صحف وآراء مجتمع

وقف إطلاق النار.. المجاز في خدمة الإبادة

*نجم الدين خلف الله

شاعت عبارة “وقف إطلاق النار” حتى نسي الناس أنها استعارة خطّها الإنسان الحديث توريةً عن فظاعات الحروب وأهوالها. فقد صاغها في شكل مقولة نصفها عسكري وأكثرها سياسي، للإشارة إلى ما يقرّره قادة الميدان المستعر ومفاوضو غرف السياسة المغلقة. وهي تومئ إلى هذه العقلانية التي ينبغي أن تسود الحروب المعاصرة لتمكّن أطراف النزاع من عقد اتفاق سلام، فوري أو مؤجّل، يوقف العدوان ويحفظ الأرواح بعد الاقتناع بعبثية الحل العسكري.

ظهر المفهوم في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتمّ التنظير له في القانون الدولي الذي صاغته “عصبة الأمم” عام 1919، ثم طوّرته عام 1945، حيث تضمنت اتفاقيات جنيف ونصوص القانون الدولي الإنساني مواد تؤطّر تنظيم اتفاقات وقف إطلاق النار.

ومن أبرز مَن تناول تحوّلات هذه المقولة القاضي والباحث الأميركي غاري سوليس، في كتابه “قوانين النزاعات المسلحة: القانون الإنساني الدولي” (2006)، حيث تطرّق فيه إلى بنود هذا القانون، ومن بينها: وقف إطلاق النار، والسلام المؤقت، والهدنة وانتهاكاتها، شارحاً السياقات العسكرية والسياسية التي عُقدت فيها بعض اتفاقات وقف إطلاق النار مع ضرب أمثلة من الحروب المعاصرة. ومن ذلك أيضاً كتاب: “صُنعُ السلام في النزاعات الدولية: الأساليب والتقنيات” (2007)، لوليام زَرتمان، حيث حلّل فيه أدوات حلّ النزاعات وخفض التصعيد، مثل أداة وقف إطلاق النار باعتبارها خطوة أولى نحو التفاوض والسلام. كما ناقش فيه الجانب العملي لهذا المفهوم، بالاعتماد على حالات مثل الصراع العربي – الإسرائيلي، وصراعات دول أفريقيا وأميركا اللاتينية.

وأخيراً، ظهرَ في المشهد الفرنسي كتابٌ جماعيٌّ بعنوان “الحرب في القرن الحادي والعشرين” (2023)، أشرف عليه تيبو فيلي، وفيه خصّص فصولاً لفكرة وقف إطلاق النار كقرار سياسي وعسكري، مقارناً بين تطبيقها في الحروب التقليدية وفي الحروب غير المتكافئة، مثل ما يحدث الآن في غزّة أو لبنان، ذلك أن هذا المفهوم القانوني يقتضي ضرورة وجود دولتَين متنازعتَين بغضّ النظر عن حجم التفاوت بينهما وعن مدى تكافؤ قواتها العسكرية (العديد والعدّة) الموظفة في الاقتتال، كما هو مشاهد اليوم بين روسيا وأوكرانيا، أو ما شوهد قبلُ في حرب إيران والعراق.

لكن، ما نلاحظه في خطاب وقف إطلاق النار بغزة، بعد خمسة عشر شهراً من الحرب التي أتت على الأخضر واليابس، أنه مجرد مغالطة قانونية وعسكرية، يحوكها الاحتلال لتشويه الواقع. والدليل على ذلك غياب أدنى تناسب بين حركة مخذولة محاصَرة، لم يكد ينتصر لها أحد عسكريّاً ولا سُمح لها حتى بقنينة ماء إنسانيّاً، وبين دولة متغوِّلة تمتلك أقوى وأحدث عتاد، لا تفتأ ترسله إليها كافة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

من جهة ثانية، لا يتمثّل الأمر في توقّف عدوان باهت، كما لو كانت هذه النار بضع طلقات طائشة يرسلها جنود ضائعون هنا وهناك. بل كان الأولى أن تُسمّى إيقافاً مؤقّتاً لإبادة منهجية، راح ضحيتها في حيز زمني قصير عشرات الآلاف الذين كانوا يتقاسمون مساحة جغرافية ضيقة.

ثم إنّ ما يشاع في أيامنا من تسميات “انتهاك وقف النار” أو “التنصّل” منه، وصفاً لما ترتكبه “إسرائيل” لهُو أكذوبة ثانية وثالثة ورابعة، لأن حقيقته الواضحة استعادة حرب إبادة قضى جرّاءها أكثر من ألفي شخص خلال اثنين وسبعين ساعة، وما زال عدّاد الموتى الرهيب مستمرّاً أمام تصريحات باردة تُرسلها دول أوروبا لتعبّر عن “قلقها”، عوض أن تُسخّر إمكاناتها الهائلة لإيقاف هذه الإبادة.

