*سمر يزبك
تداخلت في المشهد السوري الحالي، إثر سقوط نظام الأسد، الهُويّات الاجتماعية والسياسية في شبكةٍ معقّدةٍ من المعاني والتصوّرات المتضاربة، فلم تعد الطوائف مجرّد كياناتٍ دينية أو إثنية، بل باتت رموزاً شديدة التداخل داخل بنية القوة والهيمنة. هنا، يصبح الحديث الفجّ (مهما بلغت درجة فجاجته) عن العلويين ليس مجرّد نقاشٍ عن جماعةٍ دينية، بل محاولة لفهم كيف تحوّلت هذه الجماعة حاملاً اجتماعياً لمعانٍ تتجاوزها، وكيف حمّلت عبء السلطة، ثمّ أقصيت من إمكانية إعادة تعريف ذاتها خارج هذا الإطار.
ومنذ اندلاع الثورة السورية، تموضع العلويون (مجموعة متخيّلة اجتماعياً) داخل خطابيْن متناقضين: اختزلهم الأول في امتداد النظام الحاكم، وطالبهم الثاني بالتحرّر من إرث الدولة القمعية، من دون أن يمنحهم مساحةً للظهور فاعلين مستقلّين. وهكذا، وُضِعوا في مأزقٍ مزدوج، فهم، من جهة، متّهمون بأنهم كانوا أداة الدولة في ممارسة العنف، ومن جهة أخرى، مطالبون بتقديم اعتذار جماعي عن جرائم لم يقرّرها معظمهم، بل مورست باسمهم. يعكس هذا الاختزال القسري آليات السلطة الرمزية التي تعمل على تحويل الفاعلين الاجتماعيين رموزاً تحمل دلالاتٍ متضخّمةً تفوق حقيقتها الموضوعية. العلوي، في هذا السياق، ليس فرداً يملك استقلاليّة قراره، بل هو علامة مشحونة بالمعاني السياسية، فحين انضمّ بعض المثقّفين والسياسيين السوريين العلويين إلى الثورة، كان من المفترض أن يسقط هذا الوهم التصنيفي، وبدلاً من ذلك، طُلب منهم الاعتذار، وكأن الذات العلوية محكومة مسبقاً بجُرمٍ أصلي لا فكاك منه.
إعادة التفكير في الطائفة
ليس المهمّ هنا البحث عن “حقيقة” السوريين العلويين، بل مساءلة الخطابات التي تُنتجهم كياناً متجانساً، وتعيد تدويرهم داخل سرديات سياسية صلبة، فـ”الدولة” مفهوماً لم تكن سوى جهاز لإنتاج الطوائف، لا بوصفها كياناتٍ حيّة ومتغيّرة، بل بوصفها وحدات ساكنة، يمكن استثمارها سياسياً. وهكذا، حين تآكلت الدولة أمام الثورة، لم تسقط السلطة الطائفية، بل أعيد إنتاجها بشكل مقلوب؛ فبدل أن يكون العلويون “امتدادَ السلطة”، صاروا “بقاياها”، وبدل أن يكونوا جزءاً من الهيمنة، باتوا “الآخر” المرفوض داخل مشروع “التطهير الرمزي” للسردية الوطنية الجديدة.
