتصادية والسياسية ليبلغ ذروته منتصف الثمانينات.
وهنا نرى من المفيد والضروري أن نتوقف قليلاً أمام محاور الأزمة العامة، الاقتصادية والإيديولوجية والسياسية، التي كان النظام السوفياتي يتخبط في دوامتها عشية إطلاق الدعوة إلى “البروستريكا”.
ــ على الصعيد الاقتصادي كان الاستنفاذ المتزايد لاحتياطات قوى العمل، وقصور النظام عن التكيف مع متطلبات الانتقال من التراكم الموسع إلى التراكم المكثف (الذي يتيح زيادة سريعة في الإنتاجية الاجتماعية للعمل)، كان هذان العاملان في أساس الأزمة الاقتصادية البنيوية المتميزة بالهبوط المتمادي والمستديم لمعدل نمو الناتج القومي الخام.
وكان من الطبيعي أن تنجم عن هذه الأزمة الاقتصادية البنيوية أثار سلبية فادحة بالنسبة إلى مجموع الشعب: من العجز المتفاقم عن تموين المخازن بالسلع، إلى الارتفاعات المتتالية في الأسعار الرسمية لهذه السلع وفي أسعارها ضمن السوق الموازي في آن. ولم يقتصر التدهور في ظروف المعيشة على الاستهلاك الفردي، بل طال ظروف العمل في مختلف مظاهرها أيضاً. ولوحظ، منذ عام 1970، تدهور خطير في ظروف الصحة العامة وشروط العناية الطبية.
أي أن النظام السوفياتي كان يواجه، مع اقترابه من منتصف الثمانينات، أزمة اقتصادية ـ اجتماعية شاملة وعميقة امتدت زمناً طويلاً وتنوعت آثارها، وبدأت نتائجها السلبية الحادة تصيب المكانة الدولية للاتحاد السوفياتي. والحياة اليومية لمواطنيه على السواء.
وحين نتحدث عن أزمة اقتصادية بنيوية للنظام السوفياتي، لا يجوز أن تفوتنا الإشارة الخاصة إلى الأزمة المزمنة التي لازمت الزراعة السوفياتية طوال عقود وأصبحت تشكل عنصر إعاقة جوهرياً لنمو الناتج القومي.
ــ وعلى الصعيد الأيديولوجي أصبح ممكناً القول أن التحولات في العلاقات الإيديولوجية بين الشعب والسلطة أخذت تتجه نحو مراكمة عناصر أزمة إيديولوجية عامة. وعلى رغم أن هذه الأزمة الأيديولوجية كانت بعيدة الجذور في تاريخ النظام السوفياتي، ولم تكن مجرد عارض مترتب على استفحال الأزمة الاقتصادية البنيوية، إلا أنها كانت تتغذى من هذه الأخيرة وتجد في وقائعها أرضاً خصبة وحيثيات إضافية. ومن دون إطالة نقول أن الأزمة الأيديولوجية كانت تتخذ أشكالاً عدّة، وبدأت تطاول الأوساط الحاكمة والشعب على السواء. أجل لقد أصابت الأزمة علاقة الفئة السياسية المهيمنة بالأيديولوجية الرسمية التي كانت تنطق بلسانها. وهنا تدخل الإشارة إلى أن الإخفاقات الاقتصادية المتراكمة بدأت تصيب “العقيدة” الموروثة عن الحقبتين الستالينية والخروتشوفية حول قدرة الاتحاد السوفياتي على “اللحاق بالولايات المتحدة وتجاوزها في أقصر وقت” بضربات قاصمة، وراحت هذه “العقيدة” تتخذ بالنسبة إلى الممسكين بزمام السلطة في الاتحاد السوفياتي مظهراً ساخراً ينطوي على مفارقة مرة. هكذا بدأت تنكسر تلك الوحدة الظاهرية للأيديولوجية الرسمية القديمة التي كانت قائمة في صفوف القادة السوفيات والفئات العليا الممسكة بزمام الأجهزة السوفياتية في الدولة وفي الحزب على السواء. ولم يبق من هذه الأيديولوجية الرسمية قيد “الفاعلية” سوى بضعة عناصر: طابعها المحافظ، وتأكيدها على “الدور القيادي” الأبدي والثابت للحزب، واتجاهها إلى الرقابة الصارمة على الإعلام، وطبيعتها النخبوية حيث الحقيقة ملك الفئة الحاكمة فقط أما “الأفراد” أو “المواطنون” فما عليهم سوى الخضوع للحزب والدولة.
على أن الأزمة الأيديولوجية بدأت تكتسب بعداً آخر أكثر خطورة، فلم تعد محصورة في صفوف الفئة السياسية المهيمنة وفي أوساط القادة، بل أخذت تنمو ضمن مختلف فئات الشعب لتضع العلاقات بينه وبين السلطة موضع امتحان عسير وتساؤل جذري. ولا نود الاسترسال هنا في تعداد مظاهر الاحتجاج التي بدأت تتسم بها علاقات المواطنين الممتدة بين مطلع السبعينات ومنتصف الثمانينات. حسبنا القول أن الأزمة الأيديولوجية المتسعة في صفوف الشعب كانت تزداد دلالة بمقدار ما كان القمع يشتد وتتصاعد وتيرته. ونعني بالقمع هنا ذلك القمع الأيديولوجي الذي جند من أجل أدائه “جيش” كان يضم حسب قول لسوسلوف “ملايين وكبار الكوادر”. ولم يعد هدف الدعاية توليد “إيمان” أو “قناعة” بل ضبط الشعب تحت سقف “الحقائق الرسمية” التي كان يراد لها وحدها أن تسود. لكن بروز بعض حركات الاحتجاج أخذ يثبت أن الدعاية الأيديولوجية الرسمية التي أتقنها النظام السوفياتي ومارسها طويلاً لم تعد كلية القدرة والتأثير مثلما كان الأمر في طور سابق. وهو، هذا التناقض في مفعول الدعاية، ما بدأ يؤشر إلى تفاقم الأزمة الأيديولوجية للنظام وبلوغها حداً ينذر بالتفكك.
ــ وعلى الصعيد السياسي بدا النظام السوفياتي محجوزاً وعاجزاً عن الانفتاح على أي تحول أمام حدّة الأزمة الاقتصادية واحتدام الأزمة الأيديولوجية. وقاده هذا “الإنحجاز” إلى أزمة سياسية عميقة. واتخذت الأزمة السياسة مظهر شلل في صفوف الطاقم السوفياتي الحاكم (على صعيدي الحزب والدولة) تحول معه هذا الطاقم إلى مجرد فريق يدير الشؤون الجارية للبلاد، يقف عاجزاً عن إجراء أي إصلاح جدي في أي ميدان. وإذا كانت هذه الأزمة السياسية بدأت تدفع مجموعات تنتمي إلى فئات وطبقات اجتماعية مختلفة إلى الانتظام وممارسة التعبير عن مواقف مختلفة عن مواقف السلطة بل شاجبة لها في بعض الأحيان، فإن هذا المظهر الآخر للأزمة السياسية ظل ثانوياً ومحدوداً.
هكذا بدا النظام السوفياتي، بعد عقود من إرسائه على يد ستالين، نظاماً عاجزاً عن مواجهة أي معطى جديد. لقد كبر هذا النظام وشاخ من دون أن ينضج لاستقبال أي تحولات أساسية في بنيته. ولا شك في أن ذلك كان يعود إلى طبيعته التوتاليتارية المطلقة، وإلى أن الطبقة المسيطرة على قمته والمشكلة من “بورجوازية حزب” خاضعة بدورها لأقلية قائدة، كانت طبقة مقطوعة كلياً عن المشاكل الفعلية للشعب. فهي تعيش في ظروف امتيازات محظوظة فيما كان مستوى حياة جمهور الشغيلة يراوح عند نقطة الركود بل يميل إلى التدهور. لذا ظهرت هذه الطبقة معدومة القدرة على صوغ حل للمعضلات الكبرى التي بدأ الاتحاد السوفياتي يقف أمام تبعاتها مع إطلالة عقد الثمانينات.
ومن هنا أتت البروستريكا التي قادها غورباتشوف، متراقصاً بين الحزب والدولة والشعب، تشكل تعبيراً عن أزمة النظام السوفياتي لا رداً عليها. وإذ لا ننوي الاسترسال هنا طويلاً في تحليل البروستريكا، بداية ومساراً ومصيراً، نكتفي بالقول أن انهيار البروستريكا ـ ومعها الاتحاد السوفياتي ـ كان وليد جملة عوامل متعددة متشابكة نذكر منها: الغياب شبه الكامل للطبقة العاملة وسائر طبقات الشعب السوفياتي عن مسرح الصراع “الفوقي” الذي أطلقته البروسستريكا مما حولها طرحاً ينشد “التغيير” و”إعادة البناء” على غير استناد إلى قوى اجتماعية قادرة، والضحالة النظرية الشديدة للبروستريكا في مجتمع كانت الأيديولوجيا تمسك بتلابيبه إمساكاً مطلقاً منذ عقود، ثم التخبط العملي بل الانتهازي الفادح لقائد البروستريكا (غورباتشوف) بعيداً عن برنامج مرشد وعن أي تمثل لدور تاريخي مما جعل منه مجرد “طالب سلطة بأي ثمن” في نهاية المطاف.
