*صقر أبو فخر
إنها لمفارقة سياسية عجيبة أن الحرب على الفلسطينيين في غزّة التي امتدت خمسة عشر شهراً، وما برحت همجيتها المسعورة مستمرّة في الضفة الغربية، لم تتمكن من جعل القوى السياسية الفلسطينية الفاعلة “يصلّون على النبي”، ويتوصلون إلى رؤية سياسية موحّدة، أو إلى موقف سياسي مشترك. وهذه الحال ترغمنا على القول، مع الأسف، إن تلك القوى، ما دامت هذه هي حالها الآن، لن تتمكن من العثور أبداً على برنامج سياسي يدفع النضال الوطني الفلسطيني، ولو خطوة واحدة، إلى الأمام. ويلوح لي، كاستنباط منطقي، أن بعض الفصائل الفلسطينية الباقية في قيد الحياة، غير حركات فتح وحماس وحركة الجهاد الإسلامي، وإلى حد ما الجبهتين الشعبية والديمقراطية، لا تمتلك حيوية أو فاعلية تتناسب مع الأوضاع الفلسطينية. والفصائل الأخرى إنما هي استمرار تاريخي لفصائل تبدو كأنها تزم رويداً رويداً كجبهة النضال الشعبي الفلسطيني. وفي ما عدا ذلك، لا فاعلية منظورة لبقية الفصائل بما في ذلك الصاعقة وجبهة التحرير الفلسطينية وجبهة التحرير العربية والجبهة الشعبية – القيادة العامة إلا في إصدار البيانات التي لا يتورع بعضها، بكل جسارة، عن دك مواقع العدو الصهيوني؛ فسبحان الحي الباقي. وتذكّرني بيانات الدك تلك بالبيانات الزائفة التي كانت تُطبع في مخيم برج البراجنة أو في مخيم مار الياس في بيروت عن العمليات العسكرية “الباهرة” لِـ”قوات عمر المختار” في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2004)، وكانت غايتها الوحيدة إرضاء العقيد معمّر القذافي واستدراج كرمه، واستحلاب نقوده. وما يثير الأسى أن الحركة الوطنية الفلسطينية التي لها تاريخ طويل في النضال الوطني، وفي الواقعية الثورية أيضاً، قد انتهت إلى واقع استنقاعي حيث السلطة الفلسطينية قليلة الحيلة وكثيرة المراوحة والسكون، فيما المعارضون لها تغمرهم، بنسب متفاوتة، الشعبوية والغوغائية. وهؤلاء لا تعنيهم فكرة حماية الشعب من الإفناء قط؛ فكلما زاد عدد الشهداء شعروا بالنشوة أكثر. ثم إن هؤلاء أنفسهم لا يقيمون أي اعتبار للتفكير السياسي وحسابات القوة. وفوق ذلك، ساهمت السياسات الفلسطينية الحالية، بجوانبها المتعددة ووجوهها المختلفة، بنصيبها في ما آلت إله أوضاع الفلسطينيين، وفي إجلاسهم على سكة الكوارث، أو على الأقل إعاقتهم عن اكتشاف مشروع وطني جديد يستند إلى وسائل نضالية متجددة.
هنا، في هذا الميدان، عجز الفلسطينيون، بعد سنة 1982، عن تطوير مؤسسة وطنية جامعة قادرة على التصدي للاحتلال الإسرائيلي. وأقصد هنا بالتحديد منظمة التحرير التي لم تتمكن، لأسباب كثيرة، من أن تضمّ إليها جميع المنظمات خصوصاً حركتي حماس والجهاد، ولم تستطع أن تصوغ برنامجاً يتلاءم وشروط الحقبة السياسية التي نعيش تفصيلاتها يوماً بيوم، كأننا أمسينا كحامل المناديل الذي يلوّح بها عند محطة القطارات، بينما المطلوب أن نقف في المحطة لا لنلوّح بالمناديل، بل لنصعد إلى القطار الذي سينقلنا إلى تحقيق إنجازات سياسية منتظرة. ومن البديهي القول إننا على أبواب حقبة جديدة، وهي ليست حقبة عابرة، بل حقبة ستمتد في الزمن، ومن غير الممكن البقاء لابثين عند الرؤية الفلسطينية التي صيغت قبل خمسين سنة، أي منذ برنامج النقاط العشر (1974)، الذي يتضمن حل الدولتين.