هكذا، على الصعيد المفهومي، لا تفعل هذه الدول وعلى رأسها “إسرائيل” سوى التلاعب بهذه المقولة وفرضها أداةً لقراءة واقع غاشم في غزّة، ليس فيه أدنى ذرّة تكافؤ، تروّج لها كما لو كانت الحرب مجرد تنازع بين قوّتين متعادلتَين. وفي ذلك خداع للعقول وتشويه للوعي وللخطاب السياسي والإعلامي الذي تنتجه بتسميتها الإبادة “عدواناً” والعودةَ إليها بفظاعة أشد مجرد “انتهاك عرَضي”.

من جهة أُخرى، حين يُنتهك أي اتفاق وقف إطلاق النار، يمكن للجهة المتضرّرة رفع دعوى لدى الهيئات الدولية أو القوى الضامنة، فتقوم هذه الهيئات بالضغط وحتى بمعاقبة الطرف المنتهِك. لكن عبر التاريخ القريب، كانت “إسرائيل” هي التي انتهكت كلّ اتفاقات وقف إطلاق النار من دون ملاحقة، كتلك التي انعقدت إثر عمليات “الرصاص المصبوب” (2009)، و”عمود السحاب”، (2012)، و”الجرف الصامد” (2014)، و”سيف القدس” (2021)، وغيرها، حين كانت أعمال القصف والتدمير تُستأنف بشكل أفظع، دون التعرّض لأي نوع من أنواع الضغط أو المحاسبة. وكانت الانتهاكات تبرر بأكاذيب “الدفاع عن النفس” أو “الضربات الوقائية”. وما أكثر ما قُدِّمت هذه الانتهاكات كما لو كانت واجباً مقدّساً في حين أنّها لا تفسر سوى بالحسابات الشخصية للسياسيين.

وتجدر الإشارة إلى أنّ اللغة العربية المعاصرة أبانت عن ليونة واضحة في الإيماء إلى مستويات هذا المفهوم وفوارقه المعنوية، فاستقت من سجلّاتها العتيقة مصطلحات “الهدنة” و”الاستسلام” و”اتفاق السلام” و”وقف العدوان”، وكلّها تنويعات على مبدأ واحد: إيقاف الأعمال الحربية بشكل دائم أو مؤقت بين القوى المتناحرة. كما حافظت على مجاز “النار” الذي طالما اقترن في المخيال الإنساني بالحروب القديمة، لكونه رديف التحريق. إلّا أنه في غزة مجاز ضعيف لا يتناسب مع أساليب التدمير الكلّي والإبادة المطلقة التي يتعرّض لها شعب أعزل، قدّم ولا يزال أطفاله ونساءه العُجّز قرابين التخاذل الدولي.

عطفاً على ذلك، نلاحظ أنَّ الأدب الفلسطيني استغلّ فترات التوقّف هذه لصياغة بعض الأعمال، مثل كتاب “غزة تقاوم بالكتابة”؛ وهو مجموعة قصص قصيرة صاغها كُتّاب يافعون من غزة إثر حرب 2008، وأشرف على تحريرها رفعت العرعير. كما أصدر اللواء محمد زكي الألفي كتاباً بعنوان “فلسطين: الطوفان القادم”، تناول فيه الحرب الأخيرة وخسائر كل طرف، في حصيلة أولية.

ولا يسعنا بعد استئناف العدوان على غزّة وتنصّل “إسرائيل” من التزاماتها، إلا أن ندين خذلانَ، لا الدول الغربية والعربية النافذة فقط، وإنّما المفاهيم العسكرية والقانونية التي صارت تُحاك على مقاس الآلة الحربية الغاشمة من أجل تغطية هول ما ترتكبه. ولن أقول إنّ الأمل معقود على شباب غزّة حتى يكتبوا معاناتهم أثناء فترات وقف غادرٍ، بل هو معقود على مثقّفي العالَم وساسته وعسكريّيه حتى يغيّروا الترسانة القانونية التي يؤوّلون بها ما يجري في ساحات فلسطين من حروب.

وأولى هذه المفاهيم المغالِطة التي تحجب الإبادة مبدأ “وقف إطلاق النار” الذي بات هو ذاته ناراً تحرق ما تبقّى من أغصان الوعي اليابسة وأوراقه الذابلة.

* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس والمقالة نشرت في العربي الجديد بتاريخ 6 أيار / مايو 2025