سقط الحكم الأسدي بالطريقة التي حكم بها سوريا طوال 54: طريقة جبانة، خسيسة، بلا ذرة من الكرامة. نظام الكراهية سقط مكروهاً، لا يستطيع أحد حتى ممن والوه عمراً أن يقول بحقه كلمة طيبة. وخرجت سوريا من كابوسه المديد مجهدة ومثخنة بالجراح، لكن بقدر من الفخر المستحق: إسقاط بشار وزبانيته دون دم، دون مجازر، دون دمار يذكر، دون انتهاكات مخجلة، مع تصرفات مسؤولة عموماً من قبل الفريق النافذ الجديد. تحرير السجناء والمشاهدة المؤثرة لخروجهم من سجن صيدنايا وغيره، يرجح أن تكون من أبقى الصور في البال لسنوات قادمة. عودة المهجرين من المخيمات، واللاجئين من تركيا ولبنان والأردن، وآخرين من بلدان قريبة وبعيدة تعيد التذكير بجذور أزمة اللاجئين: ليست معاناة أوروبا وتركيا ولبنان وغيرها منهم، بل معاناتهم هم من نظام إبادي في وطنهم. وتحقق هذا التحول الصاعق بأيد سورية أساساً، بعد أن كان صراعنا قد فقد صفته السورية بتسارع بدءاً من النصف الثاني مع عام 2012.
لدينا نهاية عظيمة، هي بمثابة «أمر قطعي» واجب مطلق لا تداخله النسبية. هذه الصفحة الحقيرة من تاريخ سوريا كان يجب أن تطوى منذ أمد بعيد لأنها أبد قاتل بلا نهاية، بلا أفق، بلا أمل. ولدينا اليوم بداية ولدينا أفق. ولدينا مجتمع سوري تسيّس الملايين منه خلال سنوات الثورة الطوال، ويصعب تصور أن يستطيع النافذون الجدد السيطرة فيه على الطريقة الأسدية. الأمر رهن بمقاومات السوريين وحسن تنظيمهم، وليس حصراً بما يريد أي فريق مسيطر. ليس الغرض من ذلك طرح الأمور بصورة ضدية، والمسارعة إلى منازعة العهد الجديد. فالأمر ذاته يبقى صحيحاً أياً يكن شاغلو موقع السلطة العمومية، هذا غير أن لدينا في مسار ما بعد الثورة الطويل ما يبرر ونيف الخشية من أن يتصرف إسلاميو هذا العهد على هذه الصورة الضدية بالذات، فيعتبرون الدولة جائزتهم ومكافأة لهم وحدهم على إسقاط نظام بشار، ويقمعون من يعترضون على ذلك. هناك سلفاً أصوات تقول ما يقارب ذلك.
ثم أن سوريا اليوم تواجه مشكلات كبيرة تحتاج إلى مشاركة واسعة من السوريين، من كفاءاتهم وطاقتهم ومبادراتهم وتطوعيتهم، وبالتأكيد حريتهم في التعبير والتنظيم والاحتجاج، أي بالضبط امتلاك السياسة المحرمة عليهم طوال جيلين ونيف. من أولى هذه المشكلات أن بشار الأسد هرب، لكن الأسدية في صورة تركة ثقيلة من الخراب المادي والاجتماعي، من خراب بشري يتمثل في الاستعداد الرخيص للتزلف والنفاق، مما وجد تعبيره بسرعة في ظاهرة «المُكوِّعين» وفي صورة تطييف الحقل العام، وفي صورة أزمة ثقة وطنية مديدة داخل المجتمع السوري، أوجه الأسدية هذه لا تزال هناك. ولا يبدو بعد ذلك أنه جرى توقيف أحد من كبار قتلة النظام ومديري أجهزة التعذيب فيه. هذا تحد أمني وسياسي وحقوقي من شأن استجابة فاعلة له فقط أن تحقق قدراً من العدالة للسوريين، وتقطع الطريق على المنازع الثأرية المحتملة، فضلاً عن استئناف الإجهاز الواجب على النظام السابق.
