زكـي طـه
بيروت 21 كانون الاول 2024 ـ بيروت الحرية
“لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى الانتصار في الحروب، ما تحتاجه بكل بساطة هو إغراق الآخرين في الفوضى، بحيث لا يمكن لهم إنتاج ما يكفي من القوة لتحدّي هيمنتها”
تختتم المنطقة مرحلة امتدت ما يقارب الستة عقود. بدأت في أعقاب هزيمة حزيران 1967، وتخللها محطات وأحداث وتطورات كثيرة. نتائجها الاجمالية هي الوضع الراهن بكل ما يحتشد فيه من آلام وخراب وانهيارات، لم تزل تتوالى فصولاً تدميرية ينفذها الجيش الاسرائيلي في جميع الساحات التي يدعي خوض الحروب على جبهاتها.هذا قبل أن تدخل المنطقة برمتها في مرحلة جديدة، مختلفة كلياً من حيث طبيعة أحكامها، وتشكيلات القوى والدول الفاعلة والمؤثرة في مساراتها القادمة.
لا يوجد خط فاصل بين المرحلتين، بقدر ما تتوجد عوامل اتصال، رغم تغير الاوضاع ووجهة القضايا، في ظل السيطرة الاميركية. ومع تبدل الادوار على الصعيد الاقليمي بالنسبة لكل من ايران وتركيا واسرائيل، وسواها في المدى الدولي. وفي ما خص مآلات الصراع العربي الاسرائيلي ومستقبل القضية الفلسطينية، وأوضاع البلدان العربية المجاورة له، بدءاً من سوريا ولبنان، وما تواجهه من تحديات مستقبلية.
إنها مرحلة جديدة قضاياها كبرى وصعبة، وتحدياتها غير مسبوقة، بالنظر لما هي عليه أوضاع بلدان المنطقة ومجتمعاتها من دمار وخراب وانهيارات. هي نتاج ما سبق من تجارب ومحاولات، وما كان فيها من أخطاء وخطايا، وليس فيها من هو بريء. مرحلة لا يمكن الهروب من موجبات وتحديات البحث فيها، مدخلاً وحيداً لوعي طبيعة أزماتها ومشكلاتها وإشكالياتها وسبل تجاوزها.
إسرائيل أداة سيطرة طليقة اليد
من الواضح أن المنطقة هي امام تبدل نوعي في دور دولة اسرائيل. في ظل وحدة مجتمعها حول أهداف حربها الأخيرة التي رسخت موقعها، وشرعت أمامها ابواب العمل على تصفية القضية الفلسطينية، وتحقيق مشروع اسرائيل الكبرى. مستفيدة مما تحقق لمصلحتها عبر مسار التطبيع العربي تحت راية السلام معها، وبذريعة مواجهة ايران. مستندة في ذلك إلى الدعم المطلق من قبل الإدارات الاميركية المتعاقبة، وإلى مخطط صفقة القرن التي أعدها الرئيس السابق-المقبل، الذي بدأ تنفيذها من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة ابدية لها ونقل سفارة بلاده إليها وتبني ضم الجولان السوري المحتل. وهو العائد لاستلام السلطة مجدداً. والأهم هي نتائج الحرب الحالية التي لم تنتهِ بعد، والتي قررت حكومة اسرائيل أهدافها بالتنسيق مع الادارة الحالية. وغايتها لا تقتصر على هزيمة وتدمير بنية حماس وقوى محور المقاومة التي تقودها ايران، ونزع اسلحتها. بل تتعداها إلى اعادة تنظيم اوضاع المنطقة، عبر السعي لضم قطاع غزة والضفة الغربية، والسيطرة على المزيد من الاراضي في سوريا ولبنان بذرائع أمنية. وصولاً إلى تكريس دورها أداة سيطرة وهيمنة سياسية واقتصادية اميركية على المنطقة. باعتبارها الدولة التي تمتلك القوة العسكرية المؤهلة لهذا الدور، بعد تدميرها جيوش بلدان المنطقة بذريعة المخاطر الامنية، حتى تلك التي اقتصر دورها منذ عقود طويلة، على قمع مجتمعاتها وحماية الانظمة التي تحكمها، وآخرها الجيش السوري.
