صحف وآراء مجتمع

دراسة ذكرى الحرب الأهلية: نصفُ قرنٍ وخمسون تلوينة

صندوق فرجة الحرب

بعد مرور نصف قرن على اندلاعها؟ ماذا تكتب ولمن؟ من أين تبدأ وأين تتوقف؟ لنفترض أن الراشد عند بداية الحرب هو من أدرك عمر المراهقة (14 او 15 سنة)، فهذا يعني أن 90% من لبنانيّي ولبنانيّات اليوم كانوا «علمياً» دون سن الرشد. 13 نيسان لا يملكه أحد أو قُل إنه مشاع يملكه الجميع. صار موعداً مطبوعاً في جيناتنا ليس بالضرورة وراثياً، بل كشيء حصل ويعنينا جميعاً. وفي الوقت ذاته، لم يعد مجرد تاريخ، بل أيضاً «آرمة» تصلح لقياس تواريخ أخرى، مثلاً شهر وأسبوع قبل 13 نيسان- أي يوم وفاة معروف سعد الذي هو غير تاريخ إصابته- أو ثلاث سنوات وستة أشهر بعد 13 نيسان. خمسون عاماً بعد هذا التاريخ، حتى اليوم والى الأبد، نحن أسرى هذا الموعد. طالبت به لجنة أهالي المفقودين (ربما الطائفة الوحيدة الرشيدة لأنّ المفقودين وأهلهم ينتمون إلى كلّ الطوائف) منذ ربع قرن وقبل الجميع: «13 نيسان يوم الذاكرة»، يوم تذكُّر كل ضحايا الحرب دون تمييز. ولكن من قال لهم إنّنا نريد أن نتذكر؟

كل عام وأنتم بخير…

حرب أم حروب؟ كبيرة أم صغيرة؟ 

13 نيسان نهار أحد. كيف تعرف ذلك؟ لأنّ أحداثه تدور حول كنيسة وتدشينها، وحول مهرجان من الطبيعي أيضاً أن يجري في نهار العطلة الأسبوعية. ولأني بحثت عن هذه المعلومة في تلفوني (وهذه السنة سيكون يوم إثنين). «13 نيسان 1975 أو تشريح شرارة» عنوان كتاب/ تحقيق عن هذا التاريخ وعن ناسه وأدواته، كتبه صحافي فرنسي من أصل لبناني، مروان شاهين. ولد الكاتب عام 1982 والكتاب يستحق الترجمة والقراءة. من يتذكر هذا النهار؟ البعض يتذكر.

في ما يلي، بعض الشهادات من ناس يتذكرونه، ناس معروفين وناس عاديّين. ونبدأً بالرجل الأول آنذاك، كما يقال السيدة الأولى:

عشية هذا اليوم المشؤوم، غادرت قصر بعبدا متوجهاً الى مستشفى الجامعة الأميركية حيث خضعت لعملية جراحية. التوتر يسيطر على كل أعضاء عائلتي وهم يعتقدون اني مصاباً بالسرطان… لذلك، لم يخبرني أحد عمّا حدث في هذا النهار… لم أدرِ ما حدث إلا يوم الإثنين السادسة صباحاً وأنا أستمع إلى نشرة أخبار البي. بي. سي.
(سليمان فرنجية، رئيس الجمهورية)

شهادة أخرى:

كنا مجموعة أصدقاء منكبّين على تحضير إطلاق فيلمي كفر قاسم في 21 نيسان في صالتي سينما، واحدة بالحمراء والأخرى بالوسط التجاري… وَقَعَ 13 نيسان علينا كالزلزال: لم يعد ممكناً بعد ما حصل عرض فيلم يتحدث عن مجزرة كان الفلسطينيون ضحاياها… وللأسف لم تتوفر لـ«كفر قاسم» فرصة ثانية لعرض تجاري.
(برهان علوية،  المخرج)

شهادة أخرى:

ولدت ابنتي قبل 12 يوماً بأول نيسان، وكنا نسكن في عين الرمانة. في 14 نيسان، السادسة صباحاً، دق جرس البيت. هو قريب لي أتى ليخبرني عن وفاة والدي ليل 13 نيسان. تركت الطفلة مع صديق ولم أرَها مجدداُ إلا بعد أسبوع. حتى اليوم أتساءل كيف تجرأتُ أن أفعل ذلك، خصوصاً بعدما رأيت حيرة هذا الصديق في حملها وتغذيتها. خرجنا من المنزل وهو يدفع عربة الطفلة ملامساً الجدران لأن القواص كان يأتي من كل مكان، وزوجي وأنا ذهبنا في اتجاه منزل والدي الكائن أيضاً في عين الرمانة. ثم أتذكر كيف وضعنا نعش والدي على سطح السيارة وصعدنا به إلى الضيعة لدفنه.
(سونيا طعمة، مترجمة محترفة)

شهادة أخيرة:

كنت في العاشرة من عمري، فأنا من مواليد نيسان 1965 وطالب في مدرسة الليسيه. أتذكر بعد ظهر 14 نيسان كيف أتى أخي الأكبر وكان يدرس في جامعة الطبية على طريق الشام ليعيدني إلى البيت بدلاً من البوسطة… أتذكر أيضاً وجه أبي الملتصق بجهاز الراديو… كل هذا التوتر أقلقني لدرجة أنّ الوالد سمح لي للمرة الأولى والأخيرة بأن أنام في السرير إلى جانبه.

(أيمن حسن عواضه، عالم كمبيوتر (

١٩٧٥ – ١٩٧٦

حرب، حروب، أحداث

لكلٍّ حربه… ربّما فردية اللبناني تجعل هذه العبارة تنطبق عليه أكثر حتى من الشعوب الأخرى التي عانت من حروب أهلية؟ ربّما استحالة الوصول ليس إلى سردية واحدة بل حتى إلى سرديتين أو ثلاثاً قادرة على تأطير تحت سقف أو سقفين أو ثلاثة ما حصل، تجعل الفرد يتفلت في خياله وفي وصفه لما حصل معه؟ أنا لا أشاطر هذه المقاربات النفسية. ألاحظ فقط ببساطة «المراقب» أني صدمت أكثر من مرة مما كان يختبئ وراء عبارة «الحرب» في فم هذا او ذاك من أصدقائي. فهذا كان يسمي «الحرب» معركة الأشرفية (1978) حصراً، وذاك الاجتياح الإسرائيلي (1982) تحديداً. اللافت والمحيّر أن الإثنين كانا يتشبثان بهذه التسمية بعد أكثر من عقد على حصول الأحداث، وكلاهما عايش مراحل أخرى من الحرب (قبل وبعد) دون أن تعلق في ذهنه بصفتها «حرباً». ما هو سرّ هذا التعلّق بحدث ما يجعلك تهمل كل الأحداث الأخرى؟ لا أدري…

أيضاً، كلمة «أحداث» تجعلني أعود وأتساءل: كم من «الأحداث» مطلوبة لتتحوّل إلى «حرب»؟ متى قررنا أن نسمّي أحداث سنتي 1975 و1976 «حرب السنتين»؟ بالتأكيد، بعد انتهائها. بالمقابل، هل حرب الـ75 تجعل من حرب الـ58 مجرد «أحداث»؟ صرت أميل لتسمية حرب الـ75 «الحرب الكبيرة» وحرب الـ58 «الحرب الصغيرة». قد يكون حلاً نافعاً لو كانت «الحرب الكبيرة» حرباً واحدة، لكنّها في الواقع سلسلة من «الحروب

مرات عديدة، كانت هذه الحروب الصغيرة تجري على جبهات مختلفة في الوقت نفسه، أو بالعكس ما أن تتوقف الواحدة حتى تنطلق الأخرى كسمفونية حروب تعزفها أوركسترات منوّعة في مراحل أو مناطق متمايزة، دون أن تخسر من تناسقها. وكثرة التسميات أيضاً دعوة صريحة للتخيّل: «حرب السنتين»، «حرب العلم»، «حرب الجبل»، «حرب المخيمات»، «حرب الفنادق»، «حرب التحرير»، «حرب الإلغاء»، «حرب الأخوة» وغيرها وغيرها…