لا يعبّر هذا الإقصاء عن عملية عدالةٍ انتقالية، بل عن تكرارٍ لديناميكيات الإقصاء ذاتها، وإنْ تغيّرت وجهتها. فكما كان النظام يُسكِت معارضيه عبر تهم الخيانة، نجد اليوم أطيافاً من المعارضة تفرض على العلويين الدخول في طقس الاعتراف القسري، ليس أفراداً لهم مساراتهم الخاصة، بل جماعةً يجب أن تخضع لتصفيةٍ رمزيةٍ تتيح للنظام الجديد تثبيت سرديّته الأخلاقية. ولكن ليس من حقّ كائنٍ من كان اختزال البشر في تمثيلاتهم السياسية، فالعلويُّ، كغيره، ليس مُنتَجاً جاهزاً لصياغات القوة، بل ذاتاً قيد التشكّل المستمرّ، قد يصطفّ مع السلطة أو يقاومها، لكنه في النهاية يرفض أن يُختزل في دور واحد. وإذا كان الخطاب السائد يطلب من العلويين أن يتبرّأوا من إرث النظام، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: من يمنح الحقّ لأي خطابٍ بأن يُطالِب جماعة بأكملها بالتطهّر السياسي؟ أليس في ذلك إعادة إنتاج لصيغ الوصاية ذاتها التي خرجت الثورة أصلاً لتقويضها؟
المجتمع السوري اليوم أمام مفترق طرق، حيث يمكن إعادة التفكير في الطوائف، لا باعتبارها بنىً ميتافيزيقيةً ثابتة، بل فضاءات اجتماعية ديناميكيّة، قابلة لإعادة التشكّل خارج ثنائية التبرئة والإدانة. وكما أن النظام استثمر الطائفيّة في بناء سلطته، فإن تفكيك هذا الاستثمار لا يكون بإنتاج طائفيةٍ مضادّة، بل بفهم أن الجماعات ليست مجرّد امتدادٍ لسياسات الدول، بل هي كياناتٌ متداخلةٌ معقّدة لا يمكن قراءتها إلا ضمن سياقٍ اجتماعيٍّ تاريخي متحرّك.
وبذلك، ليس السؤال كيف يعتذر السوريون العلويون على “انتمائهم السياسي المفترض”، بل كيف يمكن تفكيك بنية الخطاب الذي جعلهم رهائن لهذه الجدلية أصلاً؟ هذا هو التحدّي الحقيقي الذي يواجه مشروع بناء سورية جديدة، تتجاوز التصنيفات العنيفة التي استخدمها النظام ثم ورثها عنه بعض معارضيه من دون وعي.
السوريون والتغييب المتبادل
لم يكن التغييب الذي عانى منه السوريون (جميع السوريين) مجرّد غيابٍ للمعلومات أو نقصاً في التواصل، بل كان نتاج بنيةٍ سلطويةٍ أعادت إنتاج التجزئة بشكلٍ منهجي. في هذا السياق، لم تكن الطوائف والإثنيات والمناطق تعيش في “جهل” بعضها بعضاً، بقدر ما كانت محكومةً بأنماط إدراكٍ محدّدة رسمتها السلطة، حيث جرى تحويل التنوّع إلى حدودٍ غير مرئية، وأُعيد تشكيل الانتماءات لتكون عناصر وظيفية داخل ماكينة الهيمنة السياسية. لم يكن هذا التغييب لم يكن محض مصادفة، بل هو جزءٌ من مشروع طويل لإنتاج مواطنين محاصرين داخل هُويَّات مُحدّدة مسبقاً، إذ لا يظهر “الآخر” إلا خصماً افتراضياً أو تهديداً رمزياً. هنا، لا يكون الحديث عن الطائفية مجرّد محاولةٍ لتوصيف الواقع، بل هو تفكيكٌ لبنية الإدراك التي جعلت هذه الطائفية ممكنةً ومفعّلةً في الوعي الجمعي.
