ثقافة صحف وآراء

 الأحزاب كـ” مرايا مشوّهة”: انعكاس الهويات ما قبل الوطنية في الفضاء البلدي اللبناني

د. سعيد عيسى

الأحزاب السياسية كمفهوم نظري

في النظرية السياسية الكلاسيكية، تُعرّف الأحزاب على أنها تنظيمات سياسية تهدف إلى الوصول إلى السلطة أو التأثير عليها من خلال تمثيل مصالح فئات اجتماعية معيّنة ضمن أطر قانونية ودستورية. ويُفترض بالأحزاب أن تقوم بعدّة وظائف أساسية وهي:

تأطير المشاركة السياسية: فتح المجال أمام المواطنين للتعبير عن مصالحهم والمشاركة في الشأن العام.

إنتاج النخب السياسية: تدريب قادة سياسيين قادرين على تولي مواقع القرار.

التأثير في السياسات العامة: تقديم برامج ورؤى تتنافس ديمقراطياً لتوجيه إدارة الدولة.

تعزيز الاستقرار السياسي: من خلال الوساطة بين المجتمع والدولة، وإضفاء طابع شرعي على الحكم.

وذلك يقتضي، أن تكون الأحزاب كيانات مؤسسية مبنية على قواعد تنظيمية واضحة، تستند إلى برامج سياسية شاملة لا إلى ولاءات شخصية أو هويات ما قبل وطنية؛ أي تلك الانتماءات التي تسبق نشوء الدولة الحديثة، مثل: الولاء للطائفة، العشيرة، القبيلة، أو العائلة السياسية. فبدلاً من أن يُنظر إلى المواطن كفرد حرّ في دولة مدنية، يُعاد اختزاله في انتمائه الأولي

والجزئي، مما يحوّل الحزب من أداة للتمثيل الوطني إلى وسيلة لإعادة إنتاج البنى التقليدية.

 

النموذج النظري للأحزاب في العالم الثالث

في معظم دول العالم الثالث، لا تتحقق هذه الوظائف بالشكل المنشود، وذلك لأسباب تتصل بالبنية الاجتماعية (العائلية، القبلية، الطائفية)، والإرث الاستعماري، وضعف الدولة المركزية، وسيطرة النخب التقليدية، فتتحول الأحزاب إلى أدوات لإعادة إنتاج الزعامات بدل إنتاج بدائل لها، وتُبنى الشرعية السياسية على الولاء الشخصي أو الطائفي لا على البرنامج أو الإنجاز.

وفي هذا الإطار يشكّل لبنان نموذجاً حادّاً لهذا الانحراف، حيث يُفترض أن النظام السياسي التعددي يفتح المجال أمام تنوع حزبي صحي، لكن الواقع يشير إلى العكس:

 

الأحزاب امتداد للبنى ما قبل وطنية لا بديل عنها

الأحزاب السياسية في لبنان ليست قوى سياسية تسعى لتحديث المجتمع أو كسر البنى التقليدية، بل غالباً ما تنشأ داخل عباءة العائلة والعشيرة والطائفية أو تُعيد إنتاجها جميعا. وهكذا دواليك، بدلاً من أن تعيد الأحزاب هيكلة الفضاء العام وتحريره من سطوة العائلات والعشائر والطوائف، نراها توفّر لها غطاءً مؤسساتياً وشكلاً سياسياً مقنّعاً. كما تقوم معظم الأحزاب بوظيفتها داخل فضاء طائفي مغلق، حيث تُنتخب قياداتها وتتحدّد سياساتها بناءً على تمثيل الطائفة أو الدفاع عن حقوقها، لا وفقاً لمصالح وطنية جامعة وهذا يعمّق الانقسام الأهلي ويحول دون قيام دولة مواطنين.

