تحويل الإحباط إلى هوية ليس حلاً
تستحضر اللحظة السياسية التي يعيشها الشيعة اليوم، ما سبق واختبره المسيحيون في أوائل التسعينات من إحباط وخذلان، وفق قراءات بعض المعنيين بالشأن العام وشجونه. وفي وقت تبدو هذه المقارنة مشروعة في بلد يعيد إنتاج أزماته بهويات طائفية متبدّلة، إلاّ أن بعض التمايزات تبقى جوهرية.
قد يكون من أبرز المشتركات بين المرحلتين شعور الجماعة -المسيحيون يومها والشيعة اليوم- بالاستهداف ومحاولات الإقصاء عن المعادلات السياسية الداخلية، مما يولّد “انفصالاً” عميقاً بالعلاقة مع الوطن والدولة و”الآخر”.
خسارة السرديةّ
يتشابه الفريقان بالإحساس بالخذلان من الدولة أولاً، ومن شركائهم بالوطن ثانياً. تماماً كما يتشاركان دفع ثمن تغيّر موازين القوى والأجندات الإقليمية والدولية الكبرى. لكن اختلافاً أساسياً يكمن في الخلفية الزمنية والسياسية والوطنية والاجتماعية. هي اليوم بالنسبة إلى الشيعة خسارة فادحة. ليست خسارة نفوذ ودور فقط، بل خسارة سردية.
خسر المسيحيون بعد حرب أهلية طويلة، انتهت إلى اقتتال في ما بينهم استنزف آخر قدراتهم. أما اليوم، فخسارة الشيعة تأتي في عزّ “قوتهم” وقد صاروا الرقم الأصعب في المعادلة الداخلية، وفريقاً يحسب له حساب في التأثير إقليمياً، قبل مغامرة “الإسناد” والحرب التي تلتها وقضت، في زمن قياسي، على مراكمة نفوذ وقوة امتدت لعقود.
ورغم التشارك في الإحساس بمرارة الخسارة بين الطرفين، إلاّ أن السياقات مختلفة جداً. فالمسيحيون تعرضوا لتهميش مفروض من نظام خارجي هيمن على القرار اللبناني. أما الشيعة، فإن إحباطهم ينبع من خيارات مارسوها وفرضوها على سائر اللبنانيين. ففي ذروة نفوذهم الداخلي لم ينجحوا في بناء دولة، بل، لأسباب لا يتحملون وحدهم مسؤوليتها، ساهموا إلى حدّ كبير في تعزيز نظام الزبائنية والطائفية. أما قرار الالتحاق بايران وخياراتها وصولاً إلى الحرب الأخيرة التي خاضوها، فقد جعلهم عرضة للاتهام والتشكيك والمساءلة من الداخل والخارج.
وفي السياقات المختلفة أيضاً، فإن علاقة المسيحيين بلبنان كانت دائمًا محكومة بسردية “التأسيس”، بينما علاقة الشيعة قامت على سردية “المظلومية” و”التحرر”.
خسر المسيحيون “لبنانهم” الذي كان رغم كل الملاحظات، جامعة الشرق ومستشفاه ومصرفه وصحافته ومطبعته وكتابه، والأهم واحة حرية.
خسروا اقتصاداً مزدهراً، رغم التفاوت الاجتماعي وغياب الإنماء المتوازن. فوفق دراسة نشرت عام 2005 بلغ الدين الإجمالي للبنان عام 1975 حوالى 3.5 % من الناتج المحلي، وكان معظمه ديناً داخلياً.
بدا لبنان، في عيون مسيحيه، بعد اتفاق الطائف، بلداً مستلباً والمشاركة فيه مشروطة بشطب ذاكرتهم السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية.
وصل الشيعة اليوم إلى لحظة مختلفة في الشكل، متشابهة في المضمون. هم يخسرون “لبنانهم” الذي ضحوا في سبيله بخيرة شبابهم. تترنح صورة “الطائفة القوية” و”الحزب الحامي” بعد أن بدأوا يتلمسون أن إدارتهم للدولة بالمباشر، أو بالتوكيل، كانت كارثية. وصارت تعابير كمثل “توازن الرعب” و”الانتصارات” مثار شك داخل الجماعة نفسها. حلّ محلها في الخطاب اليومي المضمر، القلق المعيشي، و”الكرامة” في تأمين حقوق الإنسان البديهية من مسكن ومأكل وتعليم وفرص عمل.
الإحباط والخسارة كهوية
وإذا كان المسيحيون اختاروا الهجرة كأوسع باب للهروب من انكسارهم وخسارتهم، وهم القادرون على سرعة التأقلم والاندماج في البيئة الغربية، فإن أبواب الهجرة مغلقة، إلى حدّ بعيد أمام الشباب الشيعي في الدول العربية والغربية. والجيل الجديد الذي نشا على خطاب المقاومة، يعيش اليوم زمناً فيه القليل من “الكرامة”، بمفهومها الإنساني المذكور أعلاه، والكثير من الانغلاق المصحوب بشعور الاستهداف والإحباط.
تنعكس هذه التمايزات على الطريقة التي عبّر بها الطرفان، المسيحي والشيعي، عن إحباطهما وأزماتهما. المسيحيون انسحبوا من الدولة نفسها. قاطعوا الانتخابات وانتقدوا من الخارج وراحوا يبكون ملكاً ضائعاً. انغمسوا في خطاب نوستالجي واحتموا بعباءة بطريرك صدف أنه كان من المؤمنين والمبشرين بفكرة لبنان وحدوده الراهنة ودوره.
الشيعة اليوم يسترجعون الكثير من أدبيات “المظلومية” القديمة. لا يزالون عالقين داخل أزمتهم، غير قادرين على الانتقال إلى خارجها، خوفاً من “الانقضاض عليهم”، ولا هم قادرون على الاستمرار في سياسة المكابرة.
وإذا كان المسيحيون استصعبوا كثيراً النظر بارتياب وعداء للدولة في التسعينات، بسبب عمق وتاريخية ارتباطهم بها، فإن الشيعة اليوم ينظرون إليها بريبة وتشكيك غير بعيدين عن ذاكرة العلاقة معها. ويستعيدون سريعاً سردية المظلومية في العلاقة مع الدولة كما في النظرة إلى الذات.
لم يبدأ المسيحيون رحلة “علاجهم” الاّ بالعودة إلى الدولة وخروجهم من منطق “الضحية” والاستهداف، ودخولهم بمنطق الشراكة الوطنية والسياسية.
فتحويل الإحباط إلى هوية ليس حلاً، تماماً كما ليس من الحلول اعتبار الدولة كياناً معادياً. وفيما تعيد كل جماعة صياغة خروجها أو سقوطها بلغتها الخاصة وأسلوبها، يتبدّى لبنان كبلد لا يجتمع أبناؤه إلا على شعور عميق بالخيبة. وهو ينتظر اليوم، مرة جديدة، عودة إحدى طوائفه، بتواضع إلى الدولة، واقتناع سائر الطوائف أن الغلبة لا تكون بانكسار الآخر، كي لا تبقى الخيبة قدراً جماعياً.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 11 نيسان 2025