ثقافة صحف وآراء

 مئة عام مهدورة..

  *   يوسف بزي

على مدى قرن ولد عشرات الملايين ومات مثلهم، هنا في ربوعنا. زُرعت الأرض، وشُيد العمران، وتأسست الدول، وتوراث الناس قصصهم وخبراتهم وأفكارهم. تصارعوا وتصالحوا، ثم أعادوا الكرّة مرات ومرات. أنتجوا ثروات وأهدروا مثلها. أبدعوا وأخطأوا وأحبوا وكرهوا. مئة عام صاخبة، هي أصلاً في السيرة البشرية أكثف وأسرع وأهم قرن في تاريخ الحضارة.

من البذور العظيمة لما سمي “عصر النهضة”، ومن وقائع انهيار الأمبراطورية العثمانية، ومن نتاج الانتصار الباهر للحضارة الغربية وقيمها، ابتدأت شعوبنا بتلمس طريقها، في بناء مجتمعاتها ومؤسساتها وكياناتها السياسية، وصوغ أساليب عيشها وثقافتها.

مئة عام صاخبة بخرائطها وحروبها وثوراتها ونزاعاتها، وآمالها وطموحاتها، كان من المفترض أن تنقلنا من أزمان سلطانية إلى عوالم الدول والمجتمعات الحديثة. فعشرينات القرن الماضي كانت “بدايات” كبرى لإنشاء وإعمار بلداننا، وتكوين هويات سياسية-اجتماعية، وتأليف ثقافة جديدة، ومشاركة العالم في مساراته وقفزاته الهائلة في حقول العلم والاقتصاد والتقانة والتمدن والحقوق والقيم والفنون. وبدت تلك الحقبة واعدة جداً، حين بدأت تتكرس الاستقلالات الوطنية وتتشكل العناصر الأساسية لقيام “الدولة الوطنية”، وتُكتب الدساتير المدنية، وتترسخ مفاهيم الحقوق والواجبات وأسس العدالة والقانون. ابتدأنا بتلقف الحداثة في كل مجالات حياتنا، بل إن تلك الحداثة كانت قدراً لا مفر منه رغم ظهور ممانعات دينية وثقافية.

باشرنا إنتاج الأفلام والروايات والمسرح، واقتناء السيارات. اعتمدنا ملابس عصرية، وتعرفنا إلى “السياحة” والقطار والطائرة، وبدأنا نستمع إلى موسيقات العالم ولغاته. ارتاد شباننا وشاباتنا الجامعات، وخرجت النساء إلى الفضاء العام والعمل.. وتحولت الطبقات الاجتماعية جذرياً، كما في أدوارها ووظائفها. لكن الأهم، هو ولادة “المواطن”. كائن جديد هو مصدر الحكم والسلطة، لا السماء ولا الغيب ولا “السلف الصالح”. كائن يقدم فرديته وحريته وحقوقه المكتسبة على أي اعتبار آخر.

كان ذلك اختماراً وتتويجاً لكل الإرهاصات التي عاشها النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع العشرين. منذ صدمة نابليون والمطبعة إلى تحديثات محمد علي باشا الكبير، ودستور السلطان عبد الحميد، وصولاً إلى المؤتمرات الوطنية والهيئات التأسيسية في بلاد المشرق العربي ومصر.

… وبعد مئة عام، عدنا إلى “البداية”: من كتابة الدستور إلى خروج المرأة. عدنا إلى انتظار ولادة “المواطن”، والسؤال حول مصدر السلطة وحدودها. سؤال الحريات والحقوق والواجبات. وأيضاً، عدنا إلى تأليف الدولة الوطنية ومعنى السيادة والحدود والهوية السياسية، وكأن شيئاً لم يكن.

مئة عام هباء؟ كيف بددنا حيوات وجهود ورصيد عشرات الأجيال؟

ليس فقط أهدرنا مكتسبات حقوقية وكيانية، بل أيضاً ثروات خيالية. اقتصادات ناشئة ونامية انتهت بعد قرن إلى إفلاسات، وإلى الصفر وما دونه.

تحطمت البرجوازيات الوطنية، وانحطّت الطبقة الوسطى، وأدقعت طبقة الفلاحين وتشوهت الطبقة العاملة، وانهارت البيروقراطيات وفسدت.

مئة عام من التعليم انتهت بعمومية الجهل، وسيطرة الأمية. مئة عام لبناء الجيوش لنعود اليوم إلى زمن قطاع الطرق والعصابات والعشائر المسلحة.. وعلى المثال نفسه، عدنا نحاول بناء قضاء ومحاكم وكتابة القوانين إياها التي أنجزناها ثم محيناها أو نسيناها.

أبسط من كل هذا، حقوق الإنسان التي كانت مكرسة في دساتيرنا، حق العمل والمسكن والرعايا..إلخ، وحصانة كرامته وملكيته. كلها مهدورة ونبحث عنها مجدداً.

ما هو المشهد المهيمن اليوم على أرض المشرق العربي؟ ببساطة مرعبة: المقابر الجماعية، السجون القروسطية (وأسوأ)، الدمار الشامل والعميم.

في بيروت كما في دمشق وبغداد، كأننا الآن نسافر بالزمن إلى الماضي، إلى عشرينات المؤتمرات الأولى، لإعادة تعريف أنفسنا، ولنغرق في السجالات إياها في شكل دولتنا وكيف ننتج سلطاتنا، ونحاول رسم حدود أوطاننا وإزالة الاحتلالات، ونناقش علاقة الدين بالدولة وحدود سلطته على الأفراد، كما حقوق التعبير وحرية الضمير والمعتقد. نعود لنتنازع حول “العورات” والنقاب والحجاب وصوت المرأة ووجهها، وسلطة الإنسان على جسده وعقله. عدنا إلى ما ظننا إنه مكتسبات وبديهيات.

لا ندري إن كان ثمة فشل حضاري إلى هذا الحد شهدته شعوب أخرى، أو استطاعت ممارسة هذا التدمير الذاتي إلى أقصاه.

* نشرت بتاريخ 19 كانون الاول 2024 على موق المدن الالكتروني.

Leave a Comment