ليس من الدقّة النظر إلى الطائفية معطىً ثابتاً أو حقيقةً صلبةً داخل المجتمع السوري، بقدر ما هي خطاب بُني ووظّف وحمّل معاني محدّدة عبر عقود. لم يكن النظام مجرّد مستفيد من الطائفية، بل كان منتجاً لها، لا بوصفها مجرّد أداة قمع، بل آليةً تنظيميةً داخل الفضاءين السياسي والاجتماعي. بالتالي، لا يعني الحديث عن الطائفية الاعتراف بها حقيقةً ثابتةً، وإنما مواجهتها أداةَ تحكّم، آليةَ فصلٍ ومستودعاً للخوف والولاءات القسرية. في هذا السياق، لا تعني تسمية الأشياء بمسمّياتها تكريس الانقسام، وإنما كشف الأسس التي أعادت تشكيله عقوداً، وتحديد من الذي يملك سلطة تعريف الهُويَّات وتوزيع المواقع في داخلها. في غياب مشروع دولة المواطنة، لم يكن هناك إطارٌ جامعٌ يمكن أن ينظّم العلاقات بين الأفراد والجماعات على أساس قانوني ومؤسّساتي. في هذه الحالة، يصبح الانتماء العضوي (الطائفي، الإثني، العشائري) الملاذ الوحيد أمام الأفراد في لحظات الانهيارين السياسي والاجتماعي. شهد التاريخ الحديث للمكونات السورية دائماً علاقة ملتبسة مع السلطة، لكن التماهي العلوي مع الأسد كان أكثر تعقيداً من أنه مجرّد تحالف براغماتي. لم يكن هذا التماهي مجرّد انحيازٍ سياسي، بل كان إعادة إنتاج هُويَّة الطائفة نفسها داخل قالب السلطة. لم يكن العلويُّ في الدولة مجرّد مواطن، بل كان جزءاً من جهاز الدولة، وليس من مجتمعها. وحين يكون النظام المخرجَ الوحيدَ المتاح للجماعة من تاريخها المهمّش يصبح أكثر من مجرّد سلطة، بل يتحوّل إلى قَدَر. لم يمنح النظام العلويين خياراً آخر، بل جعلهم يشعرون بأنهم إذا لم يكونوا في موقع القوة سيكونون، بالضرورة، في موقع الضحية، كما أن النظام لم يحكم عبر المواطنة، بل عبر إعادة إنتاج الهُويَّات الأولية، ومنحها دوراً وظيفياً داخل منظومته. لم يكن العلويون وحدهم في هذا المسار؛ فقد عاد الجميع إلى جماعتهم الأوّلية حين فقدت الدولة قدرتها على تقديم أيّ معنى شامل للمواطنة؛ كلّ الجماعات، وحتى المكوّن الأكبر للشعب السوري أو ما صار يطلق عليه تجنّياً المكوّن “العربي السُنّي” للأسف، عاد بدوره تحت وقع المجازر (ارتكبها النظام) إلى جماعته الأوليّة غير الموجودة سابقاً في الوعي الوطني السوري. غير أن الفارق الأساس هنا أن العلويين كانوا في موقعٍ شديد الحساسية، لأنهم “وحدهم” تحوّلوا من موقع القوة الظاهرية (المتخيّلة) إلى موقع الخطر الفعلي مع تفكّك النظام. لم يكن خوفهم هنا فقط من “الآخر”، بل كان خوفاً من الفراغ، من فقدان دورهم الاجتماعي الذي حُدّد لهم، من مواجهة واقعٍ لم يُمنحوا يوماً فرصةَ التفكير فيه.
تطويع العلويين: كيف أصبح الخوف سياسةً، كيف حوّلهم النظام حرّاساً قلقين؟
للمرّة الأولى في تاريخهم الحديث، وجد العلويون أنفسهم في موقع القوة بعد عقودٍ من الإقصاء، لكن هذه القوة لم تكن سيادية، بل كانت مُدارةً من بنيةٍ سلطويةٍ أوسع. لم يكونوا ممثَّلين داخل النظام طائفةً، بل أدواتٍ داخل مشروع الدولة الأمنية، وكان هذا التماهي مشروطاً بالخوف الدائم من فقدان المكتسبات أكثر منه تعبيراً عن اقتناعٍ بالشرعية السياسية للنظام. والخوف هنا ليس مجرّد إحساسٍ فردي، بل هو بنية اجتماعية تُنتَج ويُعاد تدويرها عبر أدوات السلطة. بالنسبة للعلويين، كان الخوف المادة الأولية التي بُنيت عليها علاقتهم بالنظام، لا حاميَ لهم، بل حاجزاً بينهم وبين العالم الخارجي. لقد تمّت إعادة تدوير الخوف لديهم باستمرار، ليس من خطر الإبادة الجماعية فقط، الذي لوّح به النظام في أكثر من محطّة، ولكن أيضاً من إمكانية انهيار الامتيازات التي منحها لهم ولو جزئياً. … بهذا، لم يعُد الخوف مجرّد إحساس، بل تحوّل نمط تفكير وميكانيزم جماعياً للنجاة، فلم يعد السؤال: “ما الذي نريده؟”