فشل المشروع الايراني
وتشهد المنطقة لحظة انهيار الدور والنفوذ الايراني، الذي بدأ مع نجاح الثورة عام 1979، وتصاعد مع الاحتلال الاميركي للعراق وتدمير جيشه. ويواجه النظام الايراني الآن تداعيات هزيمة محور “المقاومة”، وخطر انفجار الصراعات بين أجنحته، تحت وطأة تصعيد الحصار والعقوبات المفروضة عليه، بالتزامن مع التهديدات الاميركية والاسرائيلية الزاحفة. وتكاثر التقاريرعن تحضيرات لشن ضربات لا تقتصر على المنشآت النووية الإيرانية، بل تتعداها إلى البنية التحتية الخدماتية، بغية استثارة ردود فعل شعبية ضد النظام. في المقابل تواجه القوى والتنظيمات التي شكلت ايران مرجعيتها وقيادتها، مضاعفات فشل مشاريعها الفئوية وأزمة علاقاتها مع مجتمعاتها، ومفاعيل النتائج التدميرية لمعارك المساندة على أوضاعها وعلى بلدانها.
صعوبات تجديد الدور التركي
هذا وتتابع المنطقة راهناً، محاولة تجديد الدور التركي في بعض ساحاتها. رغم الصعوبات التي تواجه تنظيمات حركة الاخوان المسلمين، بدءاً من تركيا وفشلها في الانتخابات البلدية الاخيرة. وإخراجها من السلطة ومطاردتها في مصر وتونس، وانهيار حكمها في السودان، وفشلها في السيطرة على ليبيا رغم التدخل التركي المباشر، وصولاً الى نكبة حماس والدمار البنيوي الذي وقع عليها وعلى قطاع غزة. تستند محاولة الرئيس التركي أولاً إلى إشكالية بلاده مع المسألة الكردية والطموحات الاستقلالية لتنظيماتها المسلحة في العراق وسوريا، واصلاً في تركيا. وثانيا، الاستفادة من عضوية بلاده في حلف الناتو، لتوسيع نفوذها وتعزيز موقعها في المنطقة، واستباق استلام الإدارة الاميركية الجديدة، بفرض وقائع سياسية لمصلحتها في الاقليم وخاصة في سوريا. ولذلك كان الهجوم الذي نفذته الفصائل الاسلامية المسلحة بإدارة النظام التركي والتنسيق مع اميركيا وروسيا. وقد نجح في أسقاط النظام الذي حكم سوريا منذ العام 1970. وبدأت مرحلة انتقالية مفتوحة على كل الاحتمالات، لا تشكل تكريساً للدور التركي فيها، بقدر ما تضعه امام تحديات صعبة. نظراً لتعقيدات الأزمة السورية، والبنية الاصولية للفصائل المسلحة وانتسابها للاسلام السني الاصولي. وهي التي لا تختزل الوضع السوري بكل ما يحتشد فيه من قضايا وإشكاليات بنيوية مجتمعية متعددة ومتنوعة، تشكل أرضية خصبة لتدخل القوى الخارجية، التي سرّعت حضورها على رافعة شعارات وذرائع تبدأ بحقوق الانسان والاقليات ومشاركة القوى السياسية، وغايتها استغلال مشكلاتها وأزماتها والتدخل في شؤونها.
الشعب الفلسطيني وتبدّل التحديات
يقف الشعب الفلسطيني اليوم أمام نتائج حقبة النضال الفلسطيني التي بدأت في أعقاب هزيمة 1967. ورايتها شعار تحرير فلسطين، على رافعة الكفاح المسلح من الخارج وفي الداخل، والبرنامج المرحلي وخيار حل الدولتين. وأمام النتائج التدميرية للحرب الاسرائيلية التي تعرض لها ولم تنته بعد. وهي التي تشكل نكبة وطنية ومأساة انسانية كبرى، كلاهما أشد وأدهى من نكبة العام 1948. يفاقم خطورتها كارثة تدمير قطاع غزة ومخططات التهجير الزاحفة ومصادرة وضم الاراضي في القطاع والضفة، وتوسيع نطاق الاستيطان. والاعلان عن مشاريع ضم القطاع والضفة الغربية. والاهم والاخطر كان استسهال التفريط بالانجازات الوطنية المتحققة في سياق مسيرة النضال الفلسطيني، والمغامرة بها، بواسطة الانقلاب على الوحدة الوطنية، والامعان في خطيئة الانقسام من قبل حركة حماس، في ظل التلاعب الخارجي والتواطؤ العربي وما تحقق على صعيد التطبيع تحت راية السلام مع اسرائيل.
إنها النتائج والمعطيات التي تضع القضية الفلسطينية امام تحديات مرحلة جديدة،، يواجه فيها الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وقواه الحية، الكثير من الاسئلة حول سبل مواجهة المخاطر الزاحفة التي تهدد وجوده وحقوقه، بدءاً من البرنامج الوطني الراهن، إلى وسائل النضال الممكنة والمجدية لبقاء قضيته حية على ارضه ولدى الشتات الفلسطيني. والعمل على توظيف ما تراكم من دعم وتأييد دولي لقضيته، والسعي لتطويره وتزخيمه. بالاضافة إلى فتح ممرات وقنوات التواصل مع المجتمعات العربية التي تبدلت اولوياتها بحثاً عن ابسط حقوقها في بلدانها وتحديات إعادة بناء الدول في البلدان المجاورة وسواها، التي تواجهها اوضاع مصيرية لا يمكن الاستهانة بها.
