*سمر يزبك
هل العلويون جماعة بلا صوت
بدايةً، لا يمكن التعامل مع السوريين العلويين (ولا مع غيرهم) وحدةً متجانسةً، لأنهم في الواقع شريحةٌ مجتمعيةٌ تتوزّع عبر طبقات ومواقع اقتصادية وسياسية متباينة. إذا كان النظام قد استغلّهم قاعدةً سلطويةً، فهذا لا يعني أنهم كانوا جميعاً مستفيدين، بل إن الأغلبية ظلّت رهينةَ بنية اقتصادية مغلقة، فلم يكن الامتياز الطائفي سوى غطاءً هشّاً يُخفي هشاشةً اجتماعيةً واقتصاديةً أعمق. تحليل العلويين طبقةً واحدةً هو إعادة إنتاج الصورة التي أرادها النظام عنهم، باعتبارهم كتلةً موحّدةً، فيما الحقيقة أكثر تعقيداً: هناك العلوي الريفي والعلوي المديني، هناك المثقّف والمعارض، هناك الضابط والجندي، وهناك الفقير الذي لا يملك حتى رفاهية التفكير في موقعه السياسي. وحين يُطرح السؤال مثلاً عن موقف العلويين من مجازر النظام، فإن المشكلة تكمن في الافتراض المسبق بأن هناك موقفاً واحداً يمكن أن يُنسَب إلى جماعة بأكملها. هنا، يجب تفكيك التصوّر القائل إن الطوائف تمتلك إرادة موحّدة، أو أنها تنتج مواقف أخلاقية متجانسة. في واقع الأمر، كان العلويون (كغيرهم من السوريين) موزّعين داخل طبقاتٍ من التلقّي والتفاعل مع العنف، لكن ما يميّزهم عن غيرهم أنهم لم يكونوا مجرّد مشاهدين، بل فُرِض عليهم أن يكونوا شركاء في السردية الرسمية. لم يكن دعم النظام بالنسبة لكثيرين خياراً، بل كان استجابة لبنيةٍ من الخوف والتلقين والتطويع.
قبل وصول حافظ الأسد إلى الحكم، لم يكن للعلويين مؤسّسة دينية موحّدة تعبر عنهم، وكان مشايخهم موزّعين بين قرى وجماعات صغيرة، لكلّ منها قراءتها الخاصّة للهُويَّة العلوية. ومع صعود السلطة، تم تصفية أي صوت مستقلّ، مع غياب تام للمشيخة التقليدية، ليصبح المشايخ المقبولين من أفرع المخابرات مجرّد امتداد لجهاز الدولة، وليسوا مرجعية روحية لها. لم يكن هذا الغياب عرضياً، بل جزءاً من عملية تفكيك أيّ بنية قد تخلق ولاءً غير مرتبط بالنظام. لم يُسمَح للعلويين أيضاً بتطوير خطاب ديني مستقل، لأن ذلك كان سيؤسّس لإمكانية وجود هُويَّة غير سياسية للطائفة، وهو ما كان النظام يخشاه. في هذا السياق، تحوّل السوري العلوي من فرد داخل طائفة لها تنوّعها الديني والفكري، إلى مجرّد “جندي في خدمة الدولة”، بلا حقّ في إعادة التفكير بهُويَّته خارج منظومة الأسد. لم تترك عمليات الإقصاء والتطويع وإعادة تشكيل النخب هذه الفرصة لظهور قيادة علوية مستقلة، لأن النظام كان يدرك أن أي تمثيلٍ حقيقيٍّ للطائفة خارج المنظومة الأمنية والسياسية للدولة سيهدّد احتكاره للسلطة. القيادات العلوية البديلة تم تصفيتها رمزياً ومادّياً على مدار عقود، سواء من خلال التهميش أو عبر الاستيعاب داخل أجهزة السلطة، بحيث باتت أيُّ محاولة لإيجاد مسار قيادي مستقل تواجَه بتخوين مزدوج: من النظام الذي يرى فيها تهديداً، ومن الطوائف الأخرى التي ترى فيها مجرّد امتداد له. بالتالي، لم يكن غياب القيادة ناتجاً من قصور داخلي، بل من إستراتيجية ممنهجة حرصت على أن يبقى السوريون العلويون من دون صوتٍ مستقلّ، كي يُستدعون كتلةً متجانسةً فقط، عند الحاجة السياسية. في المقابل، مُنع العلويون من ممارسة التعبير رسمياً عن هويتهم الدينية علناً أو جماعياً، لأن السلطة التي حَكمت باسمهم كانت قد صادرت هذا التعبير، مستبدلةً إيّاه بهُويَّة سياسية أمنية مُصنّعة. لم يُسمح لهم بأن يكونوا جماعةً دينيةً مستقلّةً، لأن النظام لم يكن يرى فيهم إلا امتداداً لأجهزته الأمنية. كان العلوي “الرسمي” هو الجندي، والضابط، والمسؤول، وليس المتصوّف أو الفقيه. هكذا جُرّد العلويون من هُويَّتهم الروحية، ولم يُترَك لهم سوى الهُويًّة الأمنية، التي فُرِضت عليهم بوصفها خيارهم الوحيد داخل النظام.