وفي المقام الثاني هناك تحديات بيئة إقليمية ودولية متوحشة، على ما تشهد تجربتنا السورية بالذات خلال 13 عاماً وتسعة أشهر، وعلى ما شهدت وحشية إيران وأتباعها، ليس في القتل والاحتلال فقط، بل في التلاعب القذر، الاستعماري النموذجي، بالنسيج الاجتماعي السوري. ثم على ما شهد بصورة غير مباشرة قبل أيام فقط بيان وزراء الخارجية العرب في عمان يوم 14 الشهر الجاري. روحية بيان الجماعة أقرب إلى اشتراطات على الانتقال الجاري وتشكك سلبي حياله منه إلى احتضان ودعم ربما يتوقعهما المرء من أخوة وجيران. الوزراء نسوا أن يحيوا الشعب السوري وأن يقولوا شيئاً عن معاناته الرهيبة. نسوا أن يقولوا شيئاً عن تسليم مجرمي النظام ولصوصه الفارين إلى بلدانهم هم بالذات، أو عن إعادة الأموال السورية المنهوبة، ونسوا قبل كل شيء دعوة أي سوريين ممكنين للكلام على… سوريا. كانت أكثر أنظمتهم قد استخدمت سورية «فترينة» لتخويف لشعوبهم، أما وقد خسروا «فترينة» المعاناة هذه فقد تسلل ما في الدواخل من خوف وقلة احترام إلى سطور للبيان. وكم ينبغي أن يكون المرء وقحاً وقليل الإحساس حتى يتكلم على «حماية الأقليات» مثلما فعل وزير الخارجية الأمريكية في مؤتمر الوزراء العرب (وقبله ممثل ألمانيا إلى سوريا) حين لم يقل الرجلان يوما كلمة واحدة، عن حقوق غير الأقليات، أو عن المواطنة والمساواة في المواطنة في سوريا. مبدأ حماية الأقليات لا ينفتح على ديمقراطية ومواطنة ومساواة، بل حصراً على ضمانات دولية خاصة للأقليات، تترك دولاً مثل أمريكا وألمانيا وفرنسا وروسيا في موقع المتدخل الدائم ضد الأكثرية المحاصرة في موقع المشتبه بها كقوة شريرة متوحشة. هذا مبدأ استعماري، وله تاريخ عريق منذ أيام المسألة الشرقية. وليس له من تحقق سياسي غير الحكم الأسدي أو ما يعادله.
على أن أكثر ما يكشف مدى توحش البيئة الإقليمية والدولية هو مسارعة إسرائيل يوم سقوط بشار الأسد إلى احتلال أراض سورية جديدة، وتدمير معظم مقدرات الجيش السورية الباقية التي لم تدمرها حرب بشار الأسد الطويلة. فإذا كان قد بدا لنا طوال سنوات أن الحكم الأسدي استمرار للكولونيالية بأيد محلية، فإننا نرى اليوم كيف أن الاستعمار الإسرائيلي استمرار صريح للأسدية: ما إن توقف بشار الأسد وحماته من الإيرانيين والروس عن القصف والتدمير في سوريا حتى تولت إسرائيل المهمة، وليس ضد مصالح إيران وميليشياتها، بل ضد مصالح وطنية سورية حصراً. وهو ما يظهر ليس فقط تعارض مصالح إسرائيل مع فرص سورية في إقامة نظام سياسي قابل للحياة، دع عنك نظاماً ديمقراطياً، ويظهر للمرة الألف الشرانية الجذرية لهذا البلاء الإسرائيلي المقيم.
وليس لدينا رغم كل ذلك غير هذه البيئة الإقليمية والدولية الجافية، التي لا يستطاع الانعزال عنها وإن كان لا يؤمن لها. قد يكون المسلك الأقل سوءاً تفاعلا إيجابيا حذرا، دون استعداء بالتأكيد، ودون رضوخ لها.
سوريا ما بعد الأسدية بلد ضعيف، وتحتاج إلى ممارسة سياسة الضعفاء: السعي وراء ما يتيحه القانون الدولي والمؤسسات الدولية من حمايات، العمل على تمتين النسيج الداخلي المتهتك كي لا يكون مدخلاً لأعداء متنوعين، بسط الأمن في الداخل وتعهد الخدمات والعمل على تطوير الاقتصاد، الاعتناء بتوسيع دوائر الحلفاء والداعمين في العالم وفي الإقليم. ليس للضعفاء أن يعتمدوا سياسة قوة تؤول بهم إلى الإرهاب، وخبرة المنحدرين من تيار السلفية الجهادية توفر كل ما يلزم من أمثلة لإثبات ذلك. وليس لهم بالمقابل الاستسلام لضعفهم لأنهم سيؤكلون سريعاً في غابة الوحوش. هذا الزمن الانتقالي هو زمن السياسة كفن، كحصافة وحسن تصرف وتقدير سديد، كدهاء وسعة حيلة وحسن تَخَلُّص.
يبقى أن هناك مشكلة بنيوية متصلة بالتعارض بين التكوين الإسلامي السني للفريق الحاكم الجديد والوطنية السورية الجامعة. ولا يحل التعارض حقيقة أن السنيين السوريين أكثرية السكان، وهي لم تنشأ في سنوات الحكم الأسدي الكابوسية عن كون العلويين ليسوا أكثرية. إنها تنشأ في كل حال من النفاذ التفاضلي إلى الدولة العامة من قبل فريق خاص. وليس في غير الانخراط الأوسع للسوريين في النقاش العام وفي النشاط العام، وتطوير قواعد ومؤسسات عامة استيعابية، ما من شأنه الحد من هذا التعارض، وربما تجاوزه.
* نشرت على موقع القس العربي بتاريخ 18 كانون الاول 2024
Leave a Comment