وحدة سوريا وخطر تقاسم النفوذ
مع انهيار نظام حكم البعث في سوريا وسقوطه وفرار رئيسه، وسيطرة الفصائل المسلحة المتنوعة والمتعددة على سوريا، تنتهي مرحلة، لتبدأ أخرى مختلفة كلياً، في ضوء ما آلت إليه اوضاع مناطقها. وهي الموزعة، بين الجيش التركي الذي يسيطر شمالاً، وهو في حالة حرب مع المنطقة الكردية المحمية بالقواعد الاميركية، في شرقي الفرات، وعلى الحدود مع العراق تحت راية محاربة داعش. بينما تتواجد القواعد العسكرية الروسية على الساحل الغربي. أما اسرائيل التي سبق وأعلنت ضم منطقة الجولان المحتلة منذ العام 1967، فإنها وفي أعقاب سقوط نظام الاسد، لم تتأخر، أولاً عن نشر جيشها في المنطقة العازلة وصولاً إلى جميع قمم وهضاب جبل الشيخ وفي العديد من القرى السورية، التي تشكل مناطق استراتيجية. وثانياً، عن تدمير جميع اسلحة ومنشآت ومعدات ومرافق الجيش السوري، بذرائع امنية مدَّعاة.
ومع ما تمت الاشارة إليه، وامام ما هي عليه البنية المجتمعية السورية من الانقسامات والتفكك الطائفي والمذهبي، ومعها المسألة الكردية. تتجدد الاسئلة حول المسالة السورية، ومصير الكيان وصيغة وحدته الممكنة، وطبيعة النظام السياسي القادم ووجهة تشكيل السلطة وقضية الديمقراطية، وإعادة بناء الجيش ومهامه في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، ودور الدولة وسبل النهوض الاقتصادي واعادة الاعمار ومشكلات النزوح داخل سوريا وخارجها. وصولاً إلى التعامل مع الانتشار التركي العسكري والقواعد الروسية. إنها عناوين كبرى لقضايا شائكة ومعقدة، لكنها مقررة لمصير سوريا ومستقبل شعبها. وهي برسم قوى مختلف تشكيلات البنية السورية، كما هي ايضاً تحديات ملقاة بوجه الفصائل المسلحة والتنظيمات السياسية بكل انتماءاتها، ومعها النخب الناشطة وبقايا الاحزاب القومية والوطنية واليسارية المتهالكة، والتي باتت من الماضي.
لبنان وصعوبات الانقاذ وإعادة بناء الدولة
على أهمية قضايا الوضع العربي، محاور وبلدان ومجتمعات. وهي التي تتطلب جهداً من المتابعة والرصد لأوضاعها. تبقى الاولوية امام اللبنانيين، قضية لبنان الوطنية بكل ما تنطوي عليه من معضلات وأزمات وصعوبات راهنة ومستقبلية تضع مصير البلد وامكانية بقائه وطناً لجميع ابنائه على المحك.
وفي هذا السياق يمكننا القول، إن لبنان يختتم الآن مرحلة بدأت عام 1968، مع دخول البندقية الفلسطينية تحت راية الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. فيما هو الآن أمام تحديات إنهاء كل السلاح غير الشرعي خارج اطار الدولة بالاستناد إلى القرار الذي التزم به لبنان ووافق عليه حزب الله، وبصرف النظر عن الرايات التي تظلله. الامر الذي يضع حد فاصل مع تلك المرحلة، وكل ما احتشد فيها من قضايا سياسية وطنية وقومية، وفي طليعتها قضية فلسطين. والتي ظللتها جميعا برامج التغيير وشعارات التحرير، رفعتها قوى وتنظيمات، تشكلت بصيغة مقاومات تعددت راياتها ووجهاتها. وقد عرف اللبنانيون خلالها مستويات من الصراعات المحلية والأهلية، رافقتها رهانات كثيرة شرَّعت أبواب البلد أمام اشكال من الوصاية والاحتلال والتدخلات الخارجية. وساد معها التلاعب ببنى البلد الموروثة والمستجدة. ونتج عنها معارك وحروب كثيرة، كان الاخطر فيها ما قامت به اسرائيل مراراً وتكراراً.