 

الزبائنية – الطائفية لا البرامج

يغيب البرنامج السياسي الاقتصادي الواضح لدى غالبية الأحزاب، ويُستعاض عنه بشبكات من الخدمات والمحسوبيات داخل الطائفة، حيث تُربط الولاءات السياسية بالحاجة اليومية (طبابة، توظيف، تعليم…).

وبدلاً من أن تعمل الأحزاب على إصلاح النظام الطائفي، فإنها تجد فيه بيئة مثالية للاستمرار، وبالتالي تقاوم كل دعوة للتغيير الجذري، حتى ولو أتت من قواعدها الشعبية.

أزمة التمثيل وفقدان الثقة

إن هذا الشكل من الحياة الحزبية يؤدي إلى أزمات متتالية مقل:

انعدام الثقة بالمؤسسات السياسية وتظهر بوضوح في الانتخابات، حيث تضعف نسب المشاركة أو تقتصر على التعبئة الطائفية.

انسداد الأفق أمام الشباب، إذ لا يجد جيل ما بعد الحرب موقعاً له داخل أحزاب محكومة بولاءات تقليدية وغير ديمقراطية.

الانفجار الاجتماعي: كما حصل في كما حصل بين سنوات 2011 – 2019، حين عبّر الشارع عن تناقضه مع الغالبية العظمى الأحزاب، مطالباً بنظام سياسي جديد.

وفي السياق اللبناني، تُظهر الوقائع أن الأحزاب السياسية هي في الغالب أدوات بيد العائلات والعشائر والطوائف وليس العكس. وهذا ينطبق خصوصًا على الأحزاب الكبرى التي تهيمن على المشهد السياسي فالعائلات والعشائر تَستخدم الأحزاب كـأدوات لتنظيم الولاءات الطائفية وتعزيز نفوذها، بدل أن تكون الأحزاب كيانات مستقلة.

وهنا لا بدّ من التذكير أنّ العشائر والعائلات هي “القاعدة الصلبة” للأحزاب في المناطق اللبنانية (خاصة في البقاع، عكار، والجنوب)، وفي الغالب هي التي تحدّد أي حزب أو مرشح سيفوز لأنها تتحكم في أصوات أفرادها، ,وهي (أي الأحزاب) تتفاوض مع شيوخ  العشائر والعائلات لضمان دعمهم، وتمنح في المقابل مقاعد نيابية أو بلدية لأبناء هذه العائلات كجزء من “صفقات المحاصصة”.

والسؤال الذي يُطرح هنا هو: لماذا لا تستطيع الأحزاب تجاوز العائلات؟ والجواب يكمن في “أنّ غياب دولة قوية مدنية، يسمو فيها القانون على كل ما عداه يعطي شرعية تقليدية للعشائر والعائلات ويُبقي الولاء لهما أعلى من الولاء للأحزاب. كما أنّ العشائر والعائلات الغنيّة هي التي تموّل الحملات باستناءات محدودة مما يجعل من الأحزاب تابعة لشروطها وليس العكس. كما أنّ الدستور اللبناني نفسه يُقسّم السلطة طائفيا مما يعزز دور العائلات كأوصياء على طوائفهم.

الخاتمة

بينما يُفترض بالأحزاب أن تكون رافعة للعمل السياسي الحديث، تكشف التجربة اللبنانية عن واقع معاكس تماماً، حيث تُستخدم الأحزاب كأدوات لحماية السلطة الطائفية وتدويرها، لا كقوى إصلاح أو تغيير. تكمن الإشكالية في أنّ هذه الأحزاب، بدل أن تؤثر في البنية العائلية والطائفية، تتلطّى خلفها وتعيد إنتاجها في أشكال مؤسسية. ومع غياب البدائل الجدية وضعف المبادرات المستقلة، تبقى الأحزاب اللبنانية جزءاً من المشكلة لا من الحل، وتُجسّد بامتياز إشكالية الأحزاب في العالم الثالث.

*الحوار نيوز 14 أيار 2025

*باحث وكاتب سياسي