محمد قدوح
بيروت 4 شباط 2025 ـ بيروت الحرية
قبل دخول وقف اطلاق النار حيز التنفيذ بعد حربي عامي 2006 و2024 كان أهالي الجنوب يحتشدون على ابوابه لينطلقوا نحو بلداتهم وقراهم، رغم معرفتهم بحجم المخاطر والمعاناة التي تنتظرهم. وبالتالي ليس غريبا أن يحتشد الأهالي في نقاط قريبة منها، أو على مداخلها مع انتهاء مهلة الستين يومً المحددة موعدا للانسحاب الاسرائيلي من هذه البلدات، وفقا لنص قرار وقف اطلاق النار. كانوا مندفعين نحوها، ليس فقط تعبيرا عن اشتياقهم إلى إلفة غرف بيوتهم وساحات دورهم، بل أيضا للبحث عن جثامين أبنائهم الشهداء واحتضانهم، وهو امر لا يمكن لأحد أن يطلب منهم الإلتزام بقرار تمديد بقاء قوات العدو الصهيوني في بلداتهم لغاية 18 شباط، وهم الذين لم يعرفوا به أصلا.
لقد انطلقوا دون الإلتفات إلى الوراء، وكانوا يتلمسون الطريق التي توصلهم الى ربوعهم، أو إلى جثامين ابنائهم التي لا تزال تحت الأنقاض، من خلال آثار دمائهم التي ترطبت بدموع الأمهات. لم يعبأوا بالمخاطر المحتملة وتابعوا المسير نحو وجهتهم ولسان حالهم يقول: الأرض لنا بما ومن فيها وعليها.
بدأ التحضير للعودة إلى هذه البلدات قبل ايام من انتهاء مهلة الستين يومآ بدعوة من البلديات، والتي تضمنت الطلب من الأهالي التجمع في توقيت محدد وفي نقاط محددة، وانطلقوا صباح الأحد 26 كانون الثاني نحو بلداتهم. وبسرعة وصلوا وانتشروا بين حاراتها وفي احيائها، وشرعوا في البحث عن جثامين أبنائهم الشهداء وتفقد منازلهم. لكن للأسف فات الجهات الداعية للعودة وضع الضوابط اللازمه لتأمين سلامة الأهالي، ومنها عدم حمل الأعلام الفئوية، وعدم استفزاز القوات الاسرائيلية التي لا تتورع عن ارتكاب المجازر في حق العائدين من المدنيين.
كما أن الأهالي لم يلتزموا بتوجيهات عناصر الجيش اللبناني، ولا سيما الفتية منهم. وهو الأمر الذي ادى في اليومين الأولين إلى استشهاد وجرح حوالي 150 شخصا من المدنيين والعسكريين بالنيران الإسرائيلية.
لقد تدارك الأهالي ما امكن، التحركات والتصرفات التي تعرضهم للخطر، حيث التزموا بتوجهات النقاط العسكرية للجيش اللبناني، مما ادى إلى تراجع عدد الاصابات في الأيام التالية.
الأهالي الذين تمكنوا من الدخول إلى بلداتهم أو إلى احياء منها، تدبروا الحد الأدنى من مقومات البقاء، أدوات التدفئة، نصب الخيم، كما فعل اهالي كفركلا مثلا، وإنارة بعض الشوارع في بلدة عيتا الشعب، حيث تم تركيب 50 لمبة تعمل على الطاقة الشمسية بمبادرة من بعضهم، وتركيب المدافيء في غرف بعض المنازل.
لكن المؤسف أن هبة اهالي البلدات الحدودية لتحرير قراهم من العدو الصهيوني، والتى من المفترض أن تأخذ الطابع الوطني والشعبي الجامع بعيدآ عن الفئوية والحزبية والاستثمار فيها، حاول البعض مصادرتها من خلال رفع الأعلام الحزبية، وتصريحات بعض النواب التي انطوت على محاولة تهميش لدور ومهام الجيش اللبناني المكلف بموجب قرار وقف اطلاق النار بالانتشار والسيطرة على جميع الأراضي اللبنانية.
وبالرغم من هذه المحاولة البائسة، وممارسات العدو الاستفزازية والعدائية للقوى النظامية الرسمية والأهالي، تمكن الجيش اللبناني ومعه الأهالي من الدخول إلى 21 بلدة، فيما لا تزال 12 بلدة محتلة، كما تمكن الجيش اللبناني من خلال حضوره ودوره تأكيد مهمته الوطنية عندما امتزجت دماء عناصره مع دماء الأهالي، وبدا خلال الايام الماضية مدى التفاعل بينه وبين الأهالي، والذي يمكن اختصاره بمشهد الجندي الذي سأل سيدة من عيتا الشعب “لوين يا حجة؟ ” اجابتة:”عالضيعة بدى دوِّر على ابني الشهيد” فرد عليها الجندي:” ابنك هو أخي وانت مثل امي واخاف عليك “هذا التفاعل هو بمثابة اعلان لمعادلة جديدة هي ثنائية الجيش والشعب.
من الأهمية بمكان في هذا السياق القول لفريق من اللبنانيين الذين يستندون على ما حققتة اسرائيل ضد حزب الله لاستنهاض وتغيير المعادلة السياسية الداخلية، إن موقفهم هذا يجعل من الصعب تثبيت معادلة الجيش والشعب، ويفتح الصراع الداخلي على مسارات أهلية مدمرة للقضية الوطنية ولاستعادة الجنوب من براثن الاحتلال ومخالب سلاحه وآلة حربه.
الجنوب واهله والشعب اللبناني كله تحمَّل كلفة مغامرات البعض وفساد الطبقة السياسية كلها. إن هؤلاء يستحقون وقفة تأمل من الجميع، والاحتكام للغة العقل لا إلى المصلحة الطائفية والحسابات الفئوية التي تقود إلى خسائر صافية للجميع. فلتكن عودة أهالي البلدات الحدودية إلى قراهم وبلداتهم تثبيتا لدور الجيش في حماية الشعب والدفاع عن أرض الوطن، والبدء بإعمار ما خلفه العدوان من دمار، كمدخل لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها تعبيرا عن وحدة الشعب في مواجهة غطرسة العدوان وآلة حربه.
Leave a Comment