والحقيقة أن بحثنا الراهن لا يتسع لرصد كل الظاهرات التي تولدت عن انهيار الاتحاد السوفياتي، كياناً ونظاماً، في مختلف الميادين ولدى كل “الكيانات القومية” المنبثقة مجدداً من “الإمبراطورية” السابقة. لذا نكتفي بالتوقف أمام الوجهة الإجمالية التي اتخذتها وتتخذها التطورات الجارية في روسيا، لأن الحقل الروسي يبقى حقل الدراسة الأهم لنتائج انهيار “النموذج السوفياتي” على السواء. وهنا يتقدم على غيره سؤال أساسي: نحو أي نظام تتجه روسيا وهي تغادر نظامها السوفياتي السابق؟ لقد درجت العادة، منذ انهيار البروستريكا، على الجواب عن هذا السؤال بالقول: أن روسيا تسلك طريق العودة إلى الرأسمالية. وهو، هذا الجواب، ما نرى ضرورة نظرية للتدقيق فيه. فالقول أن روسيا “تعود” الآن إلى الرأسمالية هو قول غير دقيق لأن نظامها السوفياتي السابق لم يكن اشتراكياً حتى يصح الحديث عن “عودتها” إلى الرأسمالية. والقول أن ما تتجه إليه روسيا الآن هو “الرأسمالية” هو أيضاً قول غير دقيق لأن ما يجري السعي إلى إقامته في روسيا الآن ليس الرأسمالية وفق الصيغة التي أنتجها التطور الرأسمالي على امتداد القرن العشرين، والتي لم تعد محكومة بقوانين السوق (الليبرالية الاقتصادية) وحدها بل باتت تحكمها قوانين التسوية الطبقية الاجتماعية أيضاً وأساساً.
لذا نجد من الأصح القول أن روسيا تنتقل الآن من نظام “جماعية الدولية” أو “الدولتية” (ذي المضمون الرأسمالي) إلى الليبرالية الاقتصادية الأثرية، ليبرالية “اليد الخفية” للسوق كناظم أوحد للاقتصاد والمجتمع وكصيغة سابقة على التحولات الاجتماعية البنيوية الأساسية التي شهدتها الرأسمالية خلال القرن العشرين في مراكزها الرئيسية.
وهنا نضع الأصبع في الواقع على جانب مهم، بل على الجانب الأهم، من أزمة النظام الروسي الراهن وسائر أنظمة “ما بعد السوفياتية”. أنها أزمة الانتقال العسير إلى ليبرالية قاسية اجتماعياً وقاصرة اقتصادياً، أما “البديل الاشتراكي” من هذه الليبرالية فلا نرى له ظلاً في ما يجري على الإطلاق. وهذه مناسبة للدعوة إلى تبديد أوهام فكرية كانت تلازم الكثير من القراءات “الماركسية” للنظام السوفياتي، وأتى المآل الليبرالي للبروستريكا يثبت خطأها: من وهم القول أن النظام السوفياتي نظام اشتراكي مصاب بعاهة بيروقراطية وما أن يتجدد الصراع الطبقي ضمنه حتى تزول العاهة وتبقى الاشتراكية، إلى وهم القول أن النظام السوفياتي خليط من عناصر اشتراكية وأخرى رأسمالية وثالثة دولتية وأن الغلبة ستكون للعناصر الاشتراكية بمجرد انفتاح آفاق الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي على مصراعيها، إلى وهم القول أن النظام السوفياتي خليط من عناصر اشتراكية وأخرى رأسمالية وثالثة دولتية وأن الغلبة ستكون للعناصر الاشتراكية بمجرد انفتاح آفاق الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي على مصراعيها، الى وهم القول إن النظام السوفياتي حقق على الأقل إنجازاً راسخاً يتمثل في فك الارتباط الاقتصادي بالرأسمالية العالمية ولن تكون هناك رجعة عن هذا الإنجاز تحت كل الظروف.
فلقد رفعت البروستريكا الغطاء عن أزمة النظام السوفياتي، وسادت المجتمع السوفياتي فوضى سياسية كانت تسمح باندلاع كل أشكال الصراع الطبقي وببروز رد اشتراكي على الأزمة لو أن قوى الرد ـ الاجتماعية والسياسية والفكرية ـ كانت كامنة فعلاً ولا ينقصها غير التحرر من القمع حتى تنخرط في عملية تغيير النظام لحسابها ووفق برنامجها. لكن الفوضى والصراعات السياسية أسفرت عن انهيار النظام السوفياتي لصالح الليبرالية داخلياً، وعن زوال استقلاله الاقتصادي لحساب التحاقه بالغرب الرأسمالي الأميركي والأوروبي خارجياً. وكانت قوى الاشتراكية الغائب الأكبر عن العملية كلها، مما يشير إلى مدى الإفناء المتمادي الذي كان أصابها تحت سلطة النظام السوفياتي خلال ستة عقود. وهو ما يدفعنا إلى رؤية الشروط الصعبة والمعقدة لولادة محاولة اشتراكية جديدة، فكراً وتنظيماً، في روسيا لا تحمل تبعات “التوتاليتارية الدولتية” السابقة ولا تكون مرشحة للسقوط سلفاً تحت وطأة أوزارها.
وتبقى كلمة أخيرة لا بد من أن تقال حول المصير المرتقب لأنظمة النموذج السوفياتي التي ما زالت مستمرة في الصين وكوريا، وفي فيتنام وكوبا. وهنا لا نجد محلاً للمقولة التي تعتبر هذه البلدان “بلدان خيار اشتراكي” لمجرد أنها ما زالت تتمسك بالبنى الموروثة عن “النموذج”. فهذا التمسك لا يقع في باب “الخيار الاشتراكي” من ناحية، وهو لا يكفي حماية لهذه الأنظمة من المصير الذي انتهى إليه الأصل السوفياتي في مسقط رأسه من ناحية ثانية. ولو أردنا أن نتخذ الصين مثالاً لتبيان مدى الصواب الذي يتضمنه هذا الحكم الفكري الإجمالي على المصير المرتقب لما بقي من “بلدان النموذج”، فإننا نجد في حوزتنا حيثيات وازنة. فالصين شرعت أصلاً، منذ عقد ونصف العقد من الزمن، في التحول نحو ليبرالية اقتصادية متدرجة ولكن حثيثة. صحيح أن هذا “الانفتاح” الذي يجري على الصعيد الاقتصادي يقابله “انغلاق” على الصعيد الأيديولوجي ـ السياسي، لكن ذلك لا ينتقص من دلالة التحول الليبرالي الاقتصادي كمؤشر إلى المصير الأخير للنظام الصيني. بل يمكننا أن نتصور توغل الصين أكثر فأكثر في اتجاه الليبرالية الاقتصادية من دون اشتراط تغيير جوهري في البنية السياسية الأيديولوجية لنظامها. فالليبرالية الاقتصادية لا تتعارض مبدئياً أو بنيوياً مع الاستبداد السياسي. لذا يمكن تصور وجود “توتاليتارية” إيديولوجية وسياسية، في الصين أو في سواها من بلدان “النموذج”، متعايشة أو مترافقة مع ليبرالية اقتصادية متسعة. لكن ذلك لا يعود يعطينا الحق الفكري في اعتبار هذه البلدان بلدان “نموذج سوفياتي” مستمر، فضلاً عن عدم امتلاكنا أصلاً حق اعتبارها بلدان “خيار اشتراكي”.
وإلى ذلك نضيف أن بقاء أو زوال الاستبداد السياسي، بأسلحته السلطوية والأيديولوجية، هو أمر يتعلق بالتطور الإجمالي للمجتمع ولا تقرره درجة الأخذ بالليبرالية الاقتصادية، بل أن هذه الليبرالية الاقتصادية قد تكون أحياناً في أمس الحاجة إلى التسلح بالاستبداد السياسي المطلق حتى تتمكن من جعل قوانينها نافذة. وما نقوله في هذا المجال تشهد على صحته نماذج عدة من الأنظمة الرأسمالية النشطة في البلدان المتخلفة (جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية)، فضلاً عن أننا لا نستبعد إمكان المزاوجة بين الليبرالية الاقتصادية الوافدة وبين لون من ألوان الحكم الاستبدادي المطلق حتى في روسيا نفسها.
القسم الثاني: نظرة ثانية
إلى تاريخ الحركة الاشتراكية العالمية
لا يكتمل إلمامنا بأزمة الاشتراكية، التي استظلت بالماركسية اللينينية خصوصاً، إلا إذا شملت قراءتنا محطات فاصلة في تاريخ الحركة الاشتراكية العالمية كان لها أكبر الأثر في صوغ معالم التجربة الاشتراكية، فكراً وتنظيماً وممارسة، خلال الشطر الأكبر من القرن العشـرين. وإذ لا نريد الاسترسال طويلاً في هذا المجال نلخص قراءتنا المتجددة لتاريخ الحركة الاشتراكية العالمية في محطتين: الأولى ـ محطة إعلان الأممية الثالثة وانبثاق الحركة الشيوعية العالمية منها مطلع العشـرينات وما ترتب على هذا الحدث في تاريخ البشرية من تطورات خلال سبعة عقود، والثانية ـ محطة ظهور الماوية وحركات اليسار الجديد خلال الستينات وما ترتب على هذا الحدث أيضاً من تأثيرات ضمن الحركة الشيوعية العالمية فكراً وممارسة. على أن نفرد القسم الثالث من هذا البحث للاشتراكية الديمقراطية (الأوروبية الغربية) التي استقلت عن الشيوعية مطلع العشرينات، ثم تحللت أحزابها تباعاً وحثيثاً من الماركسية خلال العقود اللاحقة من القرن العشرين.
أولاً: نقد الأممية الثالثة والحركة الشيوعية العالمية
يكتسب نقد الأممية الثالثة (والحركة الشيوعية العالمية التي انبثقت منها) أهمية خاصة في سياق مراجعتنا الراهنة لتاريخ التجربة الاشتراكية الكونية. فنحن لم نتعود قراءة تجربة الأممية الثانية وحدها بنظارات الأممية الثالثة، بل تعودنا أيضاً أن نقرأ كل تاريخ الحركة الشيوعية العالمية اللاحق على العشرينات مستخدمين مقاييس الأممية الثالثة، لأننا كنا نعتبر انطلاقتها الأولى في العقد الأول من عمرها العصر الذهبي للاشتراكية الماركسية اللينينية، قبل أن يأتي عليها عصر الجمود الستاليني وقبل أن يدهمها عصر التحريف الخروتشوفي.