وحين بدأ النظام في التفكّك، وحين تعرّض ضريح الخصيبي للانتهاك، وجد العلويون أنفسهم للمرّة الأولى أمام حقيقة أن “الهُويَّة الدينية” التي لم تكن جزءاً من وعيهم اليومي عادت فجأة عاملَ صراعٍ، ليس لأنهم سعوا إليها فقط، بل لأن الآخرين رأوا فيهم طائفةً دينيةً قبل أن يروا فيهم أيّ شيء آخر، لقد كانت مظاهرات الاحتجاج على إحراق مقام الخصيبي المرّة الأولى التي ينظر فيها العلويون إلى أنفسهم وهم يعبّرون عن مطلب جماعي بحرّية بعيداً عن القسر الذاتي الذي عاشوه زمن النظام، ولم يطُل بهم الأمر حتى نزلوا إلى الشوارع ثانيةً في مطالب اجتماعية، سواء المتعلّقة برفض عمليات التسريح الجماعي، أو رفض الجرائم المرتكبة في حقّهم تحت عنوان “التصرّفات الفردية”، وهذا ما يحيلنا على السؤال التالي.
لحظة الفرصة الضائعة: لماذا لم ينخرط العلويون في الثورة؟
في بداية الثورة السورية، كان يمكن للعلويين أن يتّخذوا خياراً تاريخياً يغيّر مصيرهم بالكامل، لكنّ عقوداً من الخوف الممنهج جعلت هذا الخيار مستحيلاً. حين اندلعت الثورة، لم يكن العلويون مجرّد متفرّجين، بل كانوا مشدودين بين روايتَين: الأولى، أن هذه فرصة للتغيير والاندماج في مشروع وطني جديد، والثانية، أن هذا التغيير بداية للإبادة الجماعية ضدّهم. هنا، لم يكن بشّار الأسد بحاجة إلى قمع العلويين لإبقائهم في صفّه، بل كان يكفي أن يذكّرهم بما زرعه في وعيهم عقوداً “إمّا أنا أو الفناء”. كانت هذه المعادلة كفيلةً بشلّ أي محاولةٍ للانشقاق الجماعي عن النظام. لكن فشل هذه اللحظة التاريخية لم يكن مسؤولية الخوف الداخلي فقط، بل أيضاً نتيجة عوامل كثيرة بحاجة إلى معالجةٍ منفصلة، لا يفسّرها غياب خطاب ثوري فقط، يكون قادراً على فهم حجم اختراق النظام حدود الإرادة لدى العلويين، وقادر على منافسة سردية النظام، وآلة دعايته، في وسط الطائفة في الوقت ذاته، إضافة إلى عامل مهم، هو غياب القدرة لدى أبناء الطائفة على امتلاك صوتٍ مستقل، بعيداً من آليات السلطة. يضاف إلى ذلك الخوف أن تكون ردّة فعل الأسد على معارضيه العلويين أعنف، لأن المعارضة القادمة من قلب الدائرة الأكثر قرباً للنظام هي الأخطر عليه، ليس لأنها فقط تملك شرعيةً سياسيةً يصعُب نزعُها بسهولة، ولكن لأنّها تهدّد أساس السردية التي يقوم عليها النظام نفسه.