لا ريب أن من بين أسباب الانقسام الفلسطيني، عدا الأسباب الذاتية، وهي كثيرة جداً، أسباباً موضوعية، في مَقدمِها قوة الدولة الإسرائيلية وتفوقها العسكري ومشروعها الكولونيالي وقدرتها على التأثير المباشر في تفتيت البنى السياسية الفلسطينية، المنقسمة أصلاً، والمتردية في فاعليتها. وعلاوة على ذلك، كان للجماعات السلفية الجهادية شأن كبير في صرف الجهد العربي عن قضية فلسطين إلى قضايا أخرى كالخلافة والرئاسة، وطرائق تطبيق الشريعة مثل النكاية والإنهاك والتمكين وغيرها. ولا شك في أن صعود تلك الجماعات تزامن بقوة مع صعود اليمين الشعبوي في العالم كله ابتداء من العام 1979 على الأقل. واليوم ها هو دونالد ترامب، علاوة على سموتريتش وبن غفير، يبرز أفضل ممثل لذلك اليمين الفوضوي. ويبدو أن اليمين “الإسلامي” يغمرنا، نحن العرب، من أعلى رؤوسنا إلى أدنى كعوبنا. ومن مخلوقاته العجيبة المجموعات الطائفية في العراق واليمن ولبنان، والجماعات القاعدية في سورية وليبيا والجزائر والصومال. وكثيراً ما كنا نعتقد أن فلسطين، والنضال في سبيل قضية فلسطين، يغيّران السياسات بما في ذلك سياسات السلفيات الفلسطينية. لكن ذلك الاعتقاد لم تؤيده مواقف القوى السلفية العربية التي كانت تردد دائماً أن قضية فلسطين ليست قضيتها المركزية، بل إنها واحدة من مشكلات المسلمين في العالم كقبرص والملايو والفيليبين مثلاً. وكان لهذا الكلام تأثير غير قليل في وعي الفلسطينيين أنفسهم. وما زال الخطاب السلفي الفلسطيني، قديمه وجديده، لا يقيم أي احتراس لتجنب عملية الإفناء الإسرائيلية. والإفناء أخطر من الإبادة، لأن مفهوم الإفناء نفسه يتضمن الإبادة بالضرورة، وفوقها الطرد ومحو الماضي وتدمير الحاضر. والمثال الأثير لدى الشعبوية الفلسطينية هو الجزائر التي لا يكف هؤلاء عن ترديد قصة المليون ونصف المليون شهيد. ومع أن هذا الرقم ليس علمياً تماماً (كان الرئيس جمال عبد الناصر أطلقه بُعيد انتصار الثورة الجزائرية)، فإن الرقم المقبول هو 800 ألف شهيد (ربما يكون المليون ونصف المليون شهيد قد سقطوا بين 1830 و1962). ومع ذلك يمكنني الاستطراد في الكلام بالقول إن المليون شهيد جزائري حققوا الاستقلال الناجز، بينما الستون ألف شهيد فلسطيني وأزيد، الذين يعادلون أكثر من 400 ألف جزائري بحسب النسبة والتناسب في عدد السكان، لم يحصلوا على الاستقلال والتحرّر من ربقة الاحتلال الإسرائيلي. لنتذكر مجزرة سطيف في 8/5/1945 التي ذهب ضحيتها نحو 45 ألف جزائري. آنذاك لم يعلن الجزائريون النصر، بل راحوا يتحدثون عن إبادة المدنيين، وهذا يكفي ليجلل العار هامات المستعمرين الفرنسيين.
لا نريد أن نصنع أوهاماً كالقول إن إسرائيل هُزمت لأنها لم تحقق أهدافها التي أعلنتها في بيان الحرب. هذا الكلام الذي يهرُّ من الأفواه هنا وهناك يُذكرنا بالزجليات السورية التي كان يشدو بها بعثيون كثر بعد هزيمة 1967، وكانت تعلن أن إسرائيل فشلت في الحرب لأنها لم تستطع إسقاط النظامين التقدميّين في مصر وسورية. وبما أن النظامين لم يسقطا، فإن إسرائيل تكون قد فشلت، بل هُزمت حتماً. وفي السياق نفسه، ثمة تفشٍّ للأحاديث عن قرب زوال إسرائيل. وينسب بعضهم إلى المؤرّخ إيلان بابه قوله في محاضرة له في حيفا في كانون الثاني/ يناير 2024، إن نهاية إسرائيل تقترب، وهو ما اضطرّه إلى الإيضاح بأنه لم يقل البتة إننا أمام نهاية قريبة لإسرائيل ولا لمشروعها الاستعماري الكولونيالي، بل قال إن عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 قد غيّرت إسرائيل في العمق، وستغير المنطقة العربية.