يبدو الاعتماد أو الاستقرار على تسمية واحدة مهمّة معقدة: هل يفيد عندئذ تقسيم الحروب اللبنانية (يبدو الجمع أدق من المفرد) إلى «حروب داخلية» و«حروب خارجية»؟ ، فتكون الأولى مثلاً بين معسكر «الجبهة اللبنانية» المسيحية (أي الكتائب، نمور الأحرار، حراس الأرز، التنظيم، بعض الرهبان وبعض الضباط، بعض التنظيمات المحلية في أحياء كالدكوانة) وبين معسكر «القوات المشتركة» الإسلامية والتقدمية والفلسطينية- نستأذن لضمّ الأخيرة مع «الداخل»- (أي أحزاب الحركة الوطنية- هل نسميها؟- والتنظيمات الفلسطينية وكوكبة من التنظيمات والشلل من الأحياء والمناطق). ونتفق دون صراع بيننا على اعتبار حرب «داخلية» تلك التي تعني هؤلاء بين بعضهم، و«خارجية» تلك التي تعني أحدهم مع سوريا أو إسرائيل أو مع قوى متعددة الجنسيات («القوات المشتركة» ضد السوريين (75-76)، «الجبهة اللبنانية» ضد السوريين (78)، «القوات المشتركة» ضد إسرائيل أو ضد صنيعتها الجنوبية (78)، «حرب التحرير» بين عون والسوريين (89)…). لا تطمئنوا بسرعة لصحة هذا التصنيف، فهناك «حروب داخل الداخل» ونذكر منها من جهة، الكتائب ضد الأحرار ثم ضد المردة، حروب جعجع– حبيقة وحروب جعجع– عون… ومن جهة أخرى، حرب حلفاء الفلسطينيين ضد حلفاء السوريين، «حرب العلم»، «حروب الأخوة» بين الثنائي، حروب الفصائل الفلسطينية بين بعضها بعضاً) واللائحة تطول. ولديك من يقول إنّ الحرب لم تنتهِ بعد، وإنّ ما نعيشه الآن ليس أكثر من هدنة (والبرهان أن وضع الكهرباء كان أفضل أيام المعارك مما هو اليوم، أو إن الوضع على كف عفريت كما دلت حادثة الطيونة). وهناك بالعكس من يعتبر ان الحرب لم تبدأ بعد ويرى أن لبنان منذ تأسيسه يعيش نوعاً من «الحرب الباردة»، لا بد أن تنفجر يوماً كقنبلة ذرية. أخيراً وليس آخراً، البعض يريدك أن تستعين بأمثلة خارجية مثل قبرص او سريلنكا او إيرلندا لفكفكة المأزق. ربّما معهم حق، ولكن قبل ذلك، دعونا بداية نحاول بأدواتنا المحلية.

نظام الحرب، أدواتها ومسارحها

الميليشيا والنظام النيو-طائفي

يشكل «نظام الحرب» في لبنان- إذا استعنّا بكلاوزفيتز– متابعة للسياسة الطائفية بالوسائل العسكرية. هذا التوصيف للميليشيات بأنه ظاهرة طائفية يطرح من البداية مشكلة الأحزاب غير الطائفية التي تبنّت نظام الحرب الميليشيوي. في الواقع، لقد تبنّوا (في البداية دون إدراك) نظاماً كانوا يعتقدون أنهم يرفضونه أو يحاربونه. عند انتسابهم للحرب، كانوا ينتسبون أيضاً للطائفية، في أقاليم محددة طائفياً، في حروب تسمح للهوية الطائفية باستباق أو باستخلاص الهوية السياسية. فقرار تشكيل ميليشيات أخذ كل الأحزاب السياسية إلى ملعبٍ جعلهم يفقدون تدريجاً هويتهم وخصوصيتهم.

بهذا المعنى، تشكّل الميليشيا كمّاً لأفواه المجتمع المدني، بمعنى أنها تقمع كل أشكال الانتظام السبّاقة لها أو الخارجة عن تصورها. تتغذى سلطة الميليشيا من خروقات الدولة الممزقة وتتوسع من خلال تحصيل ضرائب وتشغيل مرافئ وكسارات وفتح إذاعات وكلها غير شرعية، ناهيك بالانشطار الاصطناعي لسوق العمل ولسوق الأملاك والبضائع. إلا أن نظام الحرب الميليشيوي هو أكثر تعقيداً من كونه نقيض المجتمع المدني لأنه أيضاً أحد

فالميليشيا تستمدّ عناصرها من «مجتمعها» المدني حيث تختلط باستمرار أجيال جديدة داخلة إليها مع أجيال أقدم خارجة منها. كنا نعتقد (بسذاجة) إن نظام الحرب الميليشيوي قد قضى على المجتمع المدني، وأن انتهاء الحرب سيؤدي آلياً إلى إعادة ظهوره وإلى تهميش الميليشيات نتيجة انتهاء دورها العسكري. فاتنا أن الحرب بما عنته من انهيار الدولة كرست انتصار النظام النيو- طائفي الذي عجنته الحرب على النظام الطائفي التقليدي ودولته.

بعد ما سمّي بـ«حرب السنتين»، لم تكن في الواقع أول حكومة لسليم الحص (1976) الا آخر سراب لاستعادة الدولة. ثم كرّت مسبحة التفكك بدءاً بفساد عهد أمين الجميل، مروراً بحقبة رفيق الحريري التي «اشترت» رضى الميليشيات واستبدلت الدولة بجهاز خاص، وصولاً الى تحاصص وتعطيل الدولة بعد اتفاق الدوحة. بكلمات أخرى، بشير الجميل هزم دولة الشيخ بيار، ووليد جنبلاط شوّه حلم كمال بيك، ونبيه بري سرق مشروع الإمام الصدر. تقمّصوا أسلافهم في الشكل، ولكنهم صفّوهم في الواقع. منذ لحظة اندلاع الحرب، خلق النظام النيو-طائفي بنيته التحتية بتصحير التنوع المناطقي والثقافي، وما لم يستطيعوا تصحيره في البداية كالنقابات، قضوا عليه في النهاية. والدليل الساطع بأن النظام النيو-طائفي، أي نظام الحرب الميليشيوي، قضى بالضربة القاضية على النظام الطائفي التقليدي، يكمن في أن حركات مثل العونية أو الحريرية التي نشأت متأخرة وكانت متنوعة طائفياً ومقتنعة بأنها أتت لمواجهة نظام الحرب، سرعان ما استسلمت لقانون اللعبة الجديد فصارت متجانسة طائفياً ومتشابهة لدرجة لم يعد من الممكن تمييزها- إن لم يكن عن ميليشيات الحرب- على الأقل عما آلت إليه أحزابها بعد انتهائها. بهذا المعنى، «نظام الحرب»، ما أسميه النظام النيو- طائفي، هيمن على سِلْم ما بعد الحرب، والاعتراف بهذه الحقيقة هو المدماك الأول لمن يريد عن جد مواجهة الواقع.

الجيش

هنا، ملاحظة على الهامش تبدو من خارج السياق ولكن لا بد من قولها. إنها تعني الجيش وقد تكون مفيدة في هذه الأيام. في حرب السنتين، رأينا مشاهد عسكرية سنية لم تكن تقليدية. أبطالها نور الدين وعزيز وأحمدان إثنان.

أولاً، العميد الأول المتقاعد نور الدين الرفاعي: عيّن سليمان فرنجية المحشور سياسياً في 23 أيار 1975 حكومة عسكرية برئاسة الرفاعي. ولكنّ وقعها كان هزيلاً ولم تُخِفْ أحداً وكانت أقصر حكومة في تاريخ الجمهورية وأُجبرت على الاستقالة في أول تموز، أي بعد أقلّ من أربعين يوماً.

ثانياً، العميد عزيز الأحدب: ليل 11/ 3/ 1976، أطلّ الأحدب على شاشات التلفزة، وهو قائد المنطقة العسكرية في بيروت وشخصية معروفة ومحترمة وأعلن نفسه حاكماً عسكرياً على لبنان وطلب من الرئيس سليمان فرنجية الاستقالة الفورية. كان أول (وآخر؟) انقلاب عسكري تعرفه البلاد، إلا أنه سرعان ما تبيّن أنه مجرد إنقلاب تلفزيوني مسرحي. رفض فرنجية الالتزام بأوامره و(في الملموس) نتج عن انقلاب الأحدب أنه بكّر بعدّة أشهر عملية انتخاب خلف لفرنجية.