، بل أصبح: “ما الذي نخشى أن نفقده؟”. وبالتالي، لم تكن عملية تطويع العلويين خلال عقودٍ طويلةٍ مجرّد أفكار أيديولوجية، بل كانت مشروعاً عميقاً لتدجينهم داخل ماكينة السلطة، عبر آليات متعدّدة: التوظيف داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية، استنزافهم في حروبٍ لا خيار لهم فيها، تجريدهم من أيّ بدائل سياسية، وجعلهم متواطئين قسراً مع خطاب السلطة، حتى حين لا يؤمنون به. لم يُترَك لهم خيار الرفض إلا بوصفه خيانة، ولم يُسمَح لهم بأن يكونوا شيئاً آخر خارج النموذج الذي رسمه النظام لهم: حرّاساً خائفين على امتيازات هشّة، رهائن لسردية نجاة لا يملكون التحكّم فيها. التماهي العلوي مع الأسد ليس مجرّد ولاء سياسي، بل هو استجابة لبنيةٍ تاريخيةٍ من العنف المُعاد إنتاجه عبر الأجيال. لم يكن العلويون في موقع يسمح لهم بالتصرّف جماعةً سياسيةً مستقلّةً، لأنهم لم يملكوا يوماً فضاءً خارج السلطة يسمح لهم بتشكيل هُويَّة جماعية غير مشروطة بالخوف. في السياقات السلطوية، يتم استثمار الذاكرة الجماعية بوصفها أداة ضبط: يصبح الماضي المخيف المبرّر المستمرّ للولاء الحاضر. العنف الذي تعرّض له العلويون تاريخياً، سواء في شكل تهميش اقتصادي أو اضطهاد ديني، لم يكن مجرّد أحداث معزولة، بل تحوّل سرديةً مؤسّسةً لطريقة فهمهم موقعهم في داخل المجتمع. حين جاء الأسد الأب، لم يكن فقط من صعد بالعلويين إلى السلطة، بل كان من أعاد تعريف علاقتهم بالخوف. بدلاً من أن يكون الخوف هاجساً من الماضي، جعله حافظ الأسد أداةً مستقبليةً: أنتم هنا بفضل النظام، وإذا سقط، سيعود التاريخ إلى الانتقام.
حين مات حافظ الأسد، لم يكن هناك خطرٌ مباشر على السوريين العلويين في المدن. لم يتعرّضوا لأيّ تهديد، ولم تصدر وقتها أيّ دعواتٍ إلى الثورة على النظام، لكن ما دفعهم إلى العودة فوراً إلى قراهم، فيما بدا هروباً جماعياً، لم يكن خطراً مادّياً، بل كان خوفاً رمزياً متجذّراً في اللاوعي الجماعي. لقد بُني وعي العلويين السياسي على فكرة أن وجودهم في المدن وفي مؤسّسات الدولة وفي الجيش كان مشروطاً بوجود النظام نفسه. كانت هذه فكرةً لم تُناقش علناً، لكنّها كانت تعمل حقيقةً ضمنيةً داخل البنية الاجتماعية. لهذا، حين مات الأسد (الأب) بدا أن العقد غير المُعلَن بين الطائفة والنظام قد انكسر، وكأنّ العلويين سيجدون أنفسهم فجأة مكشوفين أمام مجتمع لم يعد هناك من يحكمه باسمهم. لم يكن الخوف من الانتقام فقط، بل كان خوفاً من مواجهة الأسئلة التي لم يُسمح لهم بطرحها يوماً. السؤال الحقيقي ليس لماذا تماهى العلويون مع الأسد، بل لماذا لم يكن لديهم بديلٌ آخر؟ كيف يمكن لمجتمعٍ أن يُجبَر على أن يكون طرفاً في معادلةٍ سياسيةٍ من دون أن يملك حقّ التفكير خارجها؟
إعادة تعريف العلويين أنفسهم جماعةً دينيةً وثقافية واجتماعية، وليس ملحقاً أمنياً للنظام فقط، تحدٍّ لم يُسمَح لهم به عقوداً. ولن يكون الطريق إلى ذلك عبر معاقبتهم طائفةً، بل عبر تفكيك الإرث السياسي الذي جعلهم رهائنَ داخل معادلةٍ لم يصنعوها، لكنّها فُرضت عليهم خياراً وحيداً.
Leave a Comment