تبدو صورة أحوالنا، نحن العرب، مكفهرة تماماً: الضفة الغربية تخشى من انتقال الدرس الغزّي إليها، ومخيماتها تخاف من الترانسفير أيما خوف، وهو ما قد يحدث في أي لحظة. وما تفعله إسرائيل في مدنها ومخيماتها من تدمير وتجريف إنما هو تمهيد لضم أجزاء واسعة منها، وجعل حل الدولتين مستحيلاً. وكيف يكون حل الدولتين ممكناً وفي القدس الشرقية وحدها 230 ألف مستوطن، وفي مستوطنات الضفة الغربية نحو 620 ألف مستوطن آخر؟ وقطاع غزّة الذي سيدخل إليه قريباً 60 ألف بيت متحرك (كرافان) و200 ألف خيمة، ما يعني أنه صار مخيماً كبيراً ممتداً من بيت حانون حتى رفح، ستكون صورته أناساً يتزاحمون يومياً على الماء والمحروقات والمواد الغذائية والملابس والمدارس والمواصلات، علاوة على الخوف من استباحة إسرائيل أجزاء منه مجدداً. وسورية التي هي درّة المشرق العربي تبدو كأنها تسير وحدها، أو بالقدرة الخفية، ولا أحد يستطيع أن يرصد مستقبلها القريب. وها هي إيران ينحسر تمددها الذي طال منذ سنة 2003 (سقوط نظام صدام حسين) حتى 2024 (سقوط النظام البعثي). وكذلك تبدو روسيا كأنها تنسحب من الشرق الأوسط كله في ما لو فككت قاعدتيها في طرطوس وحميميم في سورية، وانصرفت إلى معالجة جروحها في أوكرانيا. وعلى التخوم تضع تركيا خططاً أمنية خطرة في شمال سورية (الأكراد والتركمان والأحزمة الأمنية)، وتتمدد إسرائيل في الجولان حتى التلال الغربية لدرعا والقرى السورية عند سفوح جبل الشيخ، فضلاً عن احتلال قمته.
لقد وصف عزمي بشارة في افتتاح منتدى فلسطين السنوي الثالث (25/1/2025) الوضع الفلسطيني كمن يسير في نفق بلا ضوء. أي أننا نمشي ولا نعرف أين نضع خطواتنا المتعثرة. وفي هذه الحال لا بد من قدح الشرر لإنارة العتمة. فمن يتصدّى لهذا السديم الذي يعيق الرؤية؟ في هذا العماء يصبح الكلام على النصر والهزيمة، بحسب عزمي بشارة، بلا قيمة. والمؤكد أن من بين المهمات العاجلة للنخب الفلسطينية المعنية بمصير شعبها إنارة المصابيح في ذلك النفق، وإزاحة الغبار والسديم عن أبصار الأجيال الجديدة التي تتصاعد أصواتها في كل يوم كتعبير عن الهوية المثلومة. وسيكون على المؤتمر الوطني الفلسطيني (في الدوحة، 17 و18 و19 شباط/ فبراير 2025)، وضع رؤية سياسية جديدة تأخذ في الحسبان تحولات الواقع السياسي الفلسطيني. ولا شك في أن المؤتمرين يتطلعون إلى تآلف الجميع لتشكيل قوة ضغط وطنية لترشيد القرار السياسي من دون أي هيمنة أو استئثار أو استبعاد. والغاية هي المساهمة في إعادة بناء منظمة التحرير وتحريرها من سكونيّتها وترسيخ حضورها. وجميع الإنجازات المتحققة في الماضي ستتآكل إذا لم يسارع أصحاب القرار الفلسطيني، ومعهم وإلى جانبهم هذا النفر من الوطنيين الفلسطينيين، إلى التوصل لبرنامج سياسي مشترك يتيح استمرار النضال في المرحلة المقبلة على أسس مستجدة، وبرؤى سياسية جديدة، وبوسائل كفاحية متجدّدة تتجنب، بقدر الإمكان، احتمالات إفناء الشعب تحت أي ذريعة؛ لا بل تجهد لحماية الناس من تغول إسرائيل وفاشيّتها وعنصريتها وانتقامها. فهل ينجح المؤتمرون في ما انتدبوا أنفسهم إليه؟ إخال أنهم سينجحون لو أسعفهم الواقع أو رغماً عن الواقع. لكن الوقائع قاهرة على ما يظهر في الآفاق.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 14 فبراير 2025
Leave a Comment