ثالثاً، الملازم الأول أحمد الخطيب: أيضاً، في سابقة لبنانية استثنائية، انشقّ الخطيب (وهو والد حسين وعمّ فادي، لاعبي كرة السلة) مع ألف عنصر من الجيش في البقاع في 21 كانون الثاني 1976، واعترضوا على تدخل الجيش إلى جانب «الجبهة اللبنانية» (المسيحية) وطالبوا بتعديلات في سياسة الجيش وتركيبته. وجدوا تشجيعاً (ودعماً) من منظمة فتح، وفيما أرادت بعض السلطة معاقبتهم واعتبارهم فارّين، توسّعت حركتهم إلى الشمال والجنوب وسيطروا على ثلاثة أرباع ثكنات البلد. وكادوا (مع القوات الموالية للأحدب) في أواسط آذار أن يحتلوا قصر بعبدا لإزاحة سليمان فرنجية لو لم تتصدَّ لهم قوات الصاعقة وجيش التحرير الفلسطيني المواليَيْن لسوريا. وفي تشرين الثاني، لدى انتشار قوات الردع العربية، تمّ اعتقال الخطيب ونقله لدمشق لأنه تجرأ وردّد في أحد خطاباته شعار «أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان»، ثم  أفرج عنه بعد سنتين، بعد معركة الأشرفية.

رابعاً، اللواء الركن أحمد الحاج. وهذه قصة نادراً ما تحكى. الحاج كان ضابط الارتباط مع فؤاد شهاب وكان مهندس الخيمة التي جمعت على الحدود الرئيسين عبد الناصر وشهاب في 25 آذار 1959 بعد حرب 1958. وكان من أكفأ الضباط ومقرباُ جداً من الرئيس سركيس. وعندما أراد هذا الأخير تعيين قائد للجيش، عبّر الحاج لصديقه عن رغبته في تولي المنصب المحجوز للموارنة، وقال له سركيس إنّ لا مانع لديه إنْ حَصَلَ على موافقة الشيخ بيار الجميل. وتوجه الحاج إلى زعيم الكتائب الذي رحّب به أحلى ترحيب وأثنى على صفاته ووطنيته ثم اعتذر عن قبول طلبه لئلا «يخلق سابقة». عُيّن الحاج أول قائد لقوات الردع العربية واستقال بعد خمسة أشهر لعدم توافق مزاجه مع الضباط السوريين، وعُيّن فيما بعد مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي ثم سفيراً في لندن وروما.

بعد هذه الأحداث التي تجري كلها في حرب السنتين، لننتقل الآن إلى نهاية الحرب وإسم الأبطال (كلهم موارنة)، إميل وميشالان إثنان وجوزاف. نتيجة اتفاق الطائف، عُدِّل الدستور اللبناني في 21 /9/ 1990 وشملت التعديلات المادة 49 من الدستور التي صارت تنصّ على أنّ القضاة «وما يعادلها في جميع المؤسسات العامة» (والمقصود قائد الجيش) لا يجوز انتخابهم إلا إذا استقالوا قبل سنتين من وظيفتهم. وغاية هذا التعديل، منع قائد الجيش من توظيف مركزه للوصول إلى الرئاسة ومنع تكرار تجربة ميشال عون. ومنذ هذا التاريخ، لم يصل إلى الرئاسة إلا قادة للجيش وبالتأكيد دون أن يستقيلوا من وظيفتهم، إذ أنها هي التي توصلهم إلى الرئاسة: إميل لحود عام 1998 وميشال سليمان عام 2008 وميشال عون عام 2016 (لم يكن قائد الجيش عند انتخابه) والآن جوزاف عون عام 2024.

عبرة كل هذه الأحداث، على اختلافها، تدلّ على أنّ الجيش هو في لبنان لاعب «سياسي داخلي» وليس لاعباً «عسكرياً إقليمياً»، كما يتطلّب موقعه الجغرافي. لا بأس، ولا أحد يطلب من الجيش أن يفتح معركة مع العدو الإسرائيلي. كل ما هو مطلوب منه هو أن يدافع عن أرض الوطن وأن يمنع خرق مجالنا الجوي (مَنْ مِنْ «أصدقائنا» سيؤمن لنا نظام دفاع مضادّاً للطائرات؟) أي ما يسمى السيادة، وأيضاً أن يكون أداة قانونها الكفاءة وليس الطائفية، إضافة إلى دمج اللبنانيين باعتبارهم كلهم احتياطيين، ما يسمى المواطنة.

١٩٧٧ – ١٩٨٠

ثبات خطوط التماس

بالرغم من كل العنف الذي جرفته وبالرغم من تنوّع جبهاتها، أول ما يلفت النظر في الحرب اللبنانية هو ثبات مواقعها أو قل خطوط التماس التي تترسخ والتي لم تعد تتحرك. على الأقل بين الفريقين الأساسيين، كأنّ الطرفَيْن مقتنعان بواقعيتها أو بعدم جدوى تخطيها. والذاكرة الميليشيوية مليئة بالتفاصيل التي تسرد وتيرة الاشتعال أو التهدئة على الجبهات الأساسية. فكل طرف بحاجة إلى الطرف الآخر لكي يبقى متحكماً بضفّته. هناك بعض الاستثناءات بالتأكيد، نذكر من بينها صعود القوات المشتركة إلى المتن الأعلى الذي سرّع بالتدخل السوري لصالح خصومهم، صعود القوات اللبنانية إلى الجبل، وأمثلة أخرى تثبت (بفشل نتائجها الميدانية في المحصلة) هذه الحقيقة السوسيولوجية. وتكرس إلى حد كبير، برأيي، الطابع «الأهلي» لهذه الحرب. أما الاحتلالات التي أدت إلى تهجير دائم (الكرنتينا والمخيمات الفلسطينية في المنطقة الشرقية) أو مؤقت (بلدات الشوف المسيحية في حرب الجيل او التهجير الجنوبي الناتج عن الإعتداءات الإسرائيلية نموذجاً)، فرافقتها عادة، وللأسف، مجازر مريبة (نذكر منها الكرنتينا أو الدامور او مخيم تل الزعتر وعدد من بلدات الشوف وكذا مجزرة إسرائيلية على سبيل المثال لا الحصر).

في غياب المعارك الهجومية، تتلخّص الحرب بالقصف المسمّى عادةً «عشوائياً» لأنه يطال الأحياء، وبالتالي المدنيين، دون تمييز. أما الأشكال الحربية الأخرى، فتدور حول القنص والخطف في السبعينات والسيارات المفخخة في الثمانينات، وهي أشكال تهدف جميعها إلى إقفال المناطق وتكريس التجانس في داخلها، وبالتالي القسمة والسيطرة الميليشيوية عليها. إضافة للحرب وأدواتها، لجأت الميليشيات إلى الأدوات الإعلامية. ناهيك عن النشرات والمجلات والصحف، اعتمدت على الموجات الصوتية لإيصال رأيها. فأسس حزب الكتائب عام 1975 «صوت لبنان»، وهي أول إذاعة حزبية وتجارية، ثم كرّت السبحة مع «صوت لبنان العربي» التابعة للمرابطون و«صوت لبنان الحر» التابعة لبشير الجميل عام 1978 وصولاً إلى إذاعة الحزب الشيوعي، «صوت الشعب» عام 1987. ولم يكتفوا بذلك، إذ أسست القوات اللبنانية أول قناة تلفزيونية خاصة «المؤسسة اللبنانية للإرسال» عام 1985 بعد أن سرقت أرشيف «تلفزيون لبنان» الذي كان محفوظاُ في منطقة الحازمية. وقتها، بدأ تدهور وضع «تلفزيون لبنان» الذي كان موزعاً على المنطقتين. تدهور تحول إلى انهيار، واكتمل مع الترخيص لعدد من التلفزيونات الخاصة التابعة للقوى السياسية في بداية التسعينات.

جغرافيا الحرب 

بعد التاريخ، شيء من جغرافيا الحرب: عُرِف لبنان عند تأسيسه بأنه فسيفساء من 17 طائفة، وعند إقرار وثيقة الطائف، قيل إنّ الحرب فتّتته إلى 17 كانتوناً دون أن يكونوا متطابقين بين بعضهم. ما يلقي الضوء على صعوبة- لئلا نقول استحالة- إنتاج هيكلية دولة صلبة ومستقرة منذ تأسيس البلد. الطائفية على الصعيد السياسي والليبرالية المتفلتة على الصعيد الاقتصادي تقاطعتا لتجعلا منه بلداً من دون دولة ومن دون مواطنين. وأتت الحرب لتكريس وتعميق اشكال اللا-دولة على بعض الدولة الهجينة، واشكال اللا-شعب لصالح طوابير متطيفة، إن لتحقيق مطلب تعتبره أساسياً لطمأنتها أو للتعبير عن خشيتها من المستقبل. وهذه «الهوية الطائفية» ترتدي تقريباً دائماً «عذراً عقائدياً»- حسب الباحثة إليزابيث بيكار- في إيرلندا كما في لبنان: أحياناً تتبناه بقوة وأحياناً تخفيه، أحياناً إزاء الخارج وأحياناً إزاء الداخل.

