سياسة صحف وآراء

سوريا: المرشد يستدعي “أشرف الناس”

  * محمد قواص

تتعثر السرديات في إيران في شرح الموقف الحقيقي بشأن سوريا. تقول المصادر إن الرئيس مسعود بزشكيان هدّد بتقديم استقالته (وقيل إنه قدمها فعلاً) احتجاجاً على منطق دولة تكبّل أيدي رئيسها. تسعى المنابر الرسمية إلى ارتجال مواقف تتراوح ما بين مرونة وزارة الخارجية وشدّة جنرالات الجيش و”الحرس”. بالمقابل يعيد المرشد، علي خامنئي، تدوير مواقف ضد الاستكبار العالمي والتطوّع للدفاع عن ضحاياه. وفيما تَعِدُ طهران بإعادة فتح سفارتها في دمشق، يشنّ المرشد بكل وضوح حرباً على “سوريا الجديدة”.

يستدعي خامنئي في استيائه من “الفوضى” التي حلّت بسوريا “قوة شجاعة وشريفة”. لا يعترف للسوريين بنصر حققوه في إزالة استبداد احتلّ يومياتهم لأكثر من 5 عقود. يدرج الحدث داخل حسابات أميركية إسرائيلية. خسرت إيران نهائياً نفوذها في سوريا وسطوتها على نظام دمشق. يؤكد رجل سوريا الجديد، أحمد الشرع، ذلك، مستنكراً ما استباحته طهران في بلده، مندّداً باستدعاء تاريخ يعود إلى 1400 عام للاقتصاص من دمشق على جرم لم تقترفه.
بدا المرشد حزيناً، يستعين بمكانته لاستنهاض همم خائبة. يواكب “ندبَه” تهديدٌ لوزير الخارجية عباس عراقجي، ينفي الانتصار في سوريا، ويتوعد بأن “المستقبل مليء بالتطورات المثيرة”، فيما محمد جواد ظريف، نائب الرئيس الإيراني، يهوّل بحرب أهلية هناك. تكشف “دمشق الجديدة” عن وجه آخر. يحذّر أسعد الشيباني، وزير الخارجية في الحكومة السورية الانتقالية، إيران ويحملها مسؤولية أيّ عبث ضد بلاده.
ينفي المرشد وجود وكلاء لإيران في المنطقة. وفي السعي للنأي ببلاده عن ميليشيات فرّخت في بلدان المنطقة في خدمة “الثورة” وآليات تصديرها، فإنه يتبرأ من أي علاقة لبلاده بقراراتها، سواء هددوا الملاحة الدولية في البحر الأحمر، أم استهووا قصف بلدان الخليج وقواعد “الاستكبار” في المنطقة، أم طاب لهم زرع خلايا الشرّ في البلدان القريبة جداً والبعيدة جداً. يستكثر المرشد على الأمين العام لـ”حزب الله” الراحل في لبنان الفخر بتقديم نفسه وحزبه جنوداً في خدمة الوليّ الفقيه.
يشنّ خامنئي حربه ضد “سوريا الجديدة”. يحرّض عليهم “أشرف الناس” الذين عرفتهم المنطقة، يتوالدون على مرّ العقود التي شاخت بها الجمهورية الإسلامية. كانت حشود من تلك الفئات ظهرت، وتتوجه من العراق إنقاذاً لنظام دمشق، قبل أن يحررها من يسميهم خامنئي “محتلين لمناطق سيتم تحريرها من قِبل الشباب السوري الغيور”. لم ترَ فصائل العراق في سوريا إلا خطراً داعشياً قادماً من الغرب، فيما يُنقل عن “حزب الله” في لبنان انتشاره في البقاع صوناً لقراه من تمدّد “داعش” القادم من الشرق.
لم يعد لتلك البضاعة سوقاً حتى داخل البيئات التي تناصر جنود ولاية فقيه. أخبرنا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن طائرات روسية أجلت 4 آلاف من العناصر الإيرانيين إلى خارج سوريا. يخبرنا أيضاً أن آلافاً من العناصر التي قدمت من لبنان عادت أدراجها إثر سقوط حمص وتقدم مقاتلي “هيئة تحرير الشام” صوب القصير ليس بعيداً من الحدود. ما نعرفه أن إيران ونظامها الحليف في دمشق وفصائلها التابعة في سوريا غادروا سوريا إلى غير رجعة، فيما وزارة الخارجية الإيرانية تعلن بكل آداب الديبلوماسية والتخاطب بين الدول أنها تسعى لإعادة فتح السفارة الإيرانية في دمشق.
لم تعترف إيران رسمياً بالتحوّل السوري، وتُخضع خطابها لواقعه. يعتبر رأس السلطة الأول في إيران أن الأمر “فوضى” عارضة سيتولى أمرها “الشرفاء”. بالمقابل، اعترف رأس السلطة الأول في روسيا سريعاً بالتحوّل وبدا، ولو بالظاهر، أنه لا يعانده. أطلق بوتين على الحكام الجدد وصف “الشركاء” الذين تتخاطب معهم موسكو لترتيب العلاقة مع دمشق. بادله الشرع في دمشق أصول البلاغة في علاقات الأمم. وصف علاقة سوريا بروسيا بالتاريخية والاستراتيجية، رافضاً ضمناً الضغوط التي تُمارس من الخارج لنقض ذلك.

أمام قادة إيران أيام صعبة. فقدوا أوراقاً راهنوا عليها بأكلاف عالية في غزّة ولبنان وسوريا. لم تبقَ إلا ورقة الحوثيين في اليمن يدفعون بها هذه الأيام إلى الحدود القصوى. بدت صواريخ الجماعة اليمنية ضد إسرائيل توجيهاً إيرانياً. تجهد طهران لإبعاد الكأس المرّة عن فضائها، ونجحت بجدارة خلال العقود الأخيرة في دفعه باتجاه الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين. تخاطب طهران دونالد ترامب القادم إلى البيت الأبيض بما تملكه من نفوذ يمني لإغلاق ملف البحر الأحمر وفتح أبواب الصفقة التي وعد بها معها. تعوّل إيران كثيراً على تعويذة تحافظ على جمهورية الولي الفقيه لعلّ فيها ما يحقق نبوءة مرشدها في استدعاء “أشرف الناس” إلى سوريا من جديد.

*    نشرت في جريدة النهار بتاريخ 26 كانون الاول/ ديسمبر 2024

Leave a Comment