فكيف ننظر إلى الأممية الثالثة اليوم في ضوء نضوج سبعة عقود من الاختبار النظري والممارسة العملية، وفي ضوء ترصيد الحساب الفعلي لهذه الأممية حيث يبدو لنا أن كفة الخسائر التي ألحقتها بالحركة الاشتراكية العالمية تفوق فعلاً كفة الأرباح التي كانت تتوخى تحصيلها غداة قيامها قبل سبعة عقود ونيف؟
نسارع إلى القول جواباً عن هذا السؤال أن نظرتنا الثانية (الراهنة) إلى الأممية الثالثة تقع في باب النقد الجذري لما تأسست عليه هذه الأممية من فكر وتنظيم ولما انبثق منها على صعيد الحركة العملية. ولا تترك استعادتنا لحدث قيام الأممية الثالثة بقيادة لينين عام 1919، مجالاً للشك في أن القائد البلشفي كان ينطلق في عمله هذا من مفهوم لـ “الثورة البروليتارية العالمية” بالغ التبسيط وبعيد جداً من حيث توقعاته عن الوقائع. لقد صاح لينين ليلة انتصار ثورة أكتوبر قائلاً: “عاشت الثورة الاشتراكية العالمية”. واستكمل صيحته هذه فيما بعد شارحاً رأيه في هذا المجال بالقول: “لا يمكن تصور الانتصار الكامل للثورة الاشتراكية في بلد واحد، بل يتطلب الأمر تعاوناً نشطاً بين بضعة بلدان متقدمة على الأقل”. هكذا انطلقت عملية تشكيل أحزاب شيوعية في بعض بلدان أوروبا (الغربية) ومعها بدأت ترتسم معالم الانشقاق القادم على الحركة الاشتراكية. وانعقد خلال الربع الأول من عام 1919، المؤتمر الأول للأممية الثالثة شاملاً أحزاباً وأجنحة ومجموعات تنطلق كلها حسب إعلانها من “موقع ديكتاتورية البروليتاريا كما تجسدها سلطة السوفياتات في روسيا”. وانتهى المؤتمر إلى اتخاذ قرار بـ “تعميم التجربة الثورية للطبقة العاملة (الروسية)، وبتخليص الحركة الاشتراكية من خلائط الانتهازية والاشتراكية ـ الوطنية، وبتوحيد صفوف كل أحزاب البروليتاريا العالمية الثورية حقاً، وذلك من أجل تسهيل وتسريع انتصار الثورة الشيوعية في العالم كله”. وفي المؤتمر الثاني للأممية الثالثة المنعقد عام 1920، تحددت رؤية المؤتمرين لـ “الثورة العالمية الداهمة” على نحو ملموس وبوضوح أشد مما كان عليه في المؤتمر السابق. هكذا نقرأ: “تعتبر الأممية الشيوعية قضية روسيا السوفياتية قضيتها. ولن تضع البروليتاريا العالمية السيف في غمده إلا عندما تصبح روسيا السوفياتية إحدى حلقات اتحاد جمهوريات سوفياتية يشمل العالم”. ونقرأ: “تجسد الأممية الشيوعية إرادة البروليتاريا الثورية العالمية. وتتمثل مهمتها في تنظيم الطبقة العاملة للعالم بأسره من أجل قلب النظام الرأسمالي وإقامة الشيوعية… إن الظرف السياسي العالمي الراهن يضع ديكتاتورية البروليتاريا على جدول الأعمال المباشر”.
من هذه الأقوال وغيرها يتضح مدى التبسيط الفكري الذي انطلقت منه الأممية الثالثة في إطلاقها مقولة “الثورة العالمية” الواحدة أولاً، وفي افتراضها جاهزية المراكز الرأسمالية المتقدمة لاستقبال “ديكتاتورية البروليتاريا” ثانياً، وفي وصولها حد الحديث الحماسي عن راهنية “الشيوعية” في العالم كله ثالثاً.
ومن التبسيط الفكري الذي يسقط خصوصية الثورة الروسية على خصائص الوضع العالمي، ينبثق تبسيط تنظيمي يتم بموجبه إسقاط صيغة الحزب البلشفي على مفهوم التنظيم الاشتراكي في كل مكان. ففي شروط الانتساب إلى الأممية الثالثة نقرأ: “على الأحزاب المنتمية إلى الأممية الشيوعية أن تتشكل على قاعدة المركزية الديمقراطية. ولا يستطيع أي حزب شيوعي أن يضطلع بواجبه في الظرف الراهن أن لم يكن منظماً وفق أقصى درجات المركزية، وإن لم يكن مركز الحزب متمتعاً بأكثر السلطات والصلاحيات اتساعاً… وعلى الأحزاب (الاشتراكية) أن تتخذ اسم الشيوعية وتطهر صفوفها من العناصر الإصلاحية، وأن ينتخب كل منها لجنة مركزية تتوافر فيها نسبة الثلثين من أتباع الأممية الثالثة. كما ينبغي طرد كل العناصر التي ترفض شروط الانضمام إلى الأممية الشيوعية، والقطع مع الإصلاحيين المعروفين وضمان التطهير الدوري للأحزاب من العناصر البورجوازية الصغيرة…”. وفي مجال خضوع أو إخضاع كل الأحزاب الشيوعية لسلطة الأممية نقرأ: “إن تطبيق كل قرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية ولجنتها التنفيذية هو أمر إجباري. ويتوجب نشر الوثائق المهمة للأممية من جانب كل حزب. وينبغي أن يحظى برنامج أي حزب حول الوضع في بلده بمصادقة الأممية. وأخيراً على كل حزب أن يدعم من دون تحفظ الجمهوريات السوفياتية في مواجهتها للثورة المضادة”.
هكذا يرتسم أمامنا مجسم التبسيط التنظيمي الهائل الذي أتت به الأممية الثالثة، وهو تبسيط جرى بموجبه تصدير صيغة الحزب البلشفي اللينيني (المركزي الديمقراطي) إلى كل أنحاء العالم بصرف النظر عن تمايز التشكيلات الاجتماعية واختلاف الظروف السياسية بين بلدانه، وتمَّ وفق أحكامه إخضاع العلاقات بين أحزاب الأممية (وليس داخل كل منها فقط) لمبادئ المركزية الديمقراطية الصارمة. وهكذا وجد اشتراكيو العالم أنفسهم، مع إنشاء الأممية الثالثة، أمام قرار تشكيل حزب اشتراكي (شيوعي) عالمي واحد يخضع لقيادة واحدة وله مركز واحد يمارس سلطة فكرية ـ سياسية ـ تنظيمية كاملة على كل فروعه. ولم يكن أمراً غريباً أو مفتعلاً أن يندلع في صفوف الحركة الاشتراكية العالمية سجال ساخن حول صيغة الأممية الثالثة هذه، وأن يختلط في هذا السجال الموقف من ثورة أكتوبر بالموقف من الأممية الجديدة. ومن هنا بدأت نذر انشقاق الحركة تتجمع، ليتحول هذا الانشقاق واقعاً نشأ بموجبه منذ العام 1920، في أوروبا وفي سائر أنحاء العالم، مفهومان متجابهان للاشتراكية وشكلان متعاكسان للتنظيم السياسي وصيغتان متقابلتان للتشكيلات النقابية.
وحين نستعيد هذا الواقع التاريخي اليوم نستطيع القول إزاءه أنه إذا كانت إصلاحية بعض أحزاب الأممية الثانية ساهمت في تمهيد أجواء الإنشقاق ضمن الحركة الاشتراكية العالمية، فإن التبسيط الثوري، الفكري ـ السياسي ـ التنظيمي، الذي ولدت على قاعدته الأممية الثالثة هو الذي جعل انشقاق هذه الحركة أمراً حتمياً. وعلى أي حال فإن الأممية الشيوعية لم تكن تخفي مسؤوليتها الأساسية عن شق الحركة الاشتراكية، بل كانت تعتبره واجباً ثورياً يقع في باب “التطهير والتطهير الذاتي” طبقياً. على أن هذا الانشقاق الذي اعتبرته الأممية الثالثة إنجازاً مهماً في اتجاه “إغناء التجربة الثورية للطبقة العاملة”، كان في الواقع مصدر إفقار وإضعاف للحركة الاشتراكية العالمية، بل هو كبدها خسائر فادحة في صيغة صورة مؤذية سياسياً، وألوان من الجمود العقائدي والنبذ المتبادل ضارةً فكرياً، وضياع لفرص تأثير في مجرى تطور العديد من البلدان بالغ السلبية عملياً.
وما نشير إليه في هذا المجال تحول عنصر إعاقة كبيراً لنضالات سياسية ـ اجتماعية حاشدة في العديد من أنحاء العالم، وخصوصاً بعدما تبددت “الأحلام الثوية” الأولى التي رافقت قيام ثورة أكتوبر عام 1917 (وبعض المحاولات الثورية في ألمانيا والنمسا وهنغاريا عام 1918)، وصاحبت تأسيس الأممية الثالثة ونشاطها في السنوات الأولى من عمرها. وحين استقر الرأي في الاتحاد السوفياتي على نظرية “بناء الاشتراكية في بلد واحد”، وحين اتخذ هذا البناء صيغته المتسارعة تحت القيادة الستالينية، دخلت الأممية الشيوعية طوراً جديداً هو طور تبعية أحزابها للمركز السوفياتي في ظل شعار “الالتفاف حول الاتحاد السوفياتي وطن البروليتاريا العالمية”. ولا يتسع المجال هنا بالطبع لقراءة وافية تشمل كل محطات التحول والتمظهر في تاريخ العلاقات ضمن الحركة الشيوعية العالمية، من “الكومنترن” إلى “الكومونفورم” إلى مؤتمرات “الحزب الشقيق الأكبر”… ومن ستالين إلى خروتشوف إلى بريجنيف إلى غورباتشوف. حسبنا القول أن الحركة الشيوعية العالمية الملتفة “أممياً” حول المركز السوفياتي، دفعت في البلدان الرأسمالية المتقدمة ثمناً فادحاً لقاء تبعيتها لهذا المركز السوفياتي. ولم يكن الثمن أقل من انفصام نشأ بين برامج وسياسات وممارسات الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية وبين مجرى التطور الفعلي في بلدان القارة. وهو انفصام كان وجهه الآخر يتمثل في ولادة ماركسية أكاديمية (أوروبية غربية) بدأ أعلامها ينسحبون من أحزابهم، وبدأت هي تنسحب تباعاً من أرض الواقع إلى رفوف المكتبات. هكذا نشأ، في مقابل تحول الماركسية إلى أيديولوجيا تبرير للأمر الواقع القائم في بلدان “النموذج السوفياتي” وفي صفوف الحركة الشيوعية العالمية، نشأ لون آخر من ألوان تحول الماركسية إلى أيديولوجيا تمثل في نتاج فكري ماركسي أوروبي غزير لا صلة له بالواقع بل تتلخص كل وظيفته في الدفاع عن “نقاء” النظرية والسعي إلى إثبات صحة مقولاتها الأصلية.