لقد تحول لبنان خلال تلك المرحلة، ساحة لصراع الإرادات المحلية والخارجية، ولتبادل الرسائل بين قواها من مواقع التحالف والخصومة والعداء المتبدلة على الدوام. وكان آخرها التجاوز على مصلحته الوطنية، وتعريضه لحرب اسرائيلية مدمرة بذريعة مساندة غزة. وأمام الخسائر البشرية المهولة، والتهجير الجماعي للسكان والتدمير الكارثي في مناطق الجنوب والضاحية والبقاع، وخطر التدمير الشامل، صدر قرار وقف اطلاق النار الذي قررته الإدارة الاميركية. الذي وافقت عليه اسرائيل مقابل ضمانات اميركية تعطيها حق التدخل ضد كل ما تُقرر أنه يهدد امنها من جهة لبنان.
تضمّن اعلان وقف اطلاق النار، آلية تنفيذية للقرار 1701، قضت بإنهاء كل اشكال التواجد المسلح غير الشرعي جنوبي الليطاني، ونشر الجيش اللبناني وقوات الطوارىء الدولية. والعمل على نزع السلاح غير الشرعي في كل لبنان وحصر حق امتلاكه وتصنيعه واستيراده واستخدامه بالجيش والاجهزة الامنية اللبنانية. كما نص ايضاً على تشكيل لجنة متابعة يترأسها جنرال ويشرف عليها مفوض مدني، كلاهما أميركي الجنسية. ما يعني التسليم بوضع لبنان تحت مظلة النفوذ الاميركي المباشر.
وعليه، تبدأ مرحلة جديدة أبرز تحدياتها التزام اسرائيل بالانسحاب وانتشار الجيش وتسليم حزب الله سلاحه الذي صًنف بأنه غير شرعي. في المقابل تنتصب بوجه قوى السلطة مهامات إعادة تكوينها ولتفعيل دور الدولة ومؤسساتها، بدءاً من انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة، تتولى العمل على إعادة تأهيل اجهزة الدولة وتولي مسؤولية إعادة الاعمار والتصدي للانهيار الاقتصادي والنقدي واقرار الاصلاحات المطلوبة، وهي القضايا التي تشكل مدخلاً لفك الحصار السياسي والمالي عن البلد.
وتكمن الضمانة لعدم تجدد الحرب الاسرائيلية التي يهدد بها رئيس ووزراء حكومة العدو، في مدى استعداد حزب الله للالتزام بما وافق عليه، والتسليم بدور الدولة والجيش. وفي موازاة ذلك تحضر اولويات اللحظة الراهنة وتحدياتها الصعبة وغير المسبوقة بالنسبة لقوى السلطة جميعاً. وهي التي تواجه الكثير من الاسئلة حول مدى استعدادها ومنها حزب الله، إلى إعادة النظر بما كان من أداء وممارسات، وهو ليس بالامر الهيِّن. لأن المؤشرات والمعطيات القائمة لا تشي بإمكانية تخليها طوعاً عن مشاريعها وطموحاتها الفئوية، وعن صراعاتها على المواقع والحصص.
هذا ما يؤكده المسار الداخلي المتعثر لمعركة رئاسة الجمهورية، ولا يختلف عنه عسر مسار الالتزام بآلية تنفيذ القرار 1701. وكلاهما مخالف لطموحات أكثرية اللبنانيين، ولكل من يرى في إعادة بناء دولة القانون والمؤسسات طريقاً ومدخلاً للخلاص والاستقرار. وهم الذين يواجهون تحديات المرحلة الجديدة باعتبارهم المعنيين حقاً بمصير البلد ومستقبله. واصحاب المصلحة في بقائه وطن لهم ولابنائهم. ما يعني أنهم مطالبون بتنكب مسؤولية العمل في سبيل الإنقاذ الصعب.
إنها مرحلة جديدة، قضاياها أكثر من أن تحصى. تتطلب الكثير من المبادرات للتلاقي والحوار والبحث الجاد في سبيل التوافق على برنامج الحد الادنى الانقاذي، الذي يخاطب حقوق ومطالب مصالح الفئات المتضررة، مدخلاً لبناء وتشكيل حركة مجتمعية قادرة على فرضها، بقوة مشاركتها في الضغط على قوى السلطة كي تتحمل مسؤوليتها. إنها مرحلة تستدعي التخلي عن اليأس وانتظار الحلول التي لن تأتِ. والأهم مغادرة ادمان طرح الحلول الفوقية التي لا تقدم بقدر ما تؤخر. وعدم الاكتفاء برفع الشعارات العامة واستسهال تردادها، الامر الذي يبقي الجميع خارج القدرة على الفعل في مسيرة الانقاذ والتغيير.
Leave a Comment