الميليشيا هي اللاعب الحقيقي في الحرب اللبنانية. أعضاؤها هم أولاد الأحزاب الذين هم أولاد الطوائف. المثل الكاريكاتوري (والحقيقي بآنٍ) يعني مناطق نفوذ الأحزاب العلمانية (السوري القومي الاجتماعي أو الشيوعي) التي تتقاطع عادة مع مناطق «أرثوذكسية»! هل تفيد هذه الصورة للتدليل كبف أن هذه المؤسسات المتأتية من الجيرة أو من القبلية الطائفية هي نقيضة البنى الدولتية الحديثة؟ لا أدري، ولكنّ الميليشيا التي هي طائفة مسلّحة (أو حزب مسلّح) ستُضعف دون هوادة المجتمع والجيش الوطنيَّين يالمثنّى. الميليشيا، وهي إطار لفرض ضرائب غير شرعية على نموذج المافيات (مقابل خدمات أو حماية)، والتي تدير مرافئ غير شرعية ستؤدي إلى نزيف دائم وإلى نهب مُمَأسَس لموارد الدولة. المأساة اللبنانية تكمن في أن كل مرة أفلست فيها الميليشيات أو عرّابوها الإقليميون، كانت الدولة أيضاً مفلسة.

17  كانتوناً لحظة انعقاد مؤتمر الطائف

في ما يلي، محاولة لجردة الكانتونات لحظة إقرار وثيقة الطائف من خلال ذكر الجغرافيا ثم المورد الأساسي ثم الطرف المهيمن.
الحزام الأمني: (جزء من صور، إضافة إلى بنت جبيل وجزين ومرجعيون وحاصبيا): مرفأ الناقورة. جيش لبنان الجنوبي (وجود سياسي لأحزاب «الجبهة اللبنانية»).
صور النبطية: مرفأ صور/ مصفاة الزهراني. أمل (مع حزب الله، اليسار، منظمة التحرير).
صيدا: مرفأ صيدا. التنظيم الشعبي الناصري ومنظمة التحرير (أحزاب سنية وأقلية شيعية).
»الجبل«: (الشوف وعاليه وقسم من المتن الجنوبي): مرفأ الجية. الحزب التقدمي الاشتراكي (معارضو عرفات في إقليم الخروب. نفوذ الجيش السوري).
بلدات المتن الاعلى: وليست كانتوناً بالمعنى الدقيق للكلمة. قوميون وشيوعيون (نفوذ الجيش السوري).
بيروت الغربية: تعايش أكبر مروحة من الأحزاب ومن المنظمات الفلسطينية وقبضايات الأحياء في فوضى رهيبة (دخول الجيش السوري عام 87).
الضاحية الجنوبية: حزب الله ووجود لأمل في الشياح (دخول الجيش السوري عام 88).
بيروت الشرقية: مرفأ بيروت. القوات اللبنانية منذ عام 1980، مع سيطرة الطاشناق على برج حمود.
(بعبدا (: الضاحية الشرقية والشمالية وجزء من عاليه والمتن الشمالي): كانتون ميشال عون.
كسروان (زائد جبيل): مرفأ جونية. القوات اللبنانية.
زغرتا (زائد جزء من البترون والكورة): مرفأ شكا. المردة.
بشري: سلطة سمير جعجع الفعلية مع بنى عائلية (انتشار ميداني للجيش السوري).
جزء من الكورة: القومي الاجتماعي (مع انتشار ميداني للجيش السوري).
طرابلس: مرفأ طرابلس. باب التبانة/ التوحيد، بعل محسن/ الديموقراطي العربي. خصوصية الميناء وعائلات تقليدية (كلهم مع نفوذ الجيش السوري).
عكار: أحزاب مختلفة (منطقة نفوذ الجيش السوري).
زحلة: حزب إيلي حبيقة مع العائلات (منطقة نفوذ الجيش السوري).
سهل البقاع: مجال استراتيجي للجيش السوري أكثر منه كانتوناً (بعلبك والبقاع الغربي/ حزب الله. الباقي بين أمل وحزب الله.

مسارح الحرب ومعابرها

يبقى الحديث عن مسارح هذه الحروب، وأوّلها العاصمة. انقسمت العاصمة إلى منطقتين، بيروت الشرقية وبيروت الغربية، حوّلتا العاصمة إلى مدينة «دون نواة» [Denoyauté]   (حسب تعبير المهندس جاد تابت الموفّق). ويصف سمير قصير في كتابه «الحرب اللبنانية من الشقاق الوطني إلى النزاع الإقليمي» ما يجمع وما يميّز تلك المنطقتين اللتين عملتا من وسط المدينة ثقباً أسود مهجوراً باستثناء شارع المصارف الذي بقي مصانا وشغالاً (إلا من عمليتي سطو). يشرح قصير كيف كانت المنطقة الشرقية أكثر تجانساً وانتظاماً وأقل تنوعاً وحرية، وكيف تحولت إلى طرف كانتون تحكمه قوة سياسية واحدة، كانتون يمتد إلى بعبدا والمتن وكسروان في جبل لبنان وحتى قضاء جبيل وصارت تقريباً عاصمته جونية. في المقابل، يلحظ كيف تفتقد المنطقة الغربية التي تمثل الجزء الأكبر من العاصمة، لأي قوة تديرها وتنظمها (في الواقع، كانت «فتح» القوة الوحيدة القادرة على لعب هذا الدور ولم تشأ لأسباب مفهومة). فتدهورت أوضاعها وشاخت من قلة العناية مع أنها بقيت مقرّ أهمّ جرائد البلد كـ«النهار» و«السفير» وغيرها. ثم عانت ما عانته خلال الاجتياح الإسرائيلي لعام 1982 قبل أن تقع بقبضة حركة أمل في عهد أمين الجميل، ما جعل أوضاعها تسوء أكثر. لم ترتقِ بيروت الغربية إلى كانتون ولم تتوسّع جنوباً كما فعلت الشرقية شمالاً، بل شاخت لوحدها كسيدة أضاعت أجمل سنوات حياتها. حريق أسواق بيروت ثم نهبها (وقد عشتُهما من شرفة منزلي في زقاق البلاط)- كما نهب مرفأ بيروت-  أثّرت على تركيبة العاصمة ولم تجد بدائل عن أسواقها إلا جزئياً على كورنيش الروشة وفي شارع مار الياس مثلاً.

ومع تحوّل الوسط إلى منطقة معارك، ضاقت الممرّات بين جزْأَيّ العاصمة. الرينغ الذي دُشّن سنوات قليلة قبل بداية الحرب، بقي مقفلاً بسبب القناصين خلال فترات طويلة. ولم يبقَ للمرور إلّا ممرّان أو ثلاثة: أولها السوديكو- بسطا حيث كانت طريق الشام خط التماس الأساسي في العاصمة وصولاً إلى ساحة الشهداء (فيما كانت «جبهة» عين الرمانة- الشياح خط التماس الأساسي في الضواحي). وثانيها ممر الكفاءات مروراً بكنيسة مار مخائيل الذي كانت تعتمده خصوصاً الشاحنات والبضائع. ولكن الأهم والأكثر رمزية كان ممر المتحف– بربير: هنا كنا ننتقل من منطقة الى أخرى بالسيارات مروراً أمام سباق الخيل او المحكمة العسكرية آتين من البربير أو ذاهبين إليه، أو على الأقدام في طريق يعرّج داخل بنايات مدارس منطقة بدارو القريبة من المستشفى العسكري، خوفاً من القناصين. وبعد تدمير الوسط، تحول ممر المتحف البربير إلى نوع من العاصمة السياسية والعسكرية المصغرة: قصر منصور، وهو فيلا على هذا الخط، تحول مقرّاً لمجلس النواب. وسباق الخيل إما إلى مقر للاجتماعات الأمنية بين الميليشيات حيث يقرر وقف إطلاق النار تلو الآخر، وإما إلى مركز لإجراء تبادل المخطوفين من المنطقتين. هنا كان يلتقي أيضاً أنصار السلم إما لشطب المذهب عن الهوية وإما للتظاهر ضد الحرب أو ضد غلاء المعيشة.