هل يمكن كسر الحلقة؟
السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس فقط كيف وصل السوريون العلويون إلى هذا المأزق، بل كيف يمكن تفكيك هذه البنية التي حوّلتهم إلى رهائن داخل سردية ليست لهم؟ هل يمكنهم أن يكونوا خارج موقع الحارس والخائف في آن؟ هذا هو التحدّي الحقيقي الذي يجب تفكيكُه في أي محاولةٍ لإعادة بناء المعادلة السورية بعيداً من استقطاباتها القسرية. هناك أسئلةٌ كثيرةٌ لن تجد إجاباتها بسهولة، لكنّها تمثل المدخل الضروري لإعادة التفكير بمصير العلويين بعد أن اكتشفوا أن البقاء في السلطة لم يكن انتصاراً، بل كانت المأساة والفخ الأكبر في تاريخهم الحديث. أخيراً وفي مقاربة تفكيكية أكثر عمقاً للعنف الرمزي، الذي أورثه نظام الأسد للسوريين، يمكننا القول إن تجاوز التصنيفات القسرية التي حُصر فيها العلويون لا يكون بإحلال سرديةٍ بديلةٍ تحاول استبدال موقعهم في الخطاب السائد، بل عبر تفكيك البنية التي جعلتهم “موضوعاً” يُحمّل دلالاتٍ سياسيةً مغلقة. هذا يتطلّب النظر إليهم، ليس كتلةً متجانسةً، بل نسيجاً اجتماعياً متغيّراً، موزّعاً عبر تجارب فردية وجماعية متباينة، تتفاعل مع السلطة الجديدة، والمجتمع السوري بكامل أطيافه، والذاكرة الجمعية بطرق متعدّدة. تفكيك العنف الرمزي ضدّ العلويين ولديهم، لا يتم بمجرّد استبدال الخطابات المهيمنة، بل عبر التشكيك في مجمل التصوّرات التي تجعلهم محصورين بين ثنائية القامع والمقموع، أو بين الانتماء القسري والقطيعة المستحيلة، فالهُويَّات ليست جوهريةً، بل متحرّكةً، تُنتَج وتُعاد صياغتها باستمرار داخل فضاءات الصراع والتفاعل الاجتماعي. بناءً على ذلك، لا يكون تحرير العلويين من سرديات السلطة والمعارضة على حدّ سواء عبر مطالبتهم بتقديم اعتذار تاريخي، أو نفي أيّ علاقة لهم بالسلطة، بل عبر تمكينهم من استعادة صوتهم الخاص، وحقّهم في إنتاج هُويَّتهم بعيداً من التوظيف السياسي القسري.
من هنا، ليس تجاوز العنف الرمزي مسألةَ تصحيح سرديات، بل هو إعادة توزيع للسلطة على مستوى إنتاج المعنى ذاته. إذ لا يمكن لأي خطابٍ يدّعي التحرّر أن يُعيد إنتاج الآليات الإقصائية نفسها التي مارسها النظام عبر فرض تصوّرات جامدة على جماعة كاملة. بناء سورية جديدة لا يتم عبر استبدال طائفية بأخرى، بل عبر تفكيك منطق التصنيفات القسْرية الذي حكم الحياة السياسية والاجتماعية عقوداً. حينها فقط، يصبح بالإمكان إعادة التفكير في العلويين، لا امتداداً لسلطة سابقة أو ضحيةً لسرديات مضادّة، بل مجتمعاً يملك إمكاناته الخاصّة في إعادة تعريف ذاته خارج كلّ القوالب المسبقة.
*نشرت في العربي الجديد يوم 08 آذار / مارس 2025
Leave a Comment