من غير المؤكد أن التجربة لن تعود وتتكرر مرة أخرى على أيدي قادة الإنكار والانتحار الحالي والمستمر
“خمسون عامًا من التناسي”، هو العنوان الذي اختارته الجامعة الأميركية في بيروت لإحياء ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) في سلسلة أنشطة تمتد على مدى ثلاثة أيام.
وإذا كانت الجامعة الأميركية قد تنبهت للذكرى وواكبتها بأنشطة متعددة فان رئاسة مجلس الوزراء في لبنان بالتعاون مع وزارة الثقافة، قد تنبهت أيضاً لذكرى الحدث تحت عنوان “خمسون في خمسين” عبر معرض للصور وبرنامج محاضرات وندوات في المكتبة الوطنية في الصنائع. وهي خطوة لا تخلو من الانتباه والتنبه والدعوة إلى التذكر والاستذكار والاستفادة من دروس التجربة المرة والمؤلمة والصعبة التي عاشها لبنان منذ خمسين سنة.
كما إن الكثير من الأحزاب والتجمعات والمنتديات الثقافية والفكرية المدنية في لبنان تنبهت وعلى مستويات مختلفة، وأقامت أنشطة لاستذكار هذه المأساة ومحاولة الاستفادة منها ومناقشتها وتبيان أسبابها وأثارها وندوبها ودروسها المستفادة.
يبقى السؤال الذي يلح في طرح نفسه الآن بعد مرور نصف قرن على هذه الأحداث وكل هذه السنوات، هل يمكن أن تتكرر المأساة والتجربة المرة والأليمة التي عاشها لبنان قبل خمسين عاما؟
في الواقع، واستناداً إلى تجارب ومؤشرات متعددة، ما من دليل أو معطيات صلبة تقول إن ما جرى قد لا يتكرر ويحدث من جديد في لبنان. بل على العكس من ذلك، فان بعض المؤشرات والدلائل والظواهر الناشئة قد تدعم احتمال أن ما حدث وما مر به لبنان والمجتمع اللبناني من محنة داخلية، قد يتكرر ويعود وذلك لعدة أسباب ودوافع.
أولها إن اشتعال شرارة اللهب في العام 1975 والتي امتدت 15 سنة متوالية 1975- 1990 حتى انعقاد مؤتمر الطائف في المملكة العربية السعودية، لم تكن تجربة المواجهة الدموية الوحيدة في لبنان خلال القرن العشرين، فقد كان سبقها قبل ذلك اهتزازات وحوادث أخرى مماثلة. وان كانت أصغر وأقل عنفاً وامتداداً، وأبرزها عام 1958 حين انقسمت البلاد يومها بين شرقية وغربية أي بين إسلامية ومسيحية، نهاية عهد الرئيس كميل شمعون الذي كان فكّر بالتمديد والبقاء في سدة الحكم، وسط انقسام سياسي على علاقة وارتباط بالمحاور بالتوجهات الإقليمية والعربية المحيطة، حين كانت الناصرية بقيادة جمال عبد الناصر في أوج انطلاقتها وصعودها وطموحها للسيطرة والتمكن في المنطقة العربية، في مواجهة خصومها من الدول الغربية وأعوانها ومناصريها في المنطقة نفسها، ولبنان منهم بطبيعة الحال.
اندلعت يومها مواجهات أهلية عنفية على خلفيات متعددة، انتهت بتسوية وصول الرئيس فؤاد شهاب إلى رئاسة الدولة والجمهورية، وانطلاق مرحلة جديدة من التقاط الأنفاس والتفكير بإعادة البناء والإصلاح والتطوير.
بطبيعة الحال فان هذه البقعة الجغرافية كانت شهدت في القرن الذي سبق القرن العشرين تجربة أخرى دموية وأكثر إيلاماً وعنفاً، وتحديداً في القرن التاسع عشر، والتي عرفت بالفتنة الكبرى 1840- 1860 والتي امتدت من جبل لبنان إلى دمشق ومناطق أخرى من سوريا وأسفرت عن سقوط الكثير من الضحايا الأبرياء والمدنيين.
كما هو معروف، أن التسوية أو الصيغة التي نتجت بعد ما عرف بالفتنة في جبل لبنان، أُقرت بعد مباحثات دولية محلية إقليمية وأسفر عنها التأسيس الأول لصيغة النظام اللبناني الطائفي التحاصصي، عبر معادلة وتوزع مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان على الطوائف والمذاهب اللبنانية التي يقف على رأسها متصرف مسيحي الديانة تركي الجنسية، تقترحه السلطنة العثمانية بالتوافق والتنسيق مع الدول الغربية.
لبنان اليوم بعد هذه التجارب وخمسين سنة من اندلاع الحرب الأهلية 1975 على خلفيات متعددة، أبرزها دور السلاح الفلسطيني وقضية المشاركة وارتباط لبنان بالقضية الفلسطينية، هل تعلم الدرس واستنتج الاستنتاجات والدروس والعبر اللازمة وأصبح بعيدا عن تكرار المحنة؟
هيئات وتجمعات وأحزاب متعددة أجرت مراجعات لما حدث، خرجت بخلاصات ضد تكرار التجربة. لكن أبرز ما ميز هذه المراجعات وتقدمها وكان سباقاً في الاعتراف بالأخطاء وعملية تنقية الذاكرة، التي تحدث عنها البطريرك بشارة الراعي قبل أيام، واعترف بصراحة بما جرى وأعلن تحمل المسؤولية أمام اللبنانيين عما حدث تقدمها قيادي واحد فقط.
ففي مهرجان الذكرى الأربعين لاغتيال القائد الشيوعي اليساري جورج حاوي، والذي أقيم في قاعة اليونيسكو في السابع من آب من العام 2005، تحدث رفيق دربه واحد أبرز قادة الحركة الوطنية اللبنانية آنذاك محسن إبراهيم، في أصرح مكاشفة تاريخية نقدية استرجاعية، قائلاً: “إذا كان ثبت الأخطاء هنا يطول، فإنني أكتفي بإيراد إثنين منها كان ضررهما عظيماً على الحركة الوطنية اللبنانية وعلى البلد في آن.
الخطأ الأول: إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً.
والخطأ الثاني: إننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي. فكان ما كان -تحت وطأة هذين الخطأين- من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بُنية البلد ووجهت ضربة كبرى إلى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها، الذي كان واعداً في يوم من الأيام”.
محصلة كلام إبراهيم النقدي الصريح، تشكل مثالاً ونموذجاً كاشفاً للواقع الحالي. وبعد أن كان من أبرز القادة في الحرب الأهلية، أجرى المراجعة الذاتية والسياسية المطلوبة، وكان يملك شجاعة الاعتراف والمصارحة، فيما قادة المرحلة الراهنة البائسة، وبالرغم من الإخفاقات والهزائم الصغيرة والكبيرة والمتراكمة والواضحة، والذين يتحملون المسؤولية المباشرة عن المصائب والكوارث الحاصلة، ما يزالون في حالة إنكار للواقع الكارثي التهديمي وفي ظل مناكفة للاستمرار في النهج التدميري ذاته.
إن تجربة الانفجارات الاجتماعية والمواجهات الأهلية العنفية والمسلحة، التي سبق أن وقعت وأشعلت لبنان، ما من أمر مؤكد أنها لن تعود وتقع وتتكرر مرة أخرى، على أيدي قادة الإنكار والانتحار الحالي والمستمر.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 11 نيسان 2025