في أول أشهر الحرب، كانت المعارك لا تزال محصورة في منطقة بيروت، وكنا نسميها «أحداث». خلال الصيف، كانت تهدأ في بيروت وتنتقل إلى مدينة زحلة في البقاع والى جبهة طرابلس زغرتا شمالاً (مدينتا رئيسي الجمهورية والحكومة) وإلى الدامور باعتبارها بلدة «تقطع» طريق الجنوب. ثم انتشرت الحرب كالطاعون في كل مناطق البلد وعقولها.

لبنان الإقليمي أم الإقليم اللبناني؟

في لبنان، كل شيء يتحول إلى ثنائية عقيمة، والحرب لا تبتعد عن هذه القاعدة. فصار همّ البعض الحسم في توصيف الحرب إذا كانت صراعاً داخلياً وبالتالي حرباً أهلية، أم إذا كانت صراعاً إقليمياً، وبالتالي حرباً على لبنان. وقد استُغلّ استعمال عبارة مندوب لبنان في الأمم المتحدة غسان تويني-«حروب الآخرين على أرضنا»- في إتجاه يتخطى فكر الصحافي غسان تويني الذي كان يعي ويقبل بوزن العناصر الداخلية أو الأهلية في الصراع الذي مزّق «الوطن الصغير». نعتقد أنّ طرح السؤال على هذه الشاكلة هو مقاربة غير مفيدة لأن الحرب اللبنانية كانت مزيجاً من الصراع الداخلي (الأهلي) ومن الصراع الخارجي (الإقليمي). وكيف لا والمشروع اللبناني يتخبّط منذ ولادته في كيفية إدراك حالة السيادة وحالة المواطنة،

وهما مشكلتان مترابطتان ومتلازمتان إن أردنا عن جدّ تحاشي «الزجل» المحلي الذي يستسهل التركيز على ضفة واحدة من المعادلة لإصراره على طمس الأخرى. ليست هذه مقاربتي. ركزنا بما فيه الكفاية في ما سبق على الطابع الداخلي للصراع، من المهم الآن إلقاء الضوء على كيفية سقوط البلد الصغير بقبائله المتناحرة في فخ، والأصحّ في أفخاخ جيرانه وأفخاخ الآخرين. سنركز على أربعة لاعبين (الفلسطينيون، سوريا وإسرائيل وإيران) متجاهلين اللاعبين الآخرين والبعض منهم لعب من دون شك أدوراً هامّة في المأساة اللبنانية، أكانوا غربيين (مثل الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والقوات الدولية وغيرها) أم عرباً (مثل مصر والعراق والسعودية وليبيا والأردن والأخضر الإبراهيمي وقطر وقوات الردع وغيرها…)

١٩٨١ – ١٩٨٣

الفلسطينيّون 

يتساءل المرء إن كان عليه الحديث عن الفلسطينيين كعامل خارجي أو كعامل داخلي في التركيبة اللبنانية، قبل وبعد إتفاق القاهرة (الذي أبرم عام 1969 وألغي «نظرياً» عام 1987) الذي انعقد بين الجيش والمنظمات، والذي منح الأخيرة حق التواجد المسلح داخل المخيمات وفي بعض أنحاء الجنوب. قبل 1950، سكن الفلسطينيون في المخيمات التي شُيِّدت في الثلاثينات لاستقبال الأرمن. بعد عام 1950، توزعوا على 16 مخيماً في لبنان لم يبقَ منها بعد الحرب إلّا 11. بعد أيلول الأسود في الأردن عام 1970، انتقلت المقاومة الفلسطينية بقياداتها ومقاتليها إلى لبنان. كان قسم منهم متواجداً اصلاً في لبنان، ولكن في العقد الذي يمتد بين 1972 و1982، وبعد دخول القيادات الفلسطينية إلى لبنان وحتى خروجها منه، تحوّل لبنان إلى مسرح الصراع العربي الإسرائيلي الأول، وكذلك مسرح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يتحمل الفلسطينيون- أسوة بالباقين- مسؤولية كبيرة لا مجال لإنكارها في اندلاع الحرب اللبنانية التي دفّعتهم في المقابل فاتورة عالية. خلال حرب السنتين، تمّ احتلال كل مخيمات المناطق الشرقية وتدميرها (من هنا، تناقص عددها). وفي عام 1982، كان مخيّما صبرا وشاتيلا مسرحاً لإحدى أبشع المجازر– إن لم تكن الأبشع– التي عرفتها البلاد خلال كل سنوات الحرب. وعام 1983، حوصرت كل مخيمات الشمال ثم احتلت. وعام 1985، خاضت حركة أمل «حرب المخيمات» نيابة عن السوريين، وقد دامت حوالي السنتين وفرضت حصاراً قاتلاً على أكثرية مخيمات الضاحية والجنوب.

بعد تجربة عمّان التي أوصلتها إلى «أيلول الأسود»، كانت قيادة فتح حريصة ألا تتورط في السياسة اللبنانية (وهي على سبيل المثال الطرف الوحيد الذي كان قادراً على إمساك الأمن في بيروت الغربية ولم تفعل). إلّا أن بين النوايا والوقائع فرقاً شاسعاً لم يصمد أمام تعدّد الاتجاهات داخل فتح والعلاقات المميزة بين بعض المنظمات الفلسطينية وعدد من الأحزاب اللبنانية اليسارية الشقيقة، ناهيك بضرورة الدفاع عن مخيماتها أمام هجمات الأخصام على اختلافهم. في النتيجة، لم تتورط القيادة الفلسطينية وحسب، بل غرقت في المستنقع اللبناني، أسوة بالأطراف اللبنانية الأخرى، ما أوصلها في بعض الأحيان لتكون قوات فصل بين أمل وحزب الله في إقليم الخروب أو لتتحول إلى وسيط في الحروب المسيحية في المناطق الشرقية.

على الصعيد الإقليمي، حاولت القيادة الفلسطينية أن تحافظ على استقلاليتها بنجاح متفاوت تجاه القيادة السورية التي كانت قد قرّرت الإمساك بكل مكونات الجبهة الشرقية. أما مع إسرائيل، فكانت تتمرّس بين المواجهات والهدنات المتتالية (حتى اجتياح عام 1982) لكي تصبح مفاوضاً مقبولاً. ليس من الخطأ اعتبار أنّ الانتفاضة الأولى كانت نتاج نضالات الفلسطينيين في السبعينات، شرط أن نعي أيضاً أن «الانتفاضة» كانت مستحيلة طالما الوزن الفلسطيني الأساسي كان في لبنان. إنها مفارقة لافتة أن إنبعاث النضال الفلسطيني على أرضه كان يقتضي أن يبتعد بداية عن محيطه الجغرافي والذهاب إلى تونس قبل العودة إلى فلسطين. أخيراً، لبنانياً، فقط اليوم وبعد أكثر من نصف قرن من توقيع اتفاق القاهرة وبعد حوالي 40 سنة على إلغائه، يعود الحديث على إعادة انتشار قوى الدولة اللبنانية داخل المخيمات الفلسطينية. هل يتحقق وكيف؟

١٩٨٤ – ١٩٨٧

سوريا الأسد

اللاعب الإقليمي الثاني هو سوريا الأسدية. دخلت إلى لبنان تضامناً مع سليمان فرنجية، وكان وقتَها الثلاثي عبد الحليم خدام– حكمت  الشهابي– ناجي جميل ينشط كأي مندوب دولي حتى لو كان لسوريا بواسطة حزب البعث والصاعقة وجيش التحرير الفلسطيني أدوات محلية وميدانية. إن مجيء المندوب الأميركي دين براون ومكوثه في لبنان– ربما أغرب مندوب في تاريخ الأزمة اللبنانية، وكان يردد باستمرار أن ليس له أي مهمة محددة (!)– لعب دوراً حاسماً في إقناع كيسنجر وإسرائيل بفائدة التدخل السوري لحلّ الصراع المحلي. وهذا «التدخل» ضد عرفات والمقاومة الفلسطينية وتل الزعتر والحركة الحزبية القومية اليسارية اللبنانية ولصالح فرنجية والجميل وشمعون (المعترض كلامياً عليه) فرض على حافظ الأسد شرحه (وتبريره) للرأي العام في سوريا وحتى لكوادر البعث، خصوصاً أنه كان يواجه في الوقت ذاته صعوبات واضطرابات داخلية. ولكن التطورات الإقليمية مثل وصول اليمين بشخص بيغن (أيار 77) إلى السلطة لأول مرة في تاريخ إسرائيل، وزيارة السادات إلى القدس (تشرين الثاني 77)، واكتشاف الأسد أن جزءاً من الجبهة اللبنانية (بشير الجميل وشمعون) فتح علاقات مع إسرائيل بموازاة علاقته معه، ناهيك بمقتل طوني فرنجية إبن حليفه سليمان على يد الكتائب (حزيران 1978)، كل ذلك جعل من عقلية حافظ الأسد عام 1978 تختلف تماماً عن عقليته قبل سنة ونيّف: استوعب حافظ الأسد أن الجبهة العربية تفسخت إلى غير رجعة وأنه صار عليه السيطرة على كل مكونات ما يسمى بـ«الجبهة الشرقية» (وستبقى عقيدته الأساسية حتى وفاته)، أي إمساك أوراق سوريا بالطبع، ولكن إيضاً لبنان والأردن واللاعب الفلسطيني. برضاهم إذا أمكن، وإلا بقوة الحديد، كما فعل مع الفلسطينيين واليساريين اللبنانيين.