أما في البلدان المتخلفة فقد دفعت الحركة الشيوعية التابعة للمركز السوفياتي ثمن تبعيتها مرتين: في المرة الأولى ـ عندما انعزلت عن مجرى حركة التحرر الوطني في بلدانها باسم “النقاء البروليتاري” تاركة للبورجوازيات الوطنية مهمة “قيادة المرحلة التحررية” وحدها، وفي المرة الثانية ـ عندما اندمجت بحركة التحرر الوطني في بلدانها تحت راية “نظرية التطور اللارأسمالي” السوفياتي التي أطلقها خروتشوف وراجت منذ مطلع الستينات. وهي النظرية التي شكلت جواز مرور العديد من الأحزاب الشيوعية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى الالتحاق بما بدأ يسمى اصطلاحاً “الأنظمة التقدمية السائرة على طريق الانتقال إلى الاشتراكية” والتي شهد العالم العربي ولادة نصف دزينة منها على الأقل. وحين نحاول ترصيد الحساب الفعلي لإنجازات هذه “الأنظمة التقدمية” التي لحقت بها أحزاب شيوعية عدة، نجد أنفسنا أمام محاولات استنساخ مشوه، تحت شعار “الاشتراكية” لنموذج النظام السوفياتي أفلحت في تقليد بعض أشكاله لكنها فشلت في تكرار إنجازاته. فلم تستطع الأنظمة المشار إليها بناء حيز واسع من التنمية الاقتصادية والاستقلال الاقتصادي، ولم تتمكن من إرساء تسوية طبقية تشكل ركيزة لتقدم اجتماعي حثيث أو لاندماج اجتماعي وطني – قومي ناجز، وعجزت عن إطلاق نهضة ثقافية علمية تقنية عصرية. أما ما ازدهر في هذه الأنظمة وكتب له الاستمرار فهو الاستبداد السياسي الذي حجز الديمقراطية واستبدلها ببعض طقوس الحكم السوفياتي، تحت عنوان “الديمقراطية الشعبية”، ولا سيما ما يتعلق منها بمقولة “الدور الطليعي للحزب” وبمصادرة الدولة لكل مؤسسات المجتمع الوطني.
وإذا كان كل أصحاب المشروع الاشتراكي أو الخيار الاشتراكي في العالم يواجهون اليوم تحدي تجديد صوغ مشروعهم أو خيارهم في ضوء انهيار النظام السوفياتي ومشتقاته، فإن هذا التحدي يبدو بالنسبة إلى الحركة الشيوعية العالمية (المتحدرة من الأممية الثاثة) مضاعفاً. فليس سراً أن النظام السوفياتي كان يشكل مصدر الإلهام الفكري الأول وأحياناً الأوحد للأحزاب الشيوعية، وكانت علاقتها به أساس تماسكها التنظيمي وقاعدة تضخم حجمها السياسي. وهي تعودت أن تضبط مبادرتها الفكرية على إيقاع المبادرات الصادرة عن المركز السوفياتي. هكذا وجدناها ترحب بالبروستريكا غداة انطلاقتها، وتتابع بالولاء والتأييد و”الإفتاء” مختلف ذبذباتها، ثم وجدناها تنفض يدها من هذه البروستريكا بعدما أزاحتها الأحداث عن سدة السلطة في الاتحاد السوفياتي وجعلتها في ذمة التاريخ. لذا نجد معظم أحزاب الحركة الشيوعية العالمية يتخبط اليوم وهو يحاول صوغ جواب عن سؤال: ما العمل؟ فهذه الأحزاب تواجه للمرة الأولى منذ تأسيسها مسؤولية التفكير المستقل، فضلاً عن كون البنى التنظيمية ـ الأيديولوجية الموروثة عن ماضيها السحيق تشكل عناصر إعاقة كبرى لقدرتها على إجراء مراجعة نقدية ضخمة تنطلق من تجديد البحث في الماركسية، لتجتاز محطات إعادة قراءة “اللينينية” و”السوفياتية” ومختلف تجارب الحركة الشيوعية، توصلاً إلى استكشاف معالم هوية فكرية متجددة وصيغة تنظيمية مختلفة وممارسة سياسية موصولة بالمستقبل. وعلى أي حال فإن الظاهرة الأغلب التي نجدها في هذا المجال هي ظاهرة القصور عن إطلاق حوار نظري ـ سياسي ـ تنظيمي خلاق في صفوف الحركة الشيوعية، الأمر الذي يجعل ما تشهده أحزاب هذه الحركة راهناً من خلافات أو اختلافات لوناً من التعبير عن عمق الأزمة وليس مشروعاً للرد عليها. وغني عن القول أن هذا الحكم الذي نطلقه يبدو أكثر انطباقاً على أحزاب المنطقة العربية من سواها، إذ هو يعبر عن الدور الحاسم الذي ظلت العلاقة بالاتحاد السوفياتي تلعبه في تاريخ هذه الأحزاب منذ تأسيسها وفي مختلف محطات تطورها.
ثانياً: نقد الماوية واليسار العالمي الجديد
يرتدي نقد اليسار العالمي الجديد أهمية خاصة بالنسبة إلى منظمتنا وهي تراجع اليوم الخيار الفكري الذي تأسست عليه. فلقد ولدت منظمتنا في حاضنة هذا اليسار، بل كانت إحدى منظماته، ولا يعفيها أفوله اليوم من المسؤولية عن الاستحضار النقدي لمقولاته، لأن هذا الاستحضار يقع في باب النقد الذاتي الذي لا بديل منه.
ولا بد من القول بداية أن اليسار العالمي الجديد كان إطاراً لعدد كبير من الأحزاب والتنظيمات والشلل توالدت وتكاثرت على امتداد الستينات ومطلع السبعينات في بلدان “العالم الثالث” وفي البلدان الرأسمالية المتقدمة على السواء. وإلى ذلك نضيف أن ما أعطى هذا اليسار قوته ووحدته، على رغم اختلاف منابته وتنوع إشكالياته، هو الوزن المتنامي للصين الشعبية بقيادة ماوتسي تونغ ضمن إطار الحركة الشيوعية العالمية وعلى الصعيد الدولي في آن. وعلى هذا الوزن نهضت مقاربة نظرية جديدة في تاريخ الماركسية، بعد المقاربة اللينينية، هي المقاربة الماوية (نسبة إلى ماوتسي تونغ). وسنرى حين نتوغل في التفحص النقدي لمقولات اليسار العالمي الجديد، الذي كنا جزءاً منه، أن الماوية تشكل المرجع الأكبر والمستند الأهم لهذه المقولات. لذا يصبح نقدنا هنا نقداً لمقولات الماوية واليسار العالمي الجديد في آن، مع التوقف أمام الفوارق فيما بينها حيث يمكن ويجب.
اتخذت الماوية بعدها العالمي الشاسع مع الانشقاق الكبير الذي اندلع ضمن الحركة الشيوعية العالمية مطلع الستينات وبدأ يتخذ صيغة مواجهة أيديولوجية سياسية (وأحياناً عسكرية) حادة بين الصين والاتحاد السوفياتي. وفي خضم هذا الانشقاق نشأ اليسار العالمي الجديد ملتزماً موقع الصين وتابعاً لها في بعض الأحيان. أما الفكر الذي تسلح به هذا اليسار فكان يحشد خليطاً من المقولات نكرر القول أن الماوية شكلت عنصر لحمته ومصدر وحيه الأساسي. ولننتقل من هذا التعميم إلى لون من التخصيص.
