سياسة صحف وآراء

المنطقة ستشهد عودة اسرائيلية اميركية لتفعيل مسار اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية

* الاستاذ حسن فحص   

لم يحدث ان كان رئيس الورزاء الاسرائيلي بينامين نتياهو اكثر وضوحا مما كان عليه بعد التطورات التي شهدتها الساحة السورية وادت الى انهيار النظام فيها، عندما تحدث علانية ومباشرة عن اقتراب المعركة النهائية، وان على اسرائيل توجيه ضربة مباشرة لرأس محور المقاومة في المنطقة واسقاط النظام الايراني.

نتيناهو وفي العديد من مواقفه، خلال حربه على لبنان، وجه رسائل مباشرة الى المجتمع الايراني لتحريضه على التحرك وان الفرصة باتت سائحة من اجل قلب النظام، وانهاء سلطة ولي الفقيه وحرس الثورة وعودة الحرية والديمقراطية الى ايران وبناء مستقبل زاهر من جديد…

في المقابل، لم تتعامل منظومة القرار في ايران خاصة المؤسسة العسكرية، وتحديدا قوات حرس الثورة، بجدية مع هذه الاشارات او المؤشرات التي كشف عنها الاختلال الذي اصاب معادلة توزان القوة الذي كان سائدا في السنوات الماضية والذي شكل جدار حماية ومانعا امام اندلاع حرب مباشرة بينها وبين اسرائيل. وتمسكت هذه المنظومة بقراءتها بكثير من الثقة والتي تعتقد بان تل ابيب غير قادرة على القيام باي عملية واسعة ضد ايران وانها عاجزة عن الحاق الضرر بالنظام. ما يكشف انها لم تكن قادرة على التقاط التداعيات التي نتجت وستنتج عن الاحداث التي شهدتها المنطقة في لبنان وسوريا وحتى العراق.

الاهداف المعلنة للهجوم الاسرائيلي الاميركي المشترك، توزعت على ثلاثة مستويات اساسية.

ـ ضرب وتدمير البرنامج النووي بحيث يجبر ايران على التخلي عن طموحاتها النووية، أو تأخيرها لسنوات

ـ ضرب وتفكيك قدرات ايران الصاروخية، اي نزع مخالبها التي تسمح لها بتهديد العمق الاستراتيجي لاسرائيل وايضا القواعد الاميركية ومصالحها في منطقة غرب آسيا.

ـ ولعل الهدف الاخطر، كان في تحويل هذا الهجوم الى ركيزة من اجل القضاء على النظام واستبداله بنظام جديد ديموقراطي” يتعايش مع اسرائيل والشروط الاميركية. هذا الهدف المعلن كان يخفي وراءه هدفا أكثر خطورة، بالسعي الى تفكيك ايران وتحويلها الى دويلات متناحرة فيما بينها اي تحويلها الى دويلات فاشلة غير قادرة عن الاستمرار بذاتها.

تفتيت ايران او تفكيكها، يعتمد على استراتيجية اميركية اسرائيلية قديمة عاد الحديث عنها عام 2005 بشكل كبير، تأخذ بعين الاعتبار تقليم اطراف الجغرافيا الايرانية التي تشكل مناطق وجود الاقليات القومية، من كردية واذرية وتركمانية وبلوشيه وعربية وغيرها، والتي تملك امتدادا ديمغرافيا وقوميا في الدول المجاورة.

ما يجعل من اثار هذا التفتيت لا تقف عند حدود الجغرافيا الايرانية، بل يتوسع الى جغرافيا الدول المجاورة، ما يعني اعادة رسم خرائط جيوسياسية جديدة في الاقليم، قد تؤدي الى توسع نفوذ دول مثل آذربايجان وتركمنستان والى زوال بعض الدول او تحجيمها، وهنا لا بد من الخوف على مستقبل العراق بالدرجة الأولى، وتركيا بالدرجة الثانية، وحتى سوريا، لان الدولة الكردية الحلم، ستلعب دورا اساسيا في اعادة رسم خرائط المنطقة على حساب هذه الدول، وقد يدفع في العراق الى ظهور دولة شيعية تمتد من الوسط الى اقليم خوزستان الايراني.