الآن، دقّت ساعة قوات الردع العربية. والقوات السورية صارت موجودة في لبنان كقوات نظامية استدعاها سليمان فرنجية والجبهة المسيحية، وأيضاً تحت بزّات «الصاعقة»، التنظيم الفلسطيني الموالي لسوريا، وأخيراً تحت تسمية قوات الردع العربية (حتى لو كانت هذه الأخيرة بإدارة عماد مصري، وتضمّ وحدات من عدة دول عربية). في تموز 1978، دارت معركة دامت مئة يوم بين القوات السورية والقوات المسيحية (بقيادة بشير الجميل)، وكرست الطلاق النهائي بين نظام الأسد والقوات المسيحية المسلحة. تخلل هذه «الحرب» استقالة الرئيس الياس سركيس (دامت عشرة أيام) الذي كان قد وصل إلى سدّة الرئاسة نتيحة تحالف الجميّل والأسد، وقد أدخل صراعهما عهده في أزمة وجودية عقّدت العلاقات في ما بعد بين القيادتين السورية واللبنانية. وغيّرت معركة الأشرفية المشهد والتحالفات: بعدها، بالنسبة للمسيحيين، صاروا يخوضون حربين: الواحدة مع الفلسطيني، والأخرى مع السوري، حسب تعبير سمير قصير. كرّس مؤتمر بيت الدين، في نهاية سنة 1978، انسحاب السوريين من بيروت الشرقية، وفي الوقت ذاته جدّد الثقة للقوات العربية التي اقتصرت بعد انسحاب المصريين ثم السودانيين واليمنيين والسعوديين والإماراتيين، على الوحدات السورية. في نيسان 1979، صارت قوات الردع العربية الإسم الفني للقوات السورية او للقوات الخاضعة لإمرتها مثل جيش التحرير الفلسطيني.

بعدئذ أخذ الدور الإقليمي السوري يطغى على الاعتبارات الأخرى، فلم يعد يرضى بتدخل الجيش اللبناني قبل تنقية صفوفه من العناصر المعادية للأسد وقبل انتشاره في الجنوب: هي حادثة كوكبا (1978) حيث لم يستطع الجيش الانتشار بسبب تصدي إسرائيل والميليشيات الحليفة له. عام 1981، دلت أزمة الصواريخ في البقاع والمعارك حول زحلة أن الطابع الجيو إستراتيجي للأزمة تغلّب على كل الباقي. وقتئذ، نجحت سوريا في إبقاء صواريخها ولكن إسرائيل دمرتها في أول يوم من الإجتياح عام 1982. قزّمت الحرب الإسرائيلية الوجود السوري في لبنان إلى أدنى مستوياته دون أن يمنعه ذلك من تصفية حساباته مع عرفات في طرابلس (1983). ولكن ما إن بدأ يتعثر المخطط الإسرائيلي (بعد اغتيال بشير الجميل) وبعد أن تلقت الوحدات الغربية ضربات موجعة الواحدة تلو الأخرى حتى تبيّن أن سوريا حافظت على الأقل على نصف الأوراق اللبنانية وعلى كامل أدوارها: كانت الوسيط في أزمة الرهائن (1986) والفاصل بين القوى المتقاتلة في بيروت الغربية (1987) وفي الضاحية (1988).

لم تنفع القمم الـ11 بين الأسد والجميّل- ولا الإتفاق بين مورفي والأسد على تسمية ميخائيل الضاهر رئيساً- في تنقية الوضع وشق طريق للحل. فانتهى عهد أمين الجميل بالفراغ الرئاسي وبحكومتين متنافستين. لم تغيّر حرب ميشال عون «التحريرية» من دور سوريا، بل استعجلت تدخّل القمّة العربية التي فرضت على سوريا في مؤتمر الطائف ضرورة إعادة انتشارها بعد مرور سنتين على تحوّل الاتفاق دستوراً. ولكن مشاركة سوريا في الائتلاف الدولي في حرب الخليج وسّع من حرية تصرفها في لبنان. فتخلّت عن التزاماتها وأصبحت عرّاب تطبيق اتفاق المصالحة الوطنية وسائق عربة الترويكا التي كانت واجهة الحكم في لبنان. الكل يسايرها ويريد رضاها باستثناء التيار العوني الذي يتحدث عن «احتلال سوري». إن وفاة حافظ الأسد والتغييرات والملابسات التي حصلت في سوريا للسماح لابنه بشار بالوصول الى الرئاسة غيّرت تدريجاً خارطة التحالفات في لبنان. وعلى أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فُرِضَ الانسحاب عليها من لبنان بعد 30 سنة من وجودها فيه، نتيجة الضغط الخارجي والداخلي. السؤال اليوم: علامَ ستستقرّ العلاقة السورية اللبنانية بعد سقوط آل الأسد؟

١٩٨٨ – ١٩٩٠

إسرائيل

اللاعب الإقليمي الثالث هو إسرائيل. أسوةً بسوريا، فرضت الجغرافيا وجودها في هذه اللعبة، إضافة إلى أنّها المسبِّب الأساسي للمأساة الفلسطينية ولتواجد شعب فلسطين في لبنان. السهل مع إسرائيل أنها تقول ما تفعله، لا بل تبشّر به. يقول موشي دايان عام 1954 (في مذكرات وزير الخارجية موشي شاريت): ليس علينا إلا إيجاد ضابط لبناني، حتى لو كان مجرد نقيب. نستطيع أن نكسب ودّه، وإلا نشتريه، لنحرّضه كي يعلن نفسه منقذاً للموارنة. وعندئذٍ ندخل إلى لبنان ونحتلّ الأراضي الضرورية. حتى اليوم، ما زال اليمين المتطرّف يسمّي جنوب لبنان الجليل الأعلى. في حرب 1948، احتلّت إسرائيل أراضي لبنانية حتى نهر الليطاني، ولم تنسحب إلا عام 1949 بعد أن قضمت 7 ضيع لبنانية. خلال فترة 1949-1968 التي تسمّيها إسرائيل بـ«الجيرة الحسنة»، لم تتوقف يوماً اعتداءاتها. في الخمسينات، عبّرت إسرائيل عن إرادتها بتحويل 55% من مياه نهر الليطاني لأراضيها (مشروع كوتون). وكان هجوم إسرائيل على مطار بيروت وتدميرها كل الطائرات المدنية آخر أيام عام 1968 الدليل القاطع على بداية مرحلة جديدة. كانت ذريعة إسرائيل أنّ خاطفي طائرة كانوا قد عرجوا على مطار بيروت. من 1969 لغاية 1981، حسب أرقام الجيش الإسرائيلي، سقط للإسرائيليين 82 قتيلاً وكان ردّها على هذا التحدي الحقيقي والمحدود بعشرات من الغارات، كل واحدة منها تركت 80 قتيلاً، ودائماً باسم أمنها التي كانت ترفده كل مرة بصفات مختلفة. أما الهدف الدائم، فهو تحطيم ثقة الناس بالجيش اللبناني (طالما يتعايش سلمياً مع المقاومة الفلسطينية) والاحتفاظ لنفسها بحقّ التدخّل في لبنان، بما في ذلك حقها بأن تطرد إليه كل من قررت أنها لا تريده في أراضي الـ67.