كان الخلاف على مبدأ التعايش السلمي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، الذي أعلنه خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي وشرع الاتحاد السوفياتي في محاولة تطبيقه منذ ذلك الحين، كان الخلاف على هذا المبدأ نقطة التباين الأساسية الظاهرة التي فجرت الانشقاق الصيني – السوفياتي وأطاحت وحدة الحركة الشيوعية العالمية. فلقد رد الحزب الشيوعي الصيني، في إطار مناظرة فكرية كبرى، على مبدأ التعايش السلمي بين المعسكرين والنظامين رداً قاسياً وحاداً. وأخذت الصين تقذف تهم التحريفية والمهادنة الطبقية والإصلاحية وخيانة الثورة العالمية في وجه الاتحاد السوفياتي. وارتفع شعار ماوتسي تونغ الشهير “الإمبريالية نمر من ورق” وهزيمتها أكيدة لذا لا بد من تشديد الهجوم عليها. وهو ما كان يرادف الدعوة إلى إطلاق “الثورة العالمية” من عقالها. هكذا وجدت الحركة الشيوعية العالمية في صفوفها، بعد أربعة عقود مضت على تأسيس الأممية الثالثة، من يقف ليجدد صيحة لينين الأصلية عام 1917 “عاشت الثورة الاشتراكية العالمية”. وغني عن القول أن اليسار العالمي الجديد بدأ ينشأ وأخذت صفوفه تنتظم تحت راية المقولة الماوية المتجددة حول “الثورة العالمية” التي يجب أن تستأنف انطلاقتها. ولا يصعب علينا القول أن افتراض “ثورة عالمية واحدة” كان ينطوي لدى ماو على تبسيط فكري مماثل للتبسيط الذي رأيناه لدى لينين، بل وعلى ما هو أفدح منه. لقد قادت مقولة “الثورة العالمية الواحدة” لينين في البحث عن مركز لهذه الثورة فكان المركز: “قبضة من البلدان الرأسمالية المتقدمة”. وكان لا بد للمقولة نفسها أن تقود الماوية واليسار الجديد إلى البحث عن مركز للثورة العالمية فإذا بالمركز هذه المرة: “مجموع البلدان المتخلفة”. على أن انتقال (أو نقل) مركز الثورة العالمية إلى “العالم الثالث” أو “البلدان الرأسمالية المتخلفة” أو “أطراف النظام الرأسمالي العالمي”، كان يقذف تحدياً نظرياً كبيراً في وجه يسار جديد يعلن التزامه الماركسية بل يعتبر نفسه قيماً على أصالتها. فكيف يمكن تفسير هذا الانتقال (أو النقل) انطلاقاً من نظرية ماركسية تربط “الثورة الاشتراكية” بالطبقة العاملة ربطاً محكماً؟ أمام هذا المأزق النظري اختار اليسار الجديد مخرجاً يمكن اعتباره أكبر عملية هروب فكري إلى الأمام في تاريخ الماركسية. وكان المخرج توسيع دائرة التحليل الماركسي ليصبح موضوعه تحليل الوضع العالمي بمجمله. ومن هنا ولدت الترسيمة الفكرية المبسطة التي تناسلت منها كل “النظريات العالم الثالثية” فيما بعد. وبموجب هذه الترسيمة تمت قراءة التقدم والتخلف على أنهما وجهان متقابلان ومتكاملان لعملة واحدة. فالاستغلال الامبريالي يحمل الثروة للبلدان الصناعية ويسمح لها برفع مستوى حياة طبقاتها العاملة، وهو يحمل في الوقت نفسه الفقر والبؤس إلى أكثرية الشغيلة في البلدان التابعة. ومن هنا تصبح جماهير هذه البلدان عنصر التحول الثوري ومفتاحه على الصعيد العالمي، بالمعنى الذي كان يعطيه ماركس لدور البروليتاريا الصناعية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن هذا التحليل انبثقت المقولة الماوية الشهيرة عن “العوالم الثلاثة: الرأسمالي والتحريفي والثالث”، وهي المقولة التي جرى بموجبها اعتبار “العالم الثالث البطن الرخو للنظام الرأسمالي العالمي” وحيث يمكن للضربة أو الضربات الثورية أن تؤتي نتائجها في صيغة “ثورة عالمية متواصلة الحلقات”. وغني عن القول أن اليسار الجديد الماوي كان يمارس وفق هذا التحليل لوناً من التخريج للماركسية يقارب الخروج عليها، إذ هو يتناول بالتبديل العامل الطبقي المقرر لقيام الثورة الاشتراكية. وهو تخريج نكرر القول أنه كان من التبسيط بمكان، وشكل نقطة انزلاق إلى ما هو أكثر غرابة على الصعيد الفكري. وهذا الأكثر غرابة كان يتمثل في طريقة اعتماد مقولة “حرب الشعب الطويلة الأمد” التي شكلت الصين مسقط رأسها، وتحولت إلى مقولة مفتاحية حاسمة في فكر اليسار الجديد جرى إسقاطها على الوضع العالمي كله ـ على اختلاف وتائر تطور بلدانه وقاراته ـ وفق تبسيط ما بعده تبسيط. ولا تتضح لنا هذه الغرابة التبسيطية إلا حين نستعيد شطحة التنظير الصينية لمقولة حرب الشعب على لسان لين بياو، وزير الدفاع الصيني في حينه والناطق الأمين بلسان ماوتسي تونغ، في كراسه الشهير “عاشت حرب الشعب الظافرة” وهو الكراس الذي كان أحد “الكتب المقدسة” لدى اليسار الجديد. لقد صدر الكراس عام 1965 واحتوى كمقدمة مقارنة بين الثورة الروسية (البروليتارية) والثورة الصينية (الديمقراطية الفلاحية)، لينتهي من هذه المقدمة إلى دعوة كل البلدان المتخلفة للاسترشاد بالاستراتيجية التي اتبعتها الثورة الصينية تحت قيادة ماو. أما مضمون الاسترشاد فيوضحه المقطع الآتي من كراس لين بياو: “إذا تفحصنا الوضع العالمي بمجمله نستطيع أن نعتبر أميركا الشمالية وأوروبا الغربية بمثابة “المدن”، فيما تشكل آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية “الريف”. وينبئنا الواقع أن الحركة الثورية للبروليتاريا في بلدان أميركا الشمالية وأوروبا الغربية الرأسمالية تراوح في مكانها مؤقتاً لأسباب عدة منذ الحرب العالمية الثانية، فيما تتسع وتنمو حثيثاً الحركة الثورية لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. لذا نستطيع القول بمعنى من المعاني أن الثورة العالمية تشهد اليوم وضعاً يحاصر فيه الريف المدن. مما يعني أن قضية الثورة العالمية ترتهن اليوم، وفي نهاية المطاف، بالنضال الثوري لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية حيث تعيش أغلبية سكان العالم”. وهكذا تتحول قضية “الثورة العالمية” ببساطة إلى قضية “عسكرية”. لقد قلنا في نقدنا للينينية أنها أسقطت الخصوصية الروسية على خصائص الوضع العالمي، فماذا نقول في الماوية التي تسقط “فنها العسكري” وفق كراس لين بياو على مجمل الوضع العالمي؟ لقد سلكت الثورة الصينية، كما هو معروف، مساراً اتخذ بصورة أساسية صيغة ثورة ديمقراطية وفلاحية انتصرت انطلاقاً من قواعدها في الأرياف عبر محاصرتها للمدن شيئاً فشيئاً توصلاً إلى إسقاطها في ختام “حرب شعبية طويلة الأمد”. هذا المثال الثوري الذي كان واقعياً في ظروف الصين ومنبثقاً منها، هو ما يقترح لين بياو على البلدان المتخلفة أن تطبقه على صعيد عالمي، مطالباً شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بشن حرب شعب عالمية طويلة الأمد لمحاصرة أميركا الشمالية وأوروبا الغربية وإسقاطها في يد “الثورة البروليتارية العالمية” في نهاية المطاف. إذا كانت هذه الأفكار تبدو لنا اليوم ناطقة بالشطط ولا تحتاج إلى طويل نقد لتبيان طبيعتها التبسيطية الفظة، فإن ذلك لا يلغي كونها شكلت على امتداد الستينات ومطلع السبعينات بديهيات ثورية حاسمة بالنسبة إلى اليسار الجديد.
ومن هذا المفهوم الصيني للثورة العالمية أطل اليسار الجديد ـ ودائماً بالصراع مع “التحريفية السوفياتية” ـ على مقولة الثورة الثقافية التي أطلقها ماو رداً على النموذج السوفياتي في “بناء الاشتراكية” والذي رأى فيه منذ منتصف الستينات عودة “إلى الرأسمالية”. انطلقت مقولة الثورة الثقافية من صوغ ملاحظة صحيحة حول واقع النظام السوفياتي. ومؤدى الملاحظة أن نمط تنظيم الاقتصاد ليس العامل الحاسم في التقدم نحو الاشتراكية، بمقدار ما تشكل الطبيعية الطبقية للسلطة هذا العامل الحاسم. وإذ جرى اعتبار النظام السوفياتي بورجوازية دولة، بدأ البحث ينصب حول شروط تغيير العلاقات الاجتماعية ما دامت ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وخطتها الاقتصادية المركزية لم تفلحا في تغيير هذه العلاقات. لقد قالت أطروحة ماركس المادية التاريخية الأصلية أنه يكفي تحويل المحيط الاقتصادي ـ الاجتماعي حتى يتم تحويل الإنسان. لكن نموذج النظام السوفياتي كان يشير إلى نتائج معاكسة لهذه الأطروحة. ومن هذه النقطة بالضبط تسلسلت المحاولة الماوية النقدية توصلاً إلى بلورة مقولة الثورة الثقافية البديلة. لقد كان هدف خلق “طبيعة بشرية اشتراكية” هدفاً أساسياً في نظر ماو على الدوام. فالثورة ليست عملاً يقوم وينتهي مرة واحدة، بل ينبغي أن تستمر الثورة على امتداد مرحلة تاريخية طويلة، إذ يتعلق أمرها بإلغاء الإرث الأخلاقي والأيديولوجي المتحدر والمستمر منذ قرون. ولا يجوز أن تكتفي بتحويل بنى الاقتصاد وتنظيمه، بل يجب عليها تحويل العلاقات الاجتماعية. ولكي تتمكن البروليتاريا من تثوير العلاقات الاجتماعية عليها أن تحول نفسها، أي أن تحول روحها وعقلها. هكذا رأى ماو أنه لضمان عدم تدهور الثورة الصينية على الطريقة التي تدهورت بها الثورة الروسية لا بد من إطلاق “ثورة ثقافية”. ولقد فهم هذه الثورة الرامية إلى “تحويل الطبيعة الإنسانية” على أنها مسار صراع طبقي في الحزب وفي المجتمع يجب أن يستمر إلى ما لا نهاية. هكذا برزت، عبر مقولة “الثورة الثقافية” الماوية، محاولة جديدة كلياً في تفسير الماركسية ومتجرئة عليها بما لا قياس له سابقاً. فلم يعد تحويل البنى الموضوعية ـ بموجب هذه المقولة ـ هو الضامن لتحويل فكر الإنسان وتبديل وعيه الاجتماعي. بل ينبغي النظر ـ ودائماً حسب المقولة ذاتها ـ إلى الأمر من زاوية معاكسة بمعنى من المعاني، أي من الزاوية التي ترى في تحويل فكر الإنسان وذهنيته العنصر المقرر لإقامة “علاقات اجتماعية” من نمط جديد. وفي تقويمنا النقدي لمقولة “الثورة الثقافية” هذه نشير إلى أنه إذا كان صحيحاً وجود دور فعلي لعامل الفكر والوعي في تحويل العلاقات الاجتماعية، لكننا لا نستطيع أن نرتب على ذلك أطروحة نظرية جل ما تفعله هو أنها تقلب المادية التاريخية الاقتصادوية في الماركسية على رأسها لإحلال لون من المثالية التاريخية الإنسانية مكانها. فالحل لمعضلة الاقتصادوية في الماركسية، ولمعضلة “البناء غير الاشتراكي” في الاتحاد السوفياتي أيضاً وأساساً، كان يتطلب نظرات أعمق بكثير مما ذهبت إليه مقولة الثورة الثقافية الماوية. ولكن بما أن ماوتسي تونغ لم يكن في وارد الخروج على الترسيمة الإجمالية للنظام السوفياتي جوهرياً، فإنه مارس عملية هروب فكري متمادٍ إلى الأمام في مواجهة أزمة هذا النظام، وهو ما اتخذ مرة أولى صيغة “القفزة الكبرى نحو الشيوعية” نهاية الخمسينات، ليتخذ مرة ثانية صيغة “الثورة الثقافية” منتصف الستينات. وعلى أي حال فإن التاريخ سرعان ما أتى يحكم في غير مصلحة مقولة “الثورة الثقافية” بل هو انتهى إلى تبديد كل نتائجها وتصفية كل مشتقاتها. ففي نهاية صيف العام 1971 قتل لين بياو في حادث طائرة تبين فيما بعد أنه كان يستقلها هارباً إلى الاتحاد السوفياتي. وكان الحدث في حينه من الضخامة بحيث أتى يزعزع مقولة الثورة الثقافية من أساسها. ذلك أن لين بياو، وزير الدفاع الصيني في حينه، كان أقرب رفاق ماوتسي تونغ إليه، مثلما كان المشرف على إصدار “الكتاب الأحمر” (إنجيل الثورة الثقافية). بل يمكن القول أن لين بياو كان أكبر منظري الثورة الثقافية، وإليه تعود صياعة كل الطروحات الأيديولوجية الكبرى التي شكلت ما سمي “الماركسية الثورية” لليسار الجديد في الغرب وفي “القارات الثلاث” على السواء: من الطروحات حول المدينة والريف وحول الإمبريالية والعالم الثالث، إلى الطروحات حول أولوية السياسة على الاقتصاد وضد النظرة “التحريفية” التي تراهن على الاكتشافات التكنولوجية والتصنيع السريع و”العقلانية الاقتصادية” والحوافز المادية. لذا فإن “سقوط” لين بياو على هذا النحو وهو في طريقه إلى الاتحاد السوفياتي “التحريفي”، وصعود دينغ سياوبنغ الذي كان يعلن “لا مبالاته الأيديولوجية حيال لون القطة ما دامت قادرة على صيد الفئران” في إشارة إلى ضرورة إعادة الاعتبار للمقاييس الاقتصادية الصرف، إن هذين الحدثين شكلاً إيذاناً بدخول أسطورة “الثورة الثقافية” طور الذبول. وفي خريف عام 1976 مات ماوتسي تونغ ليبدأ بعد موته عصر الإرتداد الكبير في الصين عن مقولة الثورة الثقافية التي أصبحت النظرة اليها تصنفها في عداد المغامرات الكارثية الهوجاء التي أعاقت تطور الصين وسببت لها خسائر فادحة. وفي موازاة التحول نحو لون من الليبرالية الاقتصادية “ما فوق التحريفية” في الداخل، بدأت الصين تغير سياستها الدولية جوهرياً في الخارج. فعقدت معاهدة تحالف مع اليابان. ونسجت أوثق العلاقات مع الولايات المتحدة، ولم تترك نظاماً رجعياً في العالم إلا وانفتحت عليه مما بدد نهائياً أسطورة مركز “قيادة الثورة العالمية” في بكين، التي ازهرت خلال الستينات.
وبعد هذا العرض للتخريجات النظرية الأساسية التي اعتمدها اليسار الجديد مسترشداً بالماوية ومستوحياً “ثورتها الثقافية”، يجدر بنا التوقف أمام التمايز في تلاوين هذا اليسار الجديد بين الغرب الرأسمالي المتقدم من ناحية وبين “العالم الثالث” المتخلف من ناحية ثانية. بالنسبة إلى اليسار الجديد في “العالم الثالث” لم يكن الاسترشاد بالماوية يطرح أي مشكلة لأنها كانت في الأساس محاولة للرد على معضلات تطور البلدان المتخلفة. أما اليسار الجديد في أوروبا الغربية فإنه مضطر إلى المزاوجة بين الماوية كنظرة إلى الوضع العالمي وكدليل مرشد لصنع “الثورة العالمية”، وبين تخريجات “ماركسية” ذات نكهة أوروبية خاصة. وهي تخريجات ذهبت بعيداً في تحليلها لأوضاع المراكز الرأسمالية المتقدمة وسبل قيام “الثورة” فيها. ونورد من التخريجات المشار إليها هنا ما يتعلق برؤية دور الطبقة العاملة في المراكز الرأسمالية المتقدمة، حيث بدت هذه الطبقة في نظر اليسار الجديد مندمجة كلياً بأنظمتها الرأسمالية مما يسقطها من حساب القوى “الخارجية” عن دورة النظام الرأسمالي والتي لا مكان لها ضمن تراتبية تقديماته. ومن هنا كانت دعوة اليسار الجديد الغربي إلى التوجه نحو البروليتاريا الرثة في حواضر المراكز الرأسمالية المتقدمة، وإلى استنهاض الفئات الاجتماعية الهامشية والمنبوذة، وتنظيم العمال الأجانب والعاطلين عن العمل والمضطهدين عنصرياً، وتشديد نضال الحركات النسوية وكل الذين يعانون من استغلال النظام الرأسمالي وقمعه بأشكال مادية فظة. فهؤلاء جميعأً يحتلون في المجتمع موقعاً هامشياً خارج المسار “الديمقراطي البورجوازي”، لذا فإن معارضتهم هي معارضة ثورية بالطبيعة والتعريف وهي قادرة على تسديد الضربات إلى النظام الرأسمالي من خارجه بالنظر إلى عجزه عن احتوائها في داخله. على أن هذه المعارضة الثورية يجب أن تعمل دائماً بالتعاون مع الجماهير المسحوقة لشعوب “العالم الثالث”. وبكلمة أخرى اتخذ عمل اليسار الجديد في المراكز الرأسمالية المتقدمة صيغة “رفض كبير” ذهب حد “إدانة المجتمع الصناعي” من أساسه طرائق إنتاج، ومضامين علم، ومناهج تقنيات، وأنماط استهلاك، وقيم حياة. وهو، هذا “الرفض الكبير”، ما كان في أساس “الثورة الطلابية” التي اندلعت في غير عاصمة أوروبية غربية عام 1968. وكان طبيعياً أن يسارع اليسار الجديد إلى احتضان هذه “الثورة” والاندماج فيها والتنظير لها. وتمحور التنظير حول مقولة الدور الثوري الجذري الذي يستطيع الطلاب الاضطلاع به دون سواهم، أو طليعة لسواهم من القوى الاجتماعية، بالنظر إلى كونهم يقعون خارج دائرة علاقات الإنتاج الرأسمالية التي استوعبت الطبقة العاملة وقضت على خصائصها الثورية. وإذ لا نود الاسترسال طويلاً في هذا المجال نشير إلى أن “الثورة الطلابية” الأوروبية المندلعة عام 1968 وجدت مقولة “الثورة الثقافية” الماوية مادة ملائمة لاشتقاق الشعارات مما حولها إلى لون من “الحركة الماركسية الفوضوية” بمعنى من المعاني. ومن هنا كان انتقالها من الاصطدام بالنظام إلى معارضة الدولة، ومن هنا نبعت مناداتها بوضع “الشيوعية” على جدول أعمال النضال الراهن وكهدف للتطبيق الفوري.
يبقى أن نتوقف، في ختام هذه الملاحظات النقدية أمام المآل الأخير الذي انتهى إليه اليسار العالمي الجديد في الغرب الأوروبي وفي “القارات الثلاث” على السواء. لقد دخل هذا اليسار طور التفكك الأخير خلال النصف الثاني من السبعينات. صحيح أن المسيرة المتواصلة للثورة الفيتنامية ظلت تشكل في هذه الفترة مستنداً فكرياً وعملياً لبعض بقايا اليسار الجديد في غير مكان من العالم. لكن فشل الماوية، بمختلف مقولاتها النظرية والعملية وفي الطليعة منها مقولة “الثورة الثقافية”، كان العنصر الحاسم في رسم ملامح النهاية الإجمالية لليسار الجديد. وإلى هذا العنصر كانت تضاف عناصر أخرى متصلة بالتطورات الداخلية، الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية ـ الأيديولوجية، في بلدان أوروبا الغربية لعبت دوراً مهماً في تقليص الهوامش الاجتماعية لليسار الجديد في الغرب. مثلما كانت تضاف النتائج الضحلة للآمال التي علقتها شعوب البلدان المتخلفة على “ثوراتها” والتي أتت تنتزع من اليسار الجديد في “العالم الثالث” معظم مبررات وجوده.