واذا ما استطاع النظام الايراني تجاوز هذا الخطر، اولا من خلال الموقف الشعبي الذي ابدى مستوى متقدم من الوعي لهذا المخطط، والذي التف حول مفهوم الجغرافيا الايرانية ووحدة أراضيها بغض النظر عن موقفه السلبي او النقدي من النظام والسلطة القائمة. فقد ساعد في تجنيب المنطقة ايضا، خصوصا العربية من تداعيات هذا التفتيت والتفكيك الذي سيطالها بشكل من الاشكال.

وثانيا من خلال سرعة استيعاب الصدمة او المفاجأة الاستراتيجية التي غافلته والانتقال من حالة الضياع الامني والعسكري الى ترتيب صفوفه والبدء بعملية الرد. الأمر الذي سمح له باعادة التوزان وقطع الطريق على المسار الذي اراد نتنياهو وترمب اخذ المنطقة اليه، وتحويل الاقليم الى منطقة نفوذ اسرائيلية، تسمح لتل ابيب بفرض ارادتها على جميع الاطراف من دون اي تواجه اي اعتراض او معارضة.
مع الجهات الدولية المعنية بالموضوع النووي وفي مقدمتها واشنطن، للحصول على اعتراف دولي بهذه الانشطة بما يضمن لها البقاء قريبة من الحافة النووية، التي تشكل احد اهم عوامل الردع الاستراتيجي. ما يعني انها ستسعى في حال عدم التجاوب الدولي لتأجيل خطوتها الحاسمة في الانتقال الى الجهة الاخرى من الحافة النووية وامتلاك السلاح.

وعلى صعيد البرنامج الصاورخي وتفرعاته من سلاح الطيران المسير، الذي يشكل البعد الآخر في مفهوم هذا العمق، فان ايران وبعد ما تعرضت له من اعتداء اسرائيلي بدعم اميركي، لن تكون على استعداد لتقديم أي تنازلات او تخفيض مستويات فعالية هذا البرنامج، مع امكانية البحث في الحد من مداياته العسكرية، لانه اثبت فعاليته ودوره في اعطائها القدرة على الردع والدفاع عن سيداتها ومصالحها.

اما فيما يتعلق بالمستوى الداخلي، فان قيادة النظام ومنظومة القرار والسلطة تفاجات بمستوى وحجم التضامن الداخلي وتكاتف ابناء المكونات القومية والعرقية والدينية في مواجهة الاعتداء الاسرائيلي. وشكلت احدى اهم واخطر الرافعات التي مكنت ايران من الصمود واستعياب الصدمة الأولى. وهذا الالتفاف حول ايران بعيدا عن الموقف من النظام وسلطته احبط احد ابرز الرهانات الاسرائيلية باحداث تغيير من الداخل يتكامل مع الهجوم من الخارج، وبالتالي فان التعدد القومي والمذهبي والانسجام الوطني حول ايران اعاد تثبيت هذا البعد من العمق الاستراتيجي للنظام.

ومن المفترض ان تعمد او تلجأ ايران في المرحلة المقبلة باعادة تعريف عمقها الاستراتيجي المرتبط بامتدادتها الاقليمية ونفوذها في المنطقة. فهي لن تتخلى عن هذا العمق او تنسحب منه، خاصة بعد ان استطاعت اعادة تعريف قوة الردع عندها بما الحقته من اضرار قاسية في منظومة القوة والردع الاسرائيلية، التي فشلت في تحقيق اي من الاهداف التي وضعتها لهذا الهجوم والاعتداء وبالتالي فان التعامل الايراني مع ساحات النفوذ، سيأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على دور وموقع حلفائها داخل القرار في دولهم، مع تغيير واضح في الية التعامل مع هذه الدول والساحات، بحيث لا يكون لها اي تأثيرات سلبية على مسار اعادة ترميم علاقاتها مع المحيط العربي الذي بدأ بشكل جدي وبات يشكل حاجة ايرانية اساسية. ويساعد على تأمين مصالحها بجميع مستوياتها.
واذا ما كانت الحرب الاسرائيلية على ايران والتي بدأت بالحرب على حلفائها في الاقليم، قد ادت الى اعادة تعريف حجم النفوذ الايراني ومدى العميق الاستراتيجي للنظام الايراني في بعده الخارجي والاقليمي، فانها في المقابل، لم تمكن تل ابيب بان تكون البديل المطلق لهذا الدور والنفوذ اي ان تتفرد في السيطرة والتحكم بالمشهد الاقليمي وان ما انتهت اليه هذه الحرب المباشرة بين قطبي النفوذ في المنطقة، قد يساهم في تكريس حقيقة عدم قدرة اي من الطرفين على فرض مشروعه او رؤيته او طموحاته.

من المتوقع وبعد الهدنة القتالية بين طهران وتل ابيب ان تشهد المنطقة عودة اسرائيلية اميركية لتفعيل مسار اتفاقيات التطبيع مع دول العربية، ولعل الجهود التي تبذل من اجل التسريع بهذه الخطوة مع النظام السوري الجديد تشكل تعبيرا واضحا بالعودة الى تفعيل جهود لتطبيع او ما يعرف باتفاقيات السلام الابراهيمي من باب التعويض عن فشل الطموحات الاسرائيلية في التخلص نهائيا من النظام الايراني وطموحاته الاقليمية.

ومسار التطبيع او توسيع اتفاقيات السلام الابراهيمي لن ينظر اليها النظام الايراني كتهديد وجودي، فهو تعامل مع بدايات هذه الاتفاقيات بكثير من الواقعية والبراغماتية طالما انها لا تشكل تهديدا للمفهوم الذي يضعه لمصالحه الاقتصادية والاستراتيجية وقد اقدمت طهران على توقيع اتفاقية امنية واقتصادية مع دولة الامارات العربية بعد التوقيع على السلام مع اسرائيل، واعادة علاقاتها الدبلوماسية مع مملكة البحرين وتسعى جديا لترميم علاقاتها مع دولة مصر مع الاشارة الى انها لم تعارض في السابق وتحديدا عام 2007 المفاوضات غير المباشرة التي استضافتها العاصمة التركية بين نظام بشار الاسد واسرائيل، بل لعبت دورا ايجابيا ومساعدا لدمشق من اجل استعادة مرتفعات الجولان.

واذا ما كان الهجوم الاسرائيلي على ايران والرد الايراني عليه، قد اسهم في اعادة تعريف الاوزان العسكرية والامنية والسياسية لكلا الطرفين في المعادلات الاقليمية فان مستوى من الواقعية والبراغماتية سيلجأ اليها النظام الايراني في تعامله مع محيطه العربي والاقليمي، يقوم على الاعتراف بالحقائق القائمة ومصالح كل طرف وكل دولة في نسج تحالفاتها وعلاقاتها العمل على تعزيز علاقاته مع هذه الدول تحت سقف المصالح المشتركة والتعاون الثنائي والاقليمي في اطار تكاملي غير الغاني كما كان في السابق.

ومع التمسك الايراني بحصر الوساطة بين طهران وواشنطن في دول الجوار العربي وتحديدا الوسيطين العماني والقطري، فان المسار الذي بدأ في اذار عام 2023 من بكين والذي فتح مسارا جديدا من العلاقة بين طهران الرياض، سيكون اكثر حضورا وتأثيرا في المرحلة المقبلة في علاقات ايران مع الجوار العربي، خاصة وان ايران ومنظومة القرار فيها تبدي حرصا على تعميق هذه العلاقة وتعزيزها بما يخدم مصالحالطرفين، من دون ان يسمحا لاختلافاتهما في التعامل مع بعض الملفات الاقليمية من التأثير السلبي على هذا المسار.

هذا السلوك المختلف في التعاطي السياسي الايراني مع الاقليم، لا يعني ان ايران دولة ونظاما قد قررت التخلي عن امتداداتها الاقليمية وحلفائها في المنطقة، بل يؤشر على مستوى جديد من التعامل معها، تعامل يتوافق مع معطيات وشروط المرحلة الجديدة، خاصة وان طهران من المتفرض انها بدأت باجراء مراجعات شاملة على كافة المستويات، تأخذ بعين الاعتبار منظومة العلاقات التي توفر حماية لمصالحها الاقتصادية من ناحية، وتعيد ترميم اوضاعها الداخلية ومنظومة العلاقات التي تربطها بكل المكونات الاجتماعية والسياسية والقومية والمذهبية من ناحية أخرى. بالاضافة الى السعي لاعادة ترتيب وتعريف علاقاتها الاقليمية والدولية، بناء على وانطلاقا من المتغيرات التي شهدتها المنطقة ما بعد هجوم طوفان الاقصى في السابع من اكتوبر 2023 وما تلاها من احداث لعبت دورا في اعادة ترسيم مساحات وساحات نفوذها الاقليمي.

واذا ما كان مفهوم العميق الاستراتيجي للنظام يقوم على عدد من الابعاد الاساسية واخرى فرعية، فان النظام الايراني استطاع الحفاظ على هذه الاسس بعد هذه الحرب ، مع قليل من اعادة ترتيب اولوياتها وتأثيراتها على مستقبله ومصيره على الأقل في حدها الأدنى.

فعلى الصعيد النووي الذي يعتبر من اهم مؤلفات هذا العمق الاستراتيجي، وان كانت المرحلة تشهد نوعا من التصعيد في المواقف، وعرقلة واضحة لاشراف الدولي على الانشطة النووية، الا ان النظام ومنظومة القرار ستعمل على اعادة تعريف علاقتها وقد برز هذا المنحى الايراني الجديد، من خلال الابقاء على مناطق نفوذ حلفائها بعيدا عن الاعتداء الذي قامت به اسرائيل، ولم تدفع باتجاه ادخال المنطقة بمسار مجهول قد يؤدي الى حرب شاملة في الاقليم. ولعل الساحة اللبنانية تمثل مؤشرا واضحا على هذه الاستراتيجية الجديدة في التعامل مع مناطق النفوذ الايراني.

فالقيادة الجديدة للحليف اللبناني لايران اي حزب الله مارست اعلى مستويات الانضباط والالتزام بابعاد لبنان عن دائرة الخطر. وهو موقف يعتبر عن وجود نهج والية جديدة في تعامل الحزب مع المتطلبات اللبنانية الداخلية، قد يكون احد اسبابها الخلفية الفكرية والسياسية التاريخية للقيادة الجديدة الآتية من حزب الدعوة، الذي تخلى عن شموليته وعالميته لصالح خصوصية كل ساحة من الساحات التي كان فاعلا فيها داخل امكان الانتشار الشيعي، كما حصل في العراق. وبالتالي فان ضرورات الداخل اللبناني ومستقبل الدور والموقع داخل النظام والسلطة في لبنان ستكون على رأس اهتمامات الحزب مدعوما بالتوجه الايراني الجديد، القائم على اعادة تعريف علاقاته مع مناطق نفوذه بما يسمح له الحفاظ على دور وفعالية في هذه الساحات في اطار تعريفه لعمقه الاستراتيجي.

*ينشر موقع بيروت الحرية نص المداخلة التي ألقاها الاستاذ حسن فحص في الندوة الحوارية التي نظمتها منظمة العمل اليساري تحت عنوان: المنطقة بعد الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية على ايران وانعكاساتها على لبنان تاريخ 2 تموز 2025.