عام 1976، فتحت إسرائيل مستوصفَيْن على الحدود وأنشأت 21 مركزاً عسكرياً. أما «النقيب» الذي كانت تبحث عنه، فوجدتْه بشخص الرائد سعد حداد الذي سيخلفه الضابط المتقاعد أنطوان لحد بعد وفاة حداد عام 1984. في «الكانتون الإسرائيلي»، فُرض التجنيد إجباري حتى لو تطلب ذلك محاصرة البلدات لإخضاعها. يشرف على الأمن والدفاع والإدارة مستشارون إسرائيليون (حوالي 200 عنصر)، مهمتهم فكفكة العلاقات مع لبنان وتأمين فرص عمل في الكيان الصهيوني، خصوصاً بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى. أخيراً ليس آخراً، كان الكانتون ممرّاً مميّزاً للبضاعة الإسرائيلية المقدّرة بـ3 ملايين من الدولارات شهرياً. ويبقى السؤال: لماذا زوّدت إسرائيل حدودها مع الأردن بنظام دفاع واستكشاف في نهاية الستينات فيما لم تفعل نفس الشيء في لبنان إلا بأواسط الثمانينات؟ الجواب شفاف: للحفاظ على حزمة من الأدوات لتدخّلها الدائم.

في آذار 1978، أدخلت إسرائيل 25 ألف جندي ولم تسحبهم إلا بعد إنشاء منطقتين عازلتين، واحدة بأيدي القوات الدولية والثانية تحت سيطرة الميليشيات المسيحية. عام 1979، أخذت هذه المنطقة إسم «دولة لبنان الحر»، والميليشيات اسم «جيش لبنان الحر». اجتياح عام 1982 هو نسخة مضخمة للسيناريو نفسه. ومع أنّ وقف إطلاق النار كان ساري المفعول بين إسرائيل ومنظمة التحرير منذ 11 شهراً، أصبحت فجأة غاية عملية «السلام في الجليل» طرد الفلسطينيين إلى 40 كلم ما وراء الحدود. ثم قررت القيادة السياسية المؤلفة من بيغن وشارون الوصول إلى بيروت وفرض بشير الجميل رئيساً. وعندما تراجعت تدريجاً تحت ضغط مقاومة (وطنية ثمّ إسلامية) فاعلة، مارست لدى كل انسحاب جزئي سياسة الأرض المحروقة بعد تأجيج التوترات المذهبية وتخريب البنى التحتية. وبعد الثمانينات، تحول القصف المدفعي روتيناً يومياً لإجبار المقاومة على البقاء في موقع دفاعي. عندما قررت إسرائيل أخيراً الإنسحاب عام 2000، انهار «الكانتون» التابع لها وتحرّر الجنوب وتوحد مع باقي لبنان.

ما يمكن استخلاصه من سنوات الحرب أنّ إسرائيل فرضت على سوريا خطوطاً حمراً، تراجعت عن بعضها إلا بما يخص تواجد قوات سوريا جنوب مجرى الليطاني. كما كانت تراهن دائماً على استمرار الحرب اللبنانية، وتؤججها عندما تهدأ وتتدخل فيها عندما تولع، خصوصاً وليس حصراً في الجنوب. العبرة الثالثة هي أنّ إسرائيل كانت ترفض بشكل منهجي انتشار الجيش اللبناني أو القوات الدولية إذا عنى ذلك فكفكة كانتونها أو ميليشياته. وأخيراً وليس آخراً، لإسرائيل دائماً خطط لحرب قادمة- سواء أعطيت لها الذريعة أم لا- كما حدث عام 1978 و1982، ولكن أيضاً في 2006 و2024.

إيران الجمهورية الإسلامية

اللاعب الإقليمي الرابع هو إيران الجمهورية الإسلامية. ولولا الثورة الخمينية، بالتأكيد، لما كان ورد إسمها بين اللاعبين الإقليميين الذين اختزلناهم بـ«الجيران». قبلها، أتى موسى الصدر الذي تَحَوَّل ظاهرة لبنانية. كان الصدر إماماً مميّزاً من أب لبناني، وقد ولد وتربّى ودرس في إيران، ولم تكن إيران– حليفة إسرائيل آنذاك– قد أصبحت عاملاً إقليمياً في لبنان. بلى، هي الثورة الإسلامية التي سمحت (بعد اختفاء الإمام موسى الصدر) بتوحيد أربعة اتجاهات أصولية في بداية الثمانينات لتصنع منهم «حزب الله» ولتعطي للطائفة الشيعية– الأقرب أصلاً لشيعة العراق– عرّاباً دولياً أسوة بالطوائف الكبيرة الأخرى. هذا «الاستثمار» الإيراني- ويضاف إليه الرضى الأسدي– هو الذي سمح لحزب الله بأن يتفرّد بمقاومة إسرائيل ثم أن ينجح في استقطاب العناصر الأكثر حيوية في الطائفة الشيعية (بعد التخلي عن نفوذ السيّد فضل الله) قبل أن يصبح القوة المهيمنة بداية في الضاحية وسهل البقاع وصولاً إلى الجنوب. أمّا المعارك الدموية بين أمل وحزب الله، فهي التي جعلت العرّابَين السوري والإيراني يتدخلان لفرض صيغة «الثنائي المتضامن» السائدة حتى أيامنا هذه.

في الثمانيات، تحوّل حزب الله إلى القاعدة المتقدّمة للمصالح الإيرانية في مسلسل الرهائن  ولعب دور صندوق بريد لخلافات طهران مع الدول الغربية. وعندما صار لإيران مشروع إقليمي يجنّد شيعة العالم العربي الإثني عشريين، إضافة الى مذاهب أقلية أخرى كالعلويين في سوريا والحوثيين في اليمن، في ميني حرب عالمية سنّية شيعية، كان أيضاً حزب الله التلميذ الشاطر والنموذج المتقدم في ما سمّي بـ«محور الممانعة». وصار حزب الله يتحكم بقرارات الدولة اللبنانية، أو بالأحرى يمنع القرارات التي لا تناسبه (كما حصل مع «الجبهة اللبنانية» في عهد سليمان فرنجية وآخر عهد الياس سركيس، أو مع رفيق حريري- ولو بشكل آخر- الذي استبدل جهاز الدولة بجهاز تابع له). إلّا أنّ لهذا المشروع حدوداً تفرضها الطبيعة الأقلوية للمذهب الشيعي في العالم العربي. وكلّ ما نجح زعيم كاريزميّ مثل حسن نصرالله في مراكمته في قلوب العرب من غير الشيعة من رصيد وعطف نتيجة صموده أمام إسرائيل في حرب تموز عام 2006، عاد وبذّره بلمحة عين عندما صعد إلى سوريا (الأرجح بطلب إيراني) لإنقاذ نظام بيت الأسد. إلا أن عملية 7 أكتوبر (طوفان الأقصى) التي فرضت على حزب الله فتح جبهة إسناد لغزة، أدّت في النهاية إلى إثبات التفوق إسرائيل التكنولوجي وتلقين ضربات موجعة لقيادات حزب الله (وحماس). كما يبدو أن عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة ستشكل نقطة تحوّل تفرض على دول «محور الممانعة» سابقاً، تغليب مصالحها الوطنية على مشاريعها الإقليمية.

هل من حركات سلام وهل كان من الممكن تحاشي الحرب؟

عودة خاطفة للتاريخ: هناك نموذجان أمام أعيننا. الإدارة الذاتية «الدرزية» التي سبقت نظام القائمقاميتين، والتي كانت الدولة العثمانية قد منحتها في جبل لبنان، ولبنان الكبير «الماروني» تحت الانتداب الفرنسي ثم المستقل (مع الشريك السنّي). وهما مجتمعان لا يمكن مقارنتهما. فالثاني أكثر تعقيداً ومدينيّةً من الأول بأضعاف. ولكن في الحالتين، طالما استطاع النظام الطائفي أن يدمج وأن يسهل الترقي الاجتماعي لفئات أوسع من طائفة الحاكم، نجح في أن يعمل. أما عندما حاول النظام تجميد او تثبيت وضع متغيّر بطبيعته، فكان يتعطل. وعندئذ لم تكن الطبقة الحاكمة آخر من ينتفض على نظام بدأ يتفلّت من أيديها: حصل ذلك في أواسط القرن التاسع عشر مع الدروز، وحصل مجدداً في سبعينات القرن العشرين مع الموارنة. ويبدو أنه بعد انقطاع «حبل» الاندماج والترقّي، يصبح في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، إعادة ترميم النظام.