هكذا شهدنا ظاهرات مثيرة في غير بلد أوروبي انخرط بموجبها بعض اليسار الجديد في أحزاب اشتراكية ديمقراطية غير ماركسية، وتحول بعضه الآخر إلى رافد أساسي في عملية تشكيل أحزاب “الخضر” وحركات البيئة في امتداد “رفضه الكبير” للمجتمع الصناعي، واعتزال بعضه الأخير السياسة من أساسها. أما في “العالم الثالث” فإن تنظيمات اليسار الجديد التي كتب لها الاستمرار، في ظل الكثير من التحوير الفكري والسياسي والتنظيمي لتراكيبها الأصلية، هي تلك التي اقترن وجودها ونشاطها بوجود قضايا وطنية كبرى من مثل القضية الفلسطينية. لكن هذه التنظيمات بدأت تسير حثيثاً نحو المصالحة الأيديولوجية الكاملة مع “النموذج السوفياتي” فكراً ونفوذاً سياسياً. بل إن بعضها أصبح جل طموحه أن يتم قبوله، بشكل أو بآخر، في إطار الحركة الشيوعية العالمية ذات المركز السوفياتي.
فماذا عن منظمتنا في هذا السياق؟ ـ لقد كان الانشقاق الذي شهدته المنظمة عام 1973، بشهادة وقائعه ووثائقه، نتاج صراع حاد اندلع في صفوفها حول الأفكار المتحدرة إليها من حقبة التأسيس، أي من حقبة انتسابها الكامل من دون تحفظ إلى تيار اليسار العالمي الجديد بقيادته الماوية. ومن المعروف أن المنظمة التي بقيت بعد الانشقاق هي منظمة النقد والرفض للكثير من أفكار هذا اليسار الجديد. على أن النقد لم يصل، في حينه، حد الحسم في هويتنا الفكرية البديلة. ومن هنا كان الاقتناع في ذلك الوقت، بضرورة التوجه نحو عقد مؤتمر ثانٍ للمنظمة يستكمل نقد موضوعات نشأتها “اليسارية الجديدة” ويوضح عناصر تمايزها عن الحركة الشيوعية العالمية عموماً والحزب الشيوعي اللبناني خصوصاً، في آن. لكن المؤتمر لم ينعقد في موعده الذي كان مفترضاً، قبل العام 1975، كما هو معروف. ثم اندلعت الحرب اللبنانية لتدخل المنظمة مساراً سياسياً جديداً أصبح معه اقترانها بالقضية الوطنية اللبنانية، الناشئة في كنف القضية الفلسطينية، علّة وجودها الأساسية ومصدر دورها النضالي الأول. ولسنا الآن في صدد عرض مختلف محطات هذا الدور أو الإلمام بكل إنجازاته وإخفاقاته. حسبنا القول أن التعليق المديد للمؤتمر العام الثاني وعدم الفصل باكراً في هويتنا الفكرية البديلة، جعلا منظمتنا في حال أزمة فكرية مزمنة لم تقلل من أهميتها، وأن تكن خففت وطأتها، نجاحات العمل السياسي الوطني الديمقراطي الذي مارسناه على رأس الحركة الوطنية اللبنانية حيناً وفي صفوف المعارضة الشعبية دائماً، خلال السبعينات والثمانينات وصولاً إلى مطلع التسعينات. هذه الأزمة الفكرية المستمرة معلقة في منظمتنا منذ عشرين عاماً هي التي نضعها اليوم، عبر التقدم الحثيث نحو عقد المؤتمر العام الثاني، موضع حسم أخير طال انتظاره.
القسم الثالث: نقد الاشتراكية الديمقراطية
يرجع اهتمامنا بأفراد قسم خاص من هذا البحث لنقد الاشتراكية الديمقراطية الغربية المعاصرة إلى أسباب عدة أهمها: أن الاشتراكية الديمقراطية القائمة اليوم هي بنت الحركة الاشتراكية الأصلية التي نشأت في أوروبا الغربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشـر، وأن الاشتراكية الديمقراطية “الأصلية” ظلت متعايشة مع الماركسية في إطار حركة واحدة (الأممية الأولى والأممية الثانية) منذ نشأتها حتى مطلع العشرينات من هذا القرن، وإن أغلبية أحزاب الاشتراكية الديمقراطية الراهنة ذات تراث “ثوري” بل وماركسي أيضاً كان لصيقاً بها قبل أن تطرأ عليها تحولات بنيوية أساسية.
وإلى هذه الاعتبارات الفكرية “المبدئية” نضيف أننا لا نستطيع، ونحن نجدد البحث في الاشتراكية فكرة وحركة وممارسة، أن نسقط من الحساب أي جانب من جوانب “التجربة الاشتراكية” كما تحققت على الصعيد الكوني. بل إن “التجربة الاشتراكية الكونية” يجب أن تشكل الحقل المتكامل لبحثنا إذا أردنا لهذا البحث أن يستقيم على قاعدة منهج موضوعي وعلمي. مما يعني أننا نجزم هنا بخطأ شطب الاشتراكية الديمقراطية (الغربية المعاصرة) من تاريخ وواقع الحركة الاشتراكية والعمالية في العالم، مخالفين بذلك الموقف اللينيني في هذا المجال، والذي اتخذ كما رأينا صيغة الشطب بالتخوين قبل قيام الأممية الثالثة ليتخذ صيغة الشطب بنزع صفة الاشتراكية أصلاً من أحزاب الاشتراكية الديمقراطية بعد قيام الأممية الثالثة.
هل يعني هذا أننا نهتم بالبحث عن الاشتراكية الديمقراطية (الغربية المعاصرة) لأننا نعتبرها “الاشتراكية الواقعية” التي عرفها التاريخ بصرف النظر عن “المشروع الاشتراكي الأصلي”؟ الجواب: كلا. لقد رفضنا أن نلتزم في معرض توصيف “النموذج السوفياتي” ومشتقاته مصطلح “الاشتراكية المتحققة” الذي راج طويلاً وكثيراً، فكيف نقبل استخدام مصطلح “الاشتراكية الواقعية” في مجال توصيف نتائج تجربة الجناح “الاشتراكي الديمقراطي” الغربي من الحركة الاشتراكية العالمية، وهي التجربة التي ابتعدت حتى عن أوليات “المشروع الاشتراكي الأصلي”؟ نحن نبحث في الاشتراكية الديمقراطية إذن من باب نقد تجربتها، لأن هذه التجربة تعنينا من ناحية ولأن نقدها مهمة فكرية تخصنا من ناحية ثانية. ومن هذا التقديم لأهمية نقد الاشتراكية الديمقراطية ننتقل إلى جلاء مضمون النقد نفسه.
اتخذت الثقافة السياسية الاشتراكية الديمقراطية خلال العقود الأولى من القرن العشرين صيغة تلازم فيها التمسك بالديمقراطية وبما تتيحه من إصلاحات ممكنة من ناحية، مع الاستمرار في التزام افق ثوري يرمي إلى التغيير الجذري للمجتمع من ناحية ثانية. ومنذ عام 1917، بدأ الاشتراكيون الديمقراطيون الغربيون يقدمون هويتهم الفكرية في صيغة رفض للثورة الروسية ولنظام الحكم المنبثق منها. لكن رفض اللينينية و”الديكتاتورية” اتخذ، ضمن الثقافة الاشتراكية الديمقراطية السائدة في حينه، شكل رفض للعنف الثوري فقط. وطرحت هذه الثقافة مبدأ الوصول الاشتراكي إلى السلطة سلمياً عن طريق صناديق الاقتراع بديلاً من انتفاضة العنف الثوري. مما يعني، بموجب هذا المنطق، أن على الحزب الاشتراكي الديمقراطي انتظار الحصول على الأغلبية (في البرلمان) حتى يضع برنامجه الهادف إلى تحويل المجتمع موضع التنفيذ. لقد كانت هذه الوجهة المضادة للعنف الثوري أول الحواجز العالية التي بدأت تنتصب بين الاشتراكية الديمقراطية (المنتظمة في الدولية الاشتراكية) وبين الماركسية وحركتها الشيوعية (المحتشدة في الأممية الثالثة) منذ العام 1920.
وإلى نبذ العنف الثوري انتشرت في صفوف الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، خلال العشرينات، فكرة ضرورة التدرج في تحويل المجتمع. مما كان يعني أنه لا يكفي الحصول على الأغلبية البرلمانية حتى يصبح ممكناً تحويل النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي من أساسه دفعة واحدة. لكن الهدف الأخير المعلن للاشتراكيين الديمقراطيين ظل، طوال هذه الفترة، هدف التحويل الأساسي للمجتمع الذي يشكل التملك الجماعي الاجتماعي لوسائل الإنتاج رمزه الأساسي. ولا يصعب علينا أن نقول هنا أن التزام الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الوجهة الفكرية القائلة بالتحويل السلمي التدريجي للمجتمع كان يعني أنها هجرت “الثورة” فعلياً وتحولت أحزاباً إصلاحية. على أن هذا الطابع الإصلاحي الذي اتخذته الهوية الجديدة للاشتراكية الديمقراطية لم يقطع كل وشائج صلتها بالماركسية، بل استمر الإرث الماركسي المتحدر إليها من عصر الأممية الثانية فاعلاً بصورة جزئية، في بعض تحاليلها الاجتماعية وبرامجها السياسية، ردحاً من الزمن. وكان علينا أن ننتظر مطلع الستينات حتى نشهد القطيعة الشاملة الكاملة بين جميع أحزاب “الدولية الاشتراكية” وبين آخر بقايا الإرث الماركسي.