هوامش في وجه الحرب

هنا، يعود التساؤل السابق ليفرض نفسه: هل تواجدت قوى- على الأقل في النموذج الثاني (لبنان الكبير)- حاولت بإسم التعقيد والمدنية أن تقاوم هذا «الانفراط»؟ بالتأكيد، تواجدت دائماً قوى اجتماعية أو هيئات او شخصيات حاولت التصدّي للانزلاق نحو العنف، أو على الأقل رفضته بداخلها او بمواقفها.

إلا أنّ تعقيدات الصراع (هذه المرّة) والتدخلات الإقليمية المتنوعة والنظام الطائفي بطبيعته التي لا تعمل حساباً للأفراد، كل ذلك جعل من الصعب على أنصار السلم أن يتلاقوا وأن يعدّوا صفوفهم أو أن يترسّخوا أو أن يراكموا أو أن يخرجوا من الهامشية الأخلاقية التي وضعوا فيها. في ما يلي، لائحة مقتضبة (وناقصة بطبيعة الحال) لأفراد ومجموعات أو تحركات حاولت مباشرة أو بشكل ملتوٍ الوقوف بوجه انتشار آلة الموت.

أبدأ بالشريف الأخوي، وهو رجل عادي يعمل في إذاعة بيروت وأخذ على عاتقه إبلاغ المواطنين بالشوارع الخطرة لتحاشيها وبالطرق «السالكة والآمنة». حصل ذلك في بداية الحرب، وقد لاقت مبادرته المقرونة بنداءات لوقف الحرب استحساناً عارماً. أيضاً في الأشهر الأولى، نُظِّمت تحرّكات مواطنية في شوارع بيروت الغربية وعلى المتحف لشطب المذهب عن بطاقة الهوية. لدينا أيضاً هيئات محلية مثل »الجبهة الموحدة لرأس بيروت« وهي نموذج عن تحركات مدنية استمرت سنوات وحاولت أن تدافع عن المواطنين العزّل في حياتهم اليومية. لا بد من ذكر مؤسسات مثل الصليب الأحمر والدفاع المدني، أبطال حقيقيون ومجهولون يتدخلون كل يوم ويخاطرون بحياتهم دون انقطاع من أجل إنقاذ حياة الآخرين. بين المنظمات غير الحكومية، يجب الإضاءة على مؤسسة مميزة مثل «الحركة الاجتماعية» بريادة المطران غريغوار حداد. أو الإضراب عن الطعام الذي قام به الإمام موسى الصدر، والنداءات المتتالية للبطريك خريش. في أواسط الثمانينات، أطلّ الفكر اللاعنفي بواسطة وجه معلمة من الـBUC إسمها إيمان خليفة، تلتها لجنة حقوق الإنسان التي أسساها لور وجوزيف مغيزل قبل أن تتمأسس الفكرة بواسطة »حركة اللاعنف«. في أوساط أكثر شعبية، نذكر تحركات أهل إقليم التفاح لوقف المعارك بين أمل وحزب الله وللعودة إلى ضيعهم، أو الإضراب العام في صيدا لوقف الاشتباكات بين المنظمات الفلسطينية، أو حركة المقاومة المدنية في «الحزام الأمني» المطالِبة بإحلال قوات الأمم المتحدة محل الميليشيات الموالية لإسرائيل. من جهة أخرى، شكلت النوادي الثقافية في عدة مناطق، والموجودة منذ ما قبل الحرب، مراكز للصمود الفكري. وقد عانت من بطش الميليشيات خصوصاً عندما حاولت التنسيق في ما بينها، والحفاظ على تنوع الأفكار، ورفضت الانجرار وراء الجنون المحيط. كنماذج، نكتفي بذكر الحركة الثقافية في انطلياس والرابطة الثقافية في طرابلس. أخيراً وليس آخراً، لجنة أهالي المفقودين التي ولدت عام 1982 في بيروت الغربية ثم عرفت كيف تتوسع إلى كل أنحاء البلد، كون ظاهرة الخطف والاختفاء كانت للأسف ظاهرة معمّمة. ولا ننسى مسيرة المعاقين من حلبا لصور عام 1987 المطالبة بوقف الحرب في عقر دار الميليشيات أو حملة مثل »الرئيس الحل« التي قامت بها لجان أصدقاء العميد ريمون إده عام 1988، والتي طالبت بحلّ جميع الميليشيات وخروج كافة القوى الاجنبية.

يبقى مهمّاً الحديث عن الحركة النقابية وكيف نجحت في الحفاظ على وحدتها وكيف صارت بيانات الاتحاد العمالي العام (بدءاً من عام 1983) تحمل كأوّل مطلب لها وقف الحرب. حاول هذا الاتحاد التنسيق مع أرباب العمل لهذه الغاية، لكن دون جدوى. ثمّ عاد دوره إلى الواجهة مع تدهور الوضع الاقتصادي عام 86 ومع انهياره عام 87، حيث نجح الاتحاد في التحول إلى نقطة ارتكاز لتشكيل «هيئة تنسيق» مع نقابات المهن الحرة ونقابات الأساتذة والنوادي الثقافية. نجحوا في إعلان إضراب مفتوح دعوا إليه كافة المناطق والطوائف والتقت تظاهراتهم على المتحف ودمّرت الحواجز الترابية بين المناطق. استمر الإضراب خمسة أيام متتالية قبل أن يُعلّق تحت ضغط كافة الميليشيات (كلهم يعني كلهم!).

أيضاً، في الاغتراب، نمتْ بذور تحرّكات حول »مركز للدراسات اللبنانية«  في أوكسفورد على سبيل المثال، وكذلك حركة »كسر الصمت «في باريس. خلاصة كل هذه التحركات هي «شرف» المجتمع اللبناني، إذا جاز التعبير. ولكنها في الوقت ذاته، وبحكم قوة النظام الطائفي، على هامش مجتمع «أهلي» تغرف منه الميليشيات قواها الحية وتنجح باستمرار في تقسيمه وتفتيته إلى عدد من المجتمعات الأهلية التي يعيش كلٌّ منها- وكلما اشتدّت الحرب- في عالمه المقفل. ما يجعل قوة دفع الحرب، في كل مرة، أقوى وأصلب من أي محاولة لوقفها. يمكن تصوّر أن الوضع ربما كان قد تعدّل (دون أي ضمانة!) لو أن أحزاباً علمانية كبيرة، مثلاً، قد وقفت منذ البداية ضدّ الحرب ورفضت الدخول فيها، وهذا ما لم يحدث.

للبقاء في ما حدث، يتساءل كمال صليبي كيف استطاع لبنان أن ينهار إلى هذا الحدّ عام 1975 بالرغم من نجاحاته السابقة المذهلة. ويجيب:

بأثر رجعي، يبدو أن للمشكلة جذورها في طبيعة المجتمع اللبناني الذي ومنذ زمن طويل تقدم بسرعة في عدد من المجالات وبقي جامداً في مجالات أخرى، وللحقيقة بقي قديماً. ويبقى أن لبنان تأسس من عدد من الطوائف المتمايزة. لكل واحدة منها آدابها الخاصة وثقافتها الخاصة، والقدرة على تذكر تاريخها الخاص وعلى تصور لبنان تاريخياً وفلسفياً بطريقتها الخاصة. بطبيعتها، هذه الطوائف كانت ما يمكن تسميته بالقبائل، وصياغة أمّة من هذه المادة الأولية كان يتطلب جهداً في التخيّل لم يتوفّر دائماً، وشكلاً من السموّ في النظرة والطموح نادراً ما كان قادة البلد قادرين عليه.

ويتابع خاتماً:

منذ عام 1975، تلقى اللبنانيون درساً لا ينتهي: من قبل، أوصلهم بحثهم المشترك عن الرفاهية العامة إلى منصة الشرف في العالم العربي ووضع في متناول أيديهم كل الأشياء الطيبة في الحياة. ومذ ذاك الوقت، لم يقُدهم فخ القبلية الكاذب إلا لخرابهم. بين البحث عن الرفاهية العامة وبين فخ القبلية، لا بد من خيار لأنهما لا يتعايشان. ولا يمكن أن يكون هناك أدنى شك في الاختيار لدى العقلاء والذين من المفترض أن تكون قد علّمتهم التجربة في نهاية المطاف.

للبقاء في ما حدث أيضاً وللأسف، يقول جبران خليل جبران في «حديقة النبي» عام 1933: ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين (…) ويل لأمّة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة.

* بول أشقر، صحافي متقاعد متخصص بشؤون اميركا اللاتينية.

* نشرت على موقع ميغافون الالكتروني