هل ترانا ننزلق هنا إلى لون من الاستعادة لمسيرة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الغربية، بين مطلع العشرينات ومطلع الستينات، في صيغة تأريخ لأفكار تتبدل وتتغير على غير صلة واضحة بالتبدلات الحاصلة ضمن بنى المجتمعات الرأسمالية الأوروبية خلال الحقبة نفسها؟ ـ كلا، بالطبع. فما أوردناه حول التحولات الفكرية ـ السياسية ـ البرنامجية التي شهدتها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية لا يكتسب معناه إلا بالعلاقة مع مجريات التطور الذي عرفته بنى الرأسمالية الأوروبية على امتداد النصف الأول من القرن العشرين عموماً، وفي أعقاب الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929، والحرب العالمية الثانية عام 1945، خصوصاً. لقد اتخذ هذا التطور، كما سبق ورأينا، صيغة ولادة تسوية طبقية جديدة في إطار النظام الرأسمالي. وكان انخراط الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في هذه التسوية منبع كل التحولات الفكرية ـ السياسية ـ البرنامجية التي عرفتها هذه الأحزاب على امتداد عقود، وما زالت فصولها تتوالى ضمن صفوفها حتى الآن. ونوجز جوهر هذه التحولات، التي تكثفت بعد أزمة العام 1929، بالقول: أن حركة عمالية قومية منظمة تنظيماً جيداً على قاعدة علاقة متينة بين أحزاب اشتراكية ديمقراطية ونقابات عمالية، قبلت الإطار الإجمالي لاقتصاد السوق الرأسمالي لتحصل في المقابل على بعض التعديلات في بنية الرأسمالية. وبموجب هذه التعديلات انتزعت الحركة العمالية مكاسب تمحورت حول رفع القيمة الفعلية للأجور أولاً، وإنشاء الضمان الاجتماعي وتقويته ثانياً، وتقليص الفوارق بين المداخيل من خلال النظام الضريبي ونظام التقديمات الاجتماعية ثالثاً، والسيطرة على الاضطرابات الاقتصادية عبر تدخل الدولة وفق السياسات المالية المناسبة رابعاً وأخيراً.
هذا الاتساع النسبي في الإنجازات التي حققها “عالم العمل” بموجب التسوية الطبقية المشار إليها كان يستند في الواقع إلى عاملين أساسيين: العامل الأول ـ يتمثل في النمو الاقتصادي الاستثنائي الذي عرفه العالم الرأسمالي عموماً، والعالم الرأسمالي الأوروبي الغربي خصوصاً، بين نهاية الحرب العالمية الثانية ومطلع السبعينات. وهو نمو دفعت الطبقات العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة ثمنه غالياً، من خلال إخضاعها لوتائر ونظم عمل قاسية، تطلباً لزيادة إنتاجية العمل وفق نسبة لا سابق لتصاعدها في تاريخ الإنتاج الرأسمالي. والعامل الثاني ـ يتمثل في عوائد السيطرة الاقتصادية التي ظلت البلدان الرأسمالية الكبرى تجنيها على الصعيد العالمي.
وبكلمة أخرى ينبغي القول أن “التسويات الطبقية القومية” التي شهدتها البلدان الأوروبية الغربية قامت أساساً على الجهد المطلوب من الطبقات العاملة في هذه البلدان من ناحية، وعلى الجهد المفروض على الطبقات المنتجة في البلدان التابعة من ناحية ثانية. وإذ شكلت أحزاب الاشتراكية الديمقراطية أطرافاً في هذه “التسويات الطبقية القومية” حيثما تيسر لها ذلك، كان من الطبيعي أن يصل بها هذا المنحى حد القطع النهائي مع مجمل “الموقف الاشتراكي التقليدي” المضاد للرأسمالية. فإنجازات الاشتراكية الديمقراطية أصبحت مرهونة، بعد الآن بحسن سير الرأسمالية لا بتعثرها. وهو ما يشهد عليه حالياً واقع الأزمة المتصاعدة في صفوف الاشتراكية الديمقراطية كانعكاس لواقع الأزمة المتجددة احتداماً في البنى الرأسمالية.
فمنذ مطلع السبعينات تجتاز الرأسمالية العالمية طور أزمة متجددة أتى يضع حداً للنمو الاقتصادي الاستثنائي الذي شهدته بين عام 1945 وعام 1970. وقد تصاعدت وتيرة هذه الأزمة خلال الثمانينات لتبلغ ذروة جديدة مع مطلع التسعينات. وفي موازاتها وجدت الاشتراكية الديمقراطية نفسها في فخ مراهنتها الكلية على استراتيجية “التسوية الطبقية القومية” في إطار اقتصاد رأسمالي. مما يفرض عليها اليوم أن تكون شريكاً مسؤولاً في البحث عن الوسائل الكفيلة بتجديد “حسن سير” الرأسمالية، وهو أمر يعادل اضطرارها إلى اشتقاق “تسوية جديدة” أدنى في تقديماتها الاجتماعية من التسوية السابقة، وأكثر اختلالاً في مصلحة رأس المال وضد مصلحة “عالم العمل” هذه المرة. وهو ما بدأت طلائعه تظهر في غير مكان من القارة الأوروبية الغربية. وهنا يجدر القول أن الاشتراكية الديمقراطية تجد نفسها اليوم، وهي تواجه مسؤولية اشتقاق تسوية طبقية جديدة، أمام صعوبة إضافية كبرى تتمثل في التداخل الشديد بين اقتصادات العالم الرأسمالي، مما باتت معه الأطر القومية أطراً أضيق بكثير من أن يشكل أي منها مدىً اقتصادياً ملائماً لإنتاج تسوية طبقية قومية مرشحة للاستقرار والاستمرار.
فيما مضى ولدت الاشتراكية الأوروبية رداً على أزمة الرأسمالية، أما اليوم فتبدو أزمة الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية مظهراً من مظاهر أزمة الرأسمالية. ولا نبالغ إذ نختم هذا القسم من البحث بالقول أن أزمة الاشتراكية الديمقراطية الغربية في الظرف الراهن أزمة بنيوية أعمق من كل سابقاتها، وهي تطاول هويتها الفكرية وتركيبها الاجتماعي ونصها البرنامجي وصيغتها التنظيمية وممارستها السياسية في آن.
القسم الرابع: خلاصات واستنتاجات عامة
نختم هذا النص التحليلي النقدي حول الاشتراكية بتسجيل الخلاصات والاستنتاجات التالية:
أولاً: في الأصل كانت الحركة الاشتراكية وفي إطارها ظهرت الماركسية مشروعاً كلياً مطلقاً للتغيير الاجتماعي البشري على قاعدة من التنبؤ بحتمية تاريخية. وقد اجتاز هذا المشروع الكلي المطلق اختبار قرن ونصف القرن: من الفكرة إلى الحركة إلى الثورة إلى الدولة، فلم يحكم له التاريخ بالنجاح بل حكم عليه بالفشل. لذا لا محل اليوم لتقييد اشتراكيتنا بقيد الالتزام الكلي بالماركسية منهجاً ونتائج تحليل ونموذج تطبيق. وإذ نقرر إننا إشتراكيون، لا نرى مبرراً لاستمرارنا حاملين صفة الماركسيين. على أن الماركسية تبقى في نظرنا جزءاً من تراث الحركة الاشتراكية لا يمكن شطبه، بل ينبغي حفظ اعتباره، والانفتاح عليه، واستيحاء كل ما هو صحيح منه. وفي الماركسية نظرات علمية تشكل حقلاً معرفياً ضخماً ينبغي عدم التردد في الاستناد إليه ونحن نرتاد آفاق تجديد خيارنا الاشتراكي. فالفارق كبير ومهم بين القول الصحيح أن لا محل لتقييد اشتراكيتنا بقيد الالتزام الكلي بالماركسية، وبين القول الخاطئ أن اشتراكيتنا لا تتجدد إلا بمقدار ما تتنكر كلياً للتراث الماركسي.
ثانياً: إذ نعيد النظر في التزامنا الماركسي وفي صفتنا الفكرية الماركسية، لا بد من أن نقرر أن الهوية الشيوعية التي نحمل لم تعد تصلح وجهاً للاشتراكية المتجددة التي نسعى إلى اشتقاق مفاهيمها وصوغ برنامجها وتأسيس التنظيم الملائم مع متطلباتها. مما يعني أن النص الذي أقره مؤتمرنا الأول تحديداً لاسم المنظمة لم يعد نصاً صالحاً أو كافياً لتثبيت الهوية الشيوعية لمنظمتنا وللمحافظة على اسمها الحالي، الأمر الذي يوجب اشتقاق اسم جديد للمنظمة يتطابق فعلاً مع هويتها الفكرية الجديدة.
ثالثاً: لا محل لانخراطنا في دائرة الاشتراكية الديمقراطية الممثلة بالدولية الاشتراكية، بعدما انتقلت هذه الاشتراكية الديمقراطية، على امتداد القرن العشرين، من تيار ضمن الحركة الاشتراكية إلى صيغة تسوية ضمن الرأسمالية.
رابعاً: بعدما حددنا اشتراكيتنا سلباً، فقلنا أنها لن تكون التزاماً كلياً بالماركسية ولا تنكر مطلقاً لها، وأنها لن تكون ذات هوية شيوعية أو وجه اشتراكي ديمقراطي غربي، يتوجب علينا أن نعين الحقل الذي سنستقي منه مادة تحديد وتجديد اشتراكيتنا إيجاباً. وفي هذا المجال نرى أن العودة إلى الأهداف الأصلية للاشتراكية لا تشكل وحدها أساساً صالحاً لصوغ مشروع اشتراكي جديد. فلا يمكن شطب وقائع قرن ونصف القرن من تاريخ الحركة الاشتراكية للعودة إلى أفكار الرواد الاشتراكيين الأوائل كما ظهرت منتصف القرن التاسع عشـر لأن ذلك يعادل الدعوة الى لون من “الأصولية الاشتراكية” لا محل لها في القرن العشرين. لذا يتعين علينا أن نستقي مادة تحديد وتجديد نظرتنا إلى الاشتراكية من مصدرين أساسيين: أولهما ـ تجديد فهم أزمة الرأسمالية في واقعها الراهن خلال العقد الأخير من القرن العشرين، والثاني ـ رؤية حدود الديمقراطية المتحققة في عالم اليوم واستكشاف أزمتها من جديد. ففي هذين المصدرين، أي في أزمة الرأسمالية كنظام اقتصادي وأزمة الديمقراطية كنظام سياسي، يكمن الأصل المستمر لكل مشروع اشتراكي.
اللجنة المركزية
